أسس الإصلاح:
في ظل تلك الظروف والأوضاع التي عليها الأمة الإسلامية تفتحت عينا الشيخ محمد بن عبد الوهاب، وبعد رحلته العلمية التي ذكرناها تفتحت مداركه ونضج مشروعه الإصلاحي الكبير؛ فقد ظل الشيخ طيلة الفترة الممتدة من سنة 1728م حتى سنة 1738م يطوف البلاد ويجتمع مع العلماء والشيوخ، ويشاهد أوضاع المسلمين في المشرق والمغرب، ويتحسس مواطن الداء، وأسباب الخلل، ثم عاد إلى بلدته بنجد وقد بلغ سن الخامسة والثلاثين من العمر، وقد تهيأ في عقله مشروعه الإصلاحي، واختمرت عنده أسس الإصلاح التي سيبني عليها دعوته الإصلاحية وحركته التجديدية، مع حتمية الإشارة إلى أن الشيخ محمد بن عبد الوهاب قد تأثر تأثيرًا كليًا بأفكار وآراء شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله، بل إن الشيخ محمد هو الذي سيحيي مشروع ابن تيمية وسيدخله حيز التنفيذ، ويحقق ما عجز عنه شيخ الإسلام ابن تيمية نفسه رحمه الله، ومن أهم هذه الأسس ما يلي:
التوحيد: الذي جاء به الرسول صلى الله عليه وسلم، وفرق الله عز وجل به بين الكفر والإيمان، وعصم به الدماء والأموال والأعراض، ودعا الناس كلهم إليه وحاربهم عليه، ولاقى المحن والشدائد من أجل نشره وإظهاره، التوحيد الخالص من كل شوائب الشركيات والجهاليات والخرافات، التوحيد الصافي النقي، الذي ينفع صاحبه في الدنيا والآخرة، حيث وجد الشيخ محمد بن عبد الوهاب أن المسلمين قد غلبت عليهم الخرافات والشركيات وصاروا أبعد ما يكون عن التوحيد الصحيح، ووقعوا فريسة للدجل والبدع مما أضعفهم، بل وأخرجهم من زمرة المسلمين بالكلية، وبالتالي سلط الله عز وجل عليهم عدوهم من أنفسهم والشيطان وغير ذلك، وأن هذا الانحراف الذي أصاب عقيدة المسلمين وحاد بهم عن طريق التوحيد الخالص كان على رأس الأمراض والأدواء التي أصابت الأمة وأدت إلى تخلفها وضعفها، وبالتالي لابد من نشر التوحيد الصحيح ونبذ كل البدع والشركيات من حياة المسلمين، وتطهير الدين مما علق به من أدران الجاهلية الأولى.
الجهاد: وذلك ضد كل مظاهر الخروج على الدين الصحيح، وكل ما يقدح في عقيدة المسلم وتوحيده الخالص، وإزالة كل مظاهر الشرك والخرافة من حياة المسلمين، وذلك ليس في بلاد نجد وحدها ولكن في كل بلاد الإسلام، حتى يعود الدين كله لله عز وجل، أي الجهاد من أجل نشر الإصلاح والدعوة، والشيخ محمد بن عبد الوهاب بهذه النقطة وبهذا الأساس قد حوَّل أفكاره وأفكار ابن تيمية لواقع عملي حقيقي، وبذاك الجهد والجهاد حققت حركته الإصلاحية نجاحًا كبيرًا، وتحولت من حركة ودعوة إصلاحية إلى دولة وكيان قوي استطاع من خلاله نشر العقيدة الصحيحة في أرجاء المعمورة، وتطبيقًا لهذا الأساس فقد دعا الشيخ محمد بن عبد الوهاب وشارك بنفسه في هدم القباب والمشاهد والأضرحة وقطع الأشجار والنخيل الذي يتبرك به، وأرسل السرايا والجيوش إلى الحجاز والعراق للقضاء على مظاهر الشرك والخروج على الدين، وأقام الحدود على أصحاب الجرائم.
