وهناك في كتب بعض الصوفية المتقدمين ما يدل على ارتباطهم بالفلسفة اليونانية وأخذهم عنها , وتأثرهم بها , حيث مجدوها وبالغوا في الثناء عليها , وعلى من أوجدها وطرحها ونشرها بين الناس , ولو حصل الخطأ في نسبة بعض الآراء والأفكار إلى البعض دون البعض , وإلى الواحد دون الآخر كما مرت الإشارات إلى ذلك أثناء نقل العبارات السابقة عنهم .
فيقول الجيلي في كتابه ( الإنسان الكامل في معرفة الأواخر والأوائل ) في الجزء الثاني منه ما يدل على حبه العميق لموجدي الفلسفة اليونانية والربط الشديد لموجديها , فيقول :
( ولقد اجتمعت بأفلاطون الذي يعدونه أهل الظاهر كافرا , فرأيته وقد ملأ العالم الغيبي نورا وبهجة , ورأيت له مكانة لم أرها إلا لآحاد من الأولياء , فقلت له : من أنت ؟
قال : قطب الزمان وواحد الأوان , ولكم رأينا من عجائب وغرائب مثل هذا ليس من شرطها أن تفشي , وقد رمزنا لك في هذا الباب أسراراً كثيرة ما كان يسعنا أن نتكلم فيها بغير هذا اللسان , فألق القشر من الخطاب وخذ اللب إن كنت من أولي الألباب )( 1 ) .
وفي مقام آخر من كتابه كتب أن أرسطو تلميذ أفلاطون لزم خدمة الخضر واستفاد منه علوما جمة , وكان من تلامذته( 2 ) .
وهذا غير ما ذكر من آرائه وآراء أفلاطون وفلسفتهما , والتعلق والتمسك بها ومصطلحاتها التي استعملها واعتنقها وآمن بها .
وبمثل ذلك كتب لسان الدين بن الخطيب في كتابه الصوفي الكبير ( روضة التعريف بالحب الشريف ) حيث يلقب أفلاطون كلما يذكره بمعلم الخير , وأرسطو بحكيم متأله , وسقراط وهرمس وغيرهم من أهل الأنوار .
وحكى عن أرسطو ( خطأ ) أنه حصل له الاتحاد بالذات الإلهية . فيقول نقلا عن أرسطو أنه قال :
( إني ربما خلوت بنفسي كثيراً , وجعلت بدني جانبا , وصرت كأني مجردا بلا بدن , عري من الملابس الطبيعية , فأكون داخلا في ذاتي , خارجا من سائر الأشياء . فأرى في ذاتي من الحسن والسناء , والبهاء والضياء والمحاسن العجيبة , والمناظر الأنيقة , ما أبقى له متعجبا متحيراً باهتاً , فأعلم أني جزء من أجزاء العالم الأعلى الشريف . فلما أيقنت بذلك , رقيت بذهني إلى العلة الإلهية المحيطة بالكل , فصرت كأني موضوع متعلق بها . فأكون فوق العالم كله , فأراني كأني واقف في ذلك الموقف الشريف المقدس الإلهي فأرى هنالك من النور والبهاء , والبهجة والسناء , وملا تقدر الألسن على صفته , ولا الأسماع على نعته , ولا الأوهام أن تحيط به , فإذا استغرقني ذلك النور والبهاء , لم أطق على احتماله , ولا الصبر عليه فارتددت عاجزاً عن النظر إليه , وهبطت من العقل إلى الفكر والروية , فإذا صرت في عالم الفكر والروية , حجبت الفكرة عني ذلك النور والبهاء , وحالت بيني وبينه الأوهام , فأبقى متعجباً كيف انحدرت من ذلك الموضع الشاهق العالي الإلهي , وصرت سفلا في موضع الفكر والضيقة , بعد أن قويت نفسي على التخلف عن بدنها , والرجوع إلى ذاتها , والترقي إلى العالم العقلي , ثم العالم الإلهي , مع العقول فوق العوالم كلها , حتى صارت في موضع البهاء والنور والسناء مجتلية الذي هو علة كل نور وبهاء , وسبب كل دواء وبقاء .
ومن العجب . أني كنت رأيت نفسي ممتلئة نوراً , وهي في البدن كهيئتها , والبدن معها , وهي خارجة عنه , على أني لما أطلت الفكرة , ومحضت الروية , وأجلت الرأي , وصرت كالمتحير المبهوت , تذكرت الفلنطوس , فإنه أمر بالطلب والبحث عن جوهر النفس الشريفة , والحرص على الصعود إلى ذلك العالم الشريف الأعلى . وقال : إنه من حرص على ذلك , وارتقى إلى العالم الأعلى , ولحق بالجواهر الإلهية , والأسباب الكلية , يجزي أحسن الجزاء اضطرارا . فلا ينبغي لأحد أن يفتر عن الطلب والحرص , والجد في الارتقاء إلى ذلك العالم , وإن تعب وكد ونصب , فإن أمامه الراحة التي لا تعب بعدها , في حياة دائمة , وعيشة راضية , ولذات باقية لا يتناهى أمدها , ولا يقطع مددها , مخلوقة للإنسان كلها , والإنسان مخلوق لها , أليس عجزا أن تمر ساعة من عمره في غير ما خلق له من ذلك ؟ أليس من فرط في السعي لذلك ظالما لنفسه , ومهلكا ذاته , وفاعلا بجوهرته النفيسة ما لم يفعل به أعدى عدو له , فيندم حين لا ينفعه الندم )( 3 ) .
