[c] فما أكثر المفرطين في معرفة ما جاء عن الرسول الكريم ، وما أكثر الذين ضلوا لما أعرضوا عن كتاب الله تعالى وسنة نبيه عليه الصلاة والسلام ، قال تعالى : (( فإما يأتينكم مني هدى فمن اتبع هداي فلا يضل ولا يشقى ومن أعرض عن ذكري فإن له معيشة ضنكا ونحشره يوم القيامة أعمى * قال ربي لما حشرتني أعمى وقد كنت بصيراً * قال كذلك أتتك ءايتنا فنسيتها فكذلك اليوم تنسى ))
إن الجهل والتفريط عند كثير من الناس هو سبب الضلال ، ورأس ذلك هو إتباع الهوى ، والركض خلف الفلسفات والعقليات وترك النقل الصريح ، إن الشريعة الإسلامية السمحة لا يمكن أن تتوافق مع الفلسفة .
ومن نتاج ذلك كله وبعد أن فنيت الأعمار فيه ، وذهبت القوى في محاولة إداركه ، وخارت النفوس ولم تصل إلى ذلك سبيل أن :
قال أبي يوسف لبشر المريسي : العلم بالكلام هو الجهل ، والجهل بالكلام هو العلم ، وإذا صار الرجل رأساً في الكلام ، قيل : زنديق ، أو رمي بالزندقة .
وعنه أيضاً أنه قال : من طلب العلم بالكلام ؛ تزندق ومن طلب المال بالكيمياء ؛ أفلس ، ومن طلب غريب الحديث ؛ كذب .
وقال الإمام الشافعي :حكمي في أهل الكلام أن يضربوا بالجريد والنعال ، ويطاف بهم في العشائر والقبائل ، ويقال : هذا جزاء من ترك الكتاب والسنة وأقبل على الكلام .
وقال أيضاً رحمه الله تعالى :
كل العلوم سوى القرآن مشغلة *** إلا الحديث و إلا الفقه في الدين
العلم ما كان فيه قال حدثنا *** وما سوى ذاك وسواس الشياطين
انظر وتأمل أيها الأخ المبارك كيف كان أهل العلم في كل زمان ومكان يحذرون من الاشتغال بهذا ، بل ويأمرون بعدم مخالطة من له ميول إليه ، فإن ذلك أسلم للقلب ، وآمن عليه من أن تناله تلك الشكوك .
إن أهل الكلام لم يسموا بذلك إلا لأنهم لم يفيدوا من عندهم علماً جديداً ، أو شيئاً لم يكن معروفاً من ذي قبل بل زادوا زيادات لا تفيد فلذاك سموا أهل الكلام .
(( فيتذبذب بين الكفر والإيمان والتصديق والتكذيب والإقرار والإنكار مسوساً تائهاً شاكاً زائغاً ، لا مؤمناً مصدقاً ولا جاحداً مكذباً )) الطحاوي .
يقول ابن رشد الحفيد وهو من أعلم الناس بمذاهب الفلاسفة ومقالاتهم ، في كتابه التهافت : ومن الذي قال في الإلهيات شيئاً يعتد به .
وكذلك الآمدي وهو أفضل أهل زمانه ، وقف وحار في المسائل الكبار .
والغزالي رحمه الله أعرض عن ذلك كله بعد الحيرة والوقوف ، ثم أقبل على أحاديث الرسول صلى الله عليه وسلم ، فمات والبخاري على صدره .
يقول الرازي :
نهاية إقدام العقول عقال *** وغاية سعي العالمين ضلال
وأرواحنا في وحشة من جسومنا *** وحاصل دنيانا أذى ووبال
ولم نستفد من بحثنا طول عمرنا ** سوى أن جمعنا فيه : قيل وقال
فكم قد رأينا من رجال ودولة *** فبادوا جميعاً مسرعين وزالوا
وكم من جبال قد علت شرفاتها *** رجال فزالوا والجبال جبال
والله إن القلب ليتقطع حسرة على أمثال هؤلاء العلماء حين تراهم يتحسرون ويقولون مثل هذا الكلام .
ثم يقول :
لقد تأملت الطرق الكلامية ، والمناهج الفلسفية ، فما رأيتها تشفي عليلاً ، ولا تروي غليلاً ورأيت أقرب الطرق طريقة القرآن ، أقرأ في الإثبات (( الرحمن على العرش استوى )) . (( إليه يصعد الكلم الطيب )) . وأقرأ في النفي (( ليس كمثله شيء )) . (( ولا يحيطون به علماً )) . ثم قال : ومن جرب مثل تجربتي عرف مثل معرفتي .
ويقول الشهرستاني :
لعمري لقد طفت المعاهد كلها *** وسيرت طرفي بين تلك المعالم
فلم أر إلا واضعاً كف حائر *** على ذقن أو قارعاً سن نادم
ثم يقول أبو المعالي الجويني :
يا أصحابنا لا تشتغلوا بالكلام فلو عرفت أن الكلام يبلغ بي إلى ما بلغ ما اشتغلت به .
وقال عند موته : لقد خضت البحر الخضم ، وخليت أهل الإسلام وعلومهم ، ودخلت في الذي نهوني عنه ، والآن فإن لم يتداركني الله برحمته فالويل لابن الجويني وها أنا ذا أموت على عقيدة أمي أو قال : على عقيدة عجائز نيسابور .
وتأمل أيها الأخ الفاضل معي هذه القصة المحزنة جداً :
يقول شمس الدين الخسروشاهي ، وكان من أجل تلامذة فخر الدين الرازي ، لبعض الفضلاء وقد دخل عليه يوماً فقال : ما تعتقد ؟ قال : ما يعتقده المسلمون فقال : وأنت منشرح الصدر لذلك مستيقن به أو كما قال ، قال : نعم ، فقال : اشكر الله على هذه النعمة لكني والله ما أدري ما أعتقد ، والله ما أدري ما أعتقد والله ما أدري ما أعتقد ، وبكى حتى أخضل لحيته .
ولابن الحديد الفاضل المشهور بالعراق :
فيك يا أغلوطة الفكر *** حار أمري وانقضى عمري
سافرت فيك العقول فما *** ربحت إلا أذى السفر
فلحى الله الألى زعموا *** أنك المعروف بالنظر
كذبوا ، وإن الذي ذكروا *** خارج عن قوة البشر
يقول الخونجي عند موته : ما عرفت مما حصلته شيئاً سوى أن الممكن يفتقر إلى المرجح ، ثم قال الافتقار وصف سلبي أموت وما عرفت شيئاً .
وقال آخر : (( أضطجع على فراشي وأضع الملحفة على وجهي ، وأقابل بين حجج هؤلاء وهؤلاء حتى يطلع الفجر ولم يترجح عندي منها شيء )) .
وكما قال الإمام الطحاوي : (( ولا نخوض في الله ، ولا نماري في دين الله )) .
(( اللهم رب جبرائيل وميكائيل وإسرافيل فاطر السماوات والأرض ، عالم الغيب والشهادة أنت تحكم بين عبادك فيما كانوا فيه يختلفون ، اهدني لما اختلف فيه من الحق بإذنك إنك تهدي من تشاء إلى صراط مستقيم )) أخرجه مسلم .
جعلني الله وإياكم ممن يستمع القول فيتبع أحسنه .. قولوا آمين .. [/c]