الاجتهاد: حيث دعا الشيخ إلى فتح باب الاجتهاد ونبذ التقليد والتعصب المذموم الذي أورث الأمة العداوة والشقاق وفساد ذات البين، والرجوع مباشرة إلى المرجعية الأولى ـ الكتاب والسنة ـ ومصادر الشريعة المجمع عليها، مع احترام اجتهادات علماء الأمة من الأئمة الأربعة وغيرهم من سلف الأمة، ولكن لكثرة الوقائع والمتغيرات التي تواجه المسلمين، وكثرة الحوادث عليهم، جعل الأمر يتطلب بل ويتوجب إلى فتح باب الاجتهاد في الدين لمن ملك أدواته واستوفى شروطه، لمواكبة حاجات المسلمين المتجددة ونوازل العصر المتتابعة.
رحلة الكفاح والمحن:
كانت الجدية والثبات على المبدأ والصبر على المكاره واحتمال الأذى في سبيل ما يعتقد ويدعو إليه هي أهم شمائل وصفات الشيخ محمد بن عبد الوهاب، وكذلك سائر المصلحين والمجددين، فالأهداف عظيمة والطموحات كبيرة والعوائق كثيرة والطريق طويل وموحش، لذلك كان من الطبيعي جدًا أن تكون المحن والابتلاءات على نفس المستوى مع الأهداف والطموحات. وكما قال الشاعر:
إذا النفوس كن كبارًا تعبت في مرادها الأجسام
وهذه هي رحلة الشيخ محمد بن عبد الوهاب رحمه الله نحو تحقيق مشروعه الإصلاحي وإحياء معالم الدين الأولى مرة أخرى وما جرى فيها من فعاليات ومحن وابتلاءات، ولا نستطيع أن نستوعب فعاليات حياة الشيخ ومحنه كلها، ولكن نقف عند أهم المحطات في مسيرة الشيخ وعطائه الدعوي وجهاده الإصلاحي، وما تعرض إليه من محن في كل محطة.
محنته في البصرة:
خرج الشيخ في رحلة علمية كعادة طلاب العلم إلى الحجاز وبها أقام عدة سنوات، ثم رحل إلى البصرة ليطلب العلم من مشايخها، وظل بها أربع سنوات يدرس اللغة والحديث على يد الشيخ محمد المجموعي، وخلال إقامته بالبصرة رأى أهلها وأغلبهم من الروافض الإمامية غارقين في البدع والشركيات، فسأل شيخه عن ذلك، فأفتاه بالتحريم والإنكار لما يفعلونه فأخذ الشيخ في الإنكار على أهل البصرة ونهيهم عن مظاهر الشركيات المنتشرة بينهم واشتد عليهم في ذلك، ويرد على شبههم، ويدحض أباطيلهم، حتى ضاقوا به ذرعًا واجتمع رؤساء الشيعة الإمامية في البصرة عليه وآذوه أشد الأذى، ثم أخرجوه منها وقت الهجيرة، وضربوا شيخه محمد المجموعي أيضًا.
فلما خرج الشيخ من البصرة كان الوقت شديد القيظ، فسار وحده في حر الظهيرة حتى اشتد به العطش وقد تعمد الروافض إخراجه في هذا الوقت بلا زاد ولا ماء ولا دابة، ليهلك عطشًا بالطريق إمعانًا في إيذائه، حتى غشي عليه وأشرف على الهلاك، فقيض الله عز وجل له من ينقذه وهو رجل اسمه أبو حميدان من أهل منطقة الزبير، أدركه وهو يجود بنفسه، فحمله على حماره وسقاه وأصلح حاله، ثم قام بتوصيله إلى منطقة الزبير.
