مخطيء من يظن أن الشيعة لا يحبون المناظرات..وإنك لتعجب عند أول وهلة..كيف يعدمون الحجة ثم يحبون الجدال -على تخوفهم!-..ويصرفون في ذلك اهتماما بالغا..وأوقاتا عزيزة..فتجد في مواقعهم أقساما مخصصة لما يسمونه "حوارا"..وهم في غنى عن ذلك حتى لا تظهر سوءاتهم الكاشفة لبطلان ماهم عليه..فما السر يا ترى ؟
وقبل أن أجيب..أود بيان حقيقة قد تخفى على بعض أهل السنة..وهو أن علماء أهل السنة والجماعة..بخلاف ذلك..لا يحبون الجدل في الأصل حتى مع المخالف..إلا تحت مظنة الهداية..وإبلاغ الدعوة..ومما يدل على ذلك..أنهم متفقون على جعل مجادلة أهل البدع من الجهاد..والله يقول "كتب عليكم القتال وهو كره لكم"..
فالإمام مالك مثلا..كان يرفض جدال أي مبتدع..كما هو معلوم..
و الفضيل بن عياض قال: لا تجادلوا أهل الخصومات فإنهم يخوضون في آيات الله
وعن حنبل بن إسحاق قال : كتب رجل إلى أبي عبد الله ( يعني الإمام أحمد ) كتابا يستأذنه فيه أن يضع كتابا يشرح فيه الرد على أهل البدع وأن يحضر مع أهل الكلام فيناظرهم ، ويحتج عليهم ، فكتب إليه أبو عبد الله : بسم الله الرحمن الرحيم أحسن الله عاقبتك ، ودفع عنك كل مكروه ومحذور ، الذي كنا نسمع وأدركنا عليه من أدركنا من أهل العلم : أنهم كانوا يكرهون الكلام ، والجلوس مع أهل الزيغ ، وإنما الأمور في التسليم ، والانتهاء إلى ما كان في كتاب الله وسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم لا في الجلوس مع أهل البدع والزيغ لترد عليهم ، فإنهم يلبسون عليك ولا هم يرجعون فالسلامة إن شاء الله في ترك مجالستهم والخوض معهم في بدعتهم وضلالتهم
وهذا الإمام ابن تيمية يكتب في مقدمة كتابه النفيس منهاج السنة:فلما ألحوا في طلب الرد لهذا الضلال المبين ذاكرين أن في الإعراض عن ذلك خذلانا للمؤمنين وظن أهل الطغيان نوعا من العجز عن