العبيديون الإسماعيليون "الرافضة الباطنية" يحتلون مصر.
خريطة مصر
17 شعبان 358هـ ـ 6 يوليو 969م
كان الغرض الأساسي الذي سعى إليه الباطنيون الذين يلقبون أنفسهم زورًا بالفاطميين هو تكوين خلافة جديدة تقضي على الخلافة العباسية السنية وتحل مكانها في قيادة العالم الإسلامي، وبالتالي تهدم الدين الإسلامي من أساسه، وقد نجح العبيديون في الشطر الأول من مخططهم، حيث أقاموا دولتهم بالمغرب وظلوا هناك زيادة عن نصف قرن من الزمان، ولكنهم لم ينسوا أبدًا بقية المخطط.
حاول العبيديون احتلال مصر عدة مرات، فلم تكد الأمور تستقر قليلاً لأول خلفائهم الباطني «المهدي» حتى سيَّر حملة لغزو مصر سنة 301هـ، ثم أرسل أخرى سنة 307هـ، ولكنهما منيتا بالفشل، وقد حذا حذوه ابنه القائم فأرسل حملة كبيرة في سنة 221هـ، وفشلت مثل سابقتيها.
كانت الأحوال في الخلافة العباسية شديدة التدهور، وعوامل الضعف تسللت إلى كيانها وقت قيام الدولة العبيدية، وهذا الضعف سوَّل لكل طامع وطموح وراغب في السلطة أو الثروة، لقيامه بما يريد، فقامت عدة ثورات عاتية مثل ثورة الزنج، وثورة الرافضة القرامطة الذين ملكوا بادية الشام وجنوبه وهددوا حدود مصر الشرقية، وعاثوا في الأرض فسادًا ولم يجرؤ أحد على إيقافهم، حتى إنهم قد انتهكوا حرمة المسجد الحرام والحجيج سنة 317هـ وسرقوا الحجر الأسود 22 سنة، وصاحب هذه الثورات انفصال الأطراف وقيام دول مستقلة فيها، ففي الشرق قامت الدول الصفارية والسامانية والطاهرية، وفي الغرب قامت الدولتان الطولونية والإخشيدية، وفي قلب العراق الذي هو قلب الخلافة نفسها قامت الدولة الرافضية البويهية واستبدت بالأمور وأصبح الملك بيدهم «آل بويه» وأصبح آل العباس في منصب شرفي فخري فقط.
أما الأوضاع في مصر فكانت مضطربة بسبب الغلاء ونقصان فيضان النيل، ولولا حكمة ومقدرة «كافور الإخشيدي» لاحتل العبيديون مصر قبل ذلك بكثير، فلما توفي كافور سنة 357هـ، انهارت المقاومة وكثرت الفتن، وانقسم الجيش على نفسه، وانتهبت الأسواق، واشتد خوف الناس، وتعذرت الأقوات ولم يكن الباطني «المعز» العبيدي بغافل عما يجري على الساحة المصرية، فلقد كان دعاته وجواسيسه يجوبون الديار المصرية طولاً وعرضًا يدرسون الأحوال وينقلون الأخبار ويبشرون بمقدم إمام الرافضة الباطنية الإسماعيلية المعز ودعوته.
أعد المعز العبيدي حملة عسكرية ضخمة تقدر بمائة ألف مقاتل صرف عليهم 24 مليون دينار، عدا ما حمله ألف جمل من صناديق الذهب للصرف منها على الحملة، واختار لقيادة الحملة أشهر قواده المملوك «جوهر الصقلي» الذي كان يؤمن بمقدرته الحربية وشدة بأسه، حتى قال للمعترضين على اختياره: « لو خرج (جوهر) هذا وحده لفتح مصر ».
خرج جوهر الصقلي بالحملة في 14 ربيع الآخر سنة 358هـ وسار في نفس الطريق الذي سلكه فيما بعد روميل في الحرب العالمية الثانية، ووصل جوهر إلى الإسكندرية ودخلها دون قتال، فلما وصلت الأخبار بمقدمه إلى الفسطاط اضطرب أهلها وتملكهم الذعر، واتفقوا مع الوزير جعفر بن الفرات أن يرسل في طلب الصلح والأمان، وذهب وفد منهم إلى الغزاة الجدد، وعقدوا معهم صلحًا بشروط مقبولة منها:
1ـ إعزاز المصريين وحمايتهم والجهاد معهم وعنهم.
2ـ نشر الأمن، وتأمين طريق الحج الذي تعطل بسبب غارات الشيعة القرامطة.
3ـ أن تكفل الحرية الدينية للمصريين فلا يجبرون على اتباع الدين الباطني الإسماعيلي العبيدي، والقيام برعاية المنشآت والمؤسسات الدينية القائمة من مساجد، ومدارس، وأئمة، وخطباء، ... إلخ.
4ـ إصلاح الأحوال الاقتصادية للبلاد وتنظيم أحوالها وأمورها.
عاد الوفد للفسطاط وأخبر الناس بشروط المعاهدة، فقبلها الناس، ورفضها الجيش، وأصر القادة الإخشيدية والكافورية على القتال، وعبروا إلى جزيرة روض الفرج بالنيل وتحصنوا بها استعدادًا للقتال، ولكنهم كانوا قلة وضعفاء، فلم يلبثوا بعد اشتباكهم في القتال مع الغزاة العبيديين حتى هزموا وفروا، ودخل المملوك «جوهر الصقلي» الفسطاط على رأس جيشه يوم الثلاثاء في 17 شعبان سنة 358هـ ـ 6 يوليو 969م.
الجدير بالذكر أن العبيديين لم يوفوا بأي شرط من الشروط السالف ذكرها، وعانى المصريون خلال فترة حكمهم التي جاوزت القرنين الكثير من الويلات والمآسي.