محنته في حريملاء:
بعد أن أنهى الشيخ رحلته العلمية والتي تبلورت خلالها الأسس والأفكار التي سيبني عليها الشيخ دعوته الإصلاحية وحركته التجديدية، عاد إلى منطقة نجد، لتكون نقطة انطلاق وخط البداية لدعوته المباركة، ولكنه لم يعد إلى "العينية" مسقط رأسه، بل عاد إلى بلدة "حريملاء"، والسبب في ذلك أن أباه القاضي عبد الوهاب بن سليمان قد انتقل إليها وتقلد قضاءها، فلما وصل إليها أخذ في الدعوة إلى التوحيد الصحيح ونبذ البدع والخرافات والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، خاصة في باب الشركيات المنتشرة في المنطقة.
لم يعجب هذا النشاط الدعوي الكثير من الجهال وسدنة الخرافة وحراس البدع، فأخذوا في تأليب الناس ضده وضد ما يدعو إليه، حتى أن أباه القاضي عبد الوهاب خاف عليه أن يفتك به أحد هؤلاء الجهلة المبتدعين، فأخذ عليه العهود والمواثيق المغلظة ألا يدعو لأفكاره ودعوته تلك، وكان ذلك الأمر من جملة المحن التي تعرض إليها الشيخ، إذ كيف يرى المنكر ولا ينكره، ويرى الجهل والخرافات والشركيات مطبقة على حياة المسلمين ولا ينهض لإزالتها، كيف لا ينشر التوحيد الخالص وينقذ هذه الجموع الغفيرة من هاوية الضلالات والشركيات.
ظل الشيخ محصورًا ممنوعًا من الدعوة والحركة طيلة سنتين كاملتين حتى توفي والده عام 1153هـ ـ 1740م، بعدها انطلق الشيخ كالنجم الثاقب والإعصار الهادر يدعو إلى التوحيد الصحيح ونبذ الخرافات والشركيات، وأعلن عن بنود دعوته، واشتد في الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، فاستجاب لدعوته العديد من أهل حريملاء، وهذا الأمر لم يعجب الفساق والمفسدين في البلد، وكان في المدينة رهط من العبيد يقال لهم: الحميان، يغلب عليهم الفسق والتعدي، فأراد الشيخ أن يمنعهم من الإفساد في الأرض، فتآمروا عليه وقرروا قتله ليلاً والناس نيام، وبالفعل تسوروا عليه جدار داره، ولكن الله عز وجل الذي يدافع عن المؤمنين، ويحفظ عباده الصالحين، كشف خبرهم، وذلك عندما رآهم بعض جيران الشيخ، فصاحوا بهم، فهربوا قبل تنفيذ الجريمة وهم يضمرون معاودة الكرة إذا سنحت الفرصة.
لم يفت ذلك التآمر في عزيمة الشيخ ومضى في دعوته، ولكنه شعر أنه يبذل جهودًا ضخمة في حين الاستجابة ضعيفة، والإعراض والصدود لدعوته يزداد يومًا بعد يوم، فقرر أن يخرج من هذه القرية الظالم أهلها، ليبحث لدعوته عن ساحة جديدة وبيئة صالحة لأفكاره فخرج من حريملاء متجهًا إلى مسقط رأسه بلدة "العينية".
محنته في العينية:
انتقل الشيخ إلى العينية ورئيسها يومئذ عثمان بن معمر، فتلقاه وأكرمه وزوجه من بنت عمه ودخل في دعوته وأعلن عن تأييده الكامل له، فأخذ الشيخ محمد يدعو إلى التوحيد بكل قوة وانتقل إلى الأساس الثاني في دعوته وهو الجهاد ضد البدع والخرافات، وإزالة المنكر بالقوة بعد توافر السلطة اللازمة لذلك، فقطع عدة أشجار كانت معظمة عند أهل العينية ثم انتقل بجهاده ضد الشركيات إلى خارج "العينية" حيث قاد كتيبة مكونة من ستمائة رجل على رأسهم رئيس العينية "عثمان بن معمر"، وقام بهدم القبة المزعومة على قبر زيد بن الخطاب رضي الله عنه، والتي عند قرية "الجبيلة" وقد حاول أهل الجبيلة منعهم ولكن لما رأوا إصرار الشيخ يهدم القبة بنفسه ولوحده لخوف الناس الذين تغلغلت الخرافات في أنفسهم من أن يصيبهم أذى إذا هدموا القبة، وقد تربص جهال البدو وسفهاؤهم ما يحدث للشيخ بسبب هدمها في الصباح، فإذا هو مصبحًا في أحسن حال.