ثم علق عليه بقوله :
( وبيان هذه السعادة : من تعرض له , فقد تعاطى ما لا يستقل به نفس , ولا تطمع فيه قوة ... وسبيل السعادة عندهم الرياضة , وعلاج الأخلاق , حتى يصير شيبها بالخير المحض وهو المبدأ , وتلطيف السر , وأن يصرف عن النفس شواغل الجسم , ويترقى في معارج المحبة والشوق إلى ذلك الكمال بالفكرة , حتى تحس النفس بانجذابها إلى عالمها , وتفيض عليها عجائبه . وقد أخبر هؤلاء الإلهيون عن أنفسهم عن أنفسهم بما ذكرناه آنفا , من أنهم نزعوا جلابيب الجسمانية في هذا العالم , وترقوا إلى العالم العلوي , فأبصروا من نوره ولذاته أموراً مذهلة , ثم عادوا إلى عالم الحس , ورمزوا ذلك في كتبهم , حسبما نقل سقراط الدنان , ومعلم الخير أفلاطون وإمام المشائين أرسطو ) ( 4 ) .
وهذه العبارات منثورة مبعثرة في كتب القوم كثيرا , ناطقة عن كنههم وحقيقة مشربهم الذي اختاروه منهجا ومسلكا من التصوف والصوفية كشهادات داخلية واعترافات ذاتية .
وعلى ذلك قال الصوفي المشهور عبد الوهاب الشعراني عن شيخه :
( وكان سيدي أفضل الدين رحمه الله يقول :
كثير من كلام الصوفية لا يتمشى ظاهره إلا على قواعد المعتزلة والفلاسفة فالعاقل لا يبادر إلى الإنكار بمجرد عزو الكلام إليهم , بل ينظر ويتأمل في أدلتهم التي استندوا إليها , فما كل ما قاله الفلاسفة والمعتزلة في كتبهم يكون باطلا )( 5 ) .
وبعد هذه الشهادات والاعترافات لا نرى الاحتياج إلى ذكر عبارات الصوفية , ومقارنتها بآراء الفلاسفة والأفلاطونية المحدثة كي لا يطول بنا الحديث ولو أننا سوف نتكلم في هذا الخصوص ونضطر إلى سرد تلك النصوص في محل آخر من الكتاب عند الاحتياج والضرورة .
فهذه هي مصادر التصوف , التي استقى منها شجرته حتى نمت وازدهرت , فأينعت وأثمرت , ولا يمكن رده إلى مصدر واحد ( فإن أثر المسيحية والأفلاطونية الحديثة والفلسفة البوذية عامل لا سبيل لنا إلى إنكاره في التصوف الإسلامي . وقد كانت هذه المذاهب والفلسفات متغلغلة في الأوساط التي عاش فيها الصوفية , فلم يكن بدّ من أن تترك طابعها في مذاهبهم , ولدينا أدلة كافية توضح أثرها في التصوف ومكانتها منه , ولو أن المادة التي بين أيدينا لا تمكننا من تتبع أثرها بالتفصيل . وبالجملة يمكن القول بأن التصوف في القرن الثالث – شأنه في ذلك شأن التصوف في عصر من عصوره – ظهر نتيجة لعوامل مختلفة أحدثت أثرها في مجتمعه . أعني بهذه العوامل البحوث النظرية في معنى التوحيد الإسلامي , والزهد والتصوف المسيحيين , ومذهب الغنوصية , والفلسفة اليونانية والهندية )( 6 ) .
وكان هناك مصدر هام له تأثير قوي في تكوين التصوف وتشكيله , وتحوير منهجه وتطويره , وترويج الأفكار الأجنبية البعيدة عن الإسلام وتعاليمه فيه , غير هذه المصادر التي ذكرناها , وهو : التشيع الذي وضع نواته اليهود , وساهمت في تنشئته وتنميته الديانات الفارسية .
ولكن لما لهذا المصدر من أهمية كبيرة وتأثير كبير لتغيير وجهة التصوف ومجراه , وتخليق أفكار غريبة فوق الغرابة التي وجدت فيه من المصادر الأخرى ربما تصطدم بنصوص صريحة للقرآن والسنة لا تحمل التأويل وتقضي على تعاليمها .
ولفارق آخر وهو أن مصادر التصوف الأخرى أخذ منها التصوف أفكارها , واقتبس منها آراءها دون أن يكون لتلك المصادر قصد ورغبة , وهدف وغرض , ولتلقين المتصوفة تعاليمها وفلسفاتها , ونشرها بينهم , غير أن التشيع بثّ أفكاره ودسّ معتقداته , وروجّ نظرياته بين الصوفية عن قصد وعمد لتشويش المسلمين في عقائدهم ومعتقداتهم وتبكيت أهل السنة عن الاعتراض على التشيع وزيغه وضلاله , وإلزامهم السكوت بإبراز طائفة تنتمي إليهم , وتحسب عليهم , وتحمل نفس المعتقدات التي تشتمل عليها هي , وهذا أمر خطير في تاريخ الطوائف والفرق , والملل والنحل .
ولذلك نخصص لبيانه بابا مستقلا ليكون الباحث والقارئ على إطلاع كامل على ما يحتاجه هذا البحث , وتتطلبه هذه القضية .
-------------------------------
( 1 ) الإنسان الكامل لعبد الكريم الجيلي ج2 ص 52 , 53 الطبعة الرابعة 1981 م .
( 2 ) أيضا ج2 ص 117 .
( 3 ) روضة التعريف للسان الدين بن الخطيب ص 559 , 560 , 561 .
( 4 ) أيضا ص 560 .
( 5 ) الطبقات الكبرى للشعراني ج1 ص 11 .
( 6 ) ************لسون : التصوف : دائرة معارف الدين والأخلاق ج12 ص 10 وما بعد 1934 م , أيضا ( في التصوف الإسلامي وتاريخه ) ص 72 .
---------------------------------