وبعد ذلك أتت امرأة إلى الشيخ واعترفت عنده بالزنا وتأكد الشيخ من صحة فعلها وسلامة عقلها، فأمر بها فرجمت وقد اشترك أهل العينية في رجمها، فعظمت دعوة الشيخ بعدها وكبرت دولته وفشا التوحيد بين الناس، وقد أدت هذه الحادثة أي إقامته لحد الرجم لاشتهار أمره في الآفاق.
كان لانتشار دعوة الشيخ وتعاظم دولته وأمره وقع كبير في نفوس المنتفعين من الفساد والبدع من تجار الخرافة وسدنة القبور والأضرحة، ثم عظمت مخاوفهم بعد حادثة الرجم فهرعوا إلى أمير منطقة الإحساء سليمان الحميدي وطلبوا منه أن يضغط على أمير "العينية" عثمان بن معمر، ليكف الشيخ عن دعوته ويسكت صوته ولو بالقتل، وكان أهل الإحساء بصفة خاصة من أشد الناس على الشيخ ودعوته؛ لأنهم كانوا غارقين في المحرمات ومستمتعين بالإباحية الكاذبة التي خلفتها لهم دولة القرامطة التي ظلت تحكم الإحساء لعشرات السنين من قبل، وظل كثير من أهلها مقتنعين لأفكار القرامطة.
أرسل سليمان الحميدي إلى عثمان بن معمر يتهدده ويتوعده ويأمر بقتل الشيخ محمد، وهدده بقطع الخراج والراتب الشهري الذي يناله عثمان من سليمان، وبمنع تجار العينية من العمل والاتجار في الإحساء وما جاورها، وأثر التهديد في نفس عثمان وخاف بشدة من سليمان وآثر العاجلة على الآجلة وخاف على دنياه من أن يهدمها عليه سليمان، فطلب من الشيخ أن يخرج من بلده ويذهب حيث شاء، فحاول الشيخ محمد أن يهدئ من روعه ويذكره بأمر الآخرة، ولكن مهابة سليمان والخوف منه قد ملأ صدر عثمان وأخذ بمجامع فؤاده، وأمر الشيخ بالخروج من العينية وحده وذلك عام 1157هـ.
ولأن المرء إذا آثر الدنيا على الآخرة فإنها تهوي به إلى أسفل سلم المروءة والأخلاق، فإن عثمان بن معمر قد كلف فارسًا من عنده أن يخرج مع الشيخ محمد بحجة حراسته وقد كلفه أن يقتل الشيخ عند منتصف الطريق بين الدرعية والعينية، فسار الفارس راكبًا خلف الشيخ الذي كان يسير على قدميه في حر الصيف وبيده مروحة وهو يقرأ القرآن ويكرر قوله عز وجل: {وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجًا (2) وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لا يَحْتَسِبُ} [الطلاق: 2، 3]، فلما وصلا لمنتصف الطريق وضع الفارس يده على سيفه ليستله ويفتك بالشيخ، فإذا بكرامة هائلة للشيخ محمد رحمه الله، إذ يبست يد الفارس على قائم سيفه، فلم يستطع أن يحركها، وملأ الرعب قلبه، فترك الفارس الشيخ وولى هاربًا عائدًا إلى أميره عثمان بن معمر.
يتبع . . .
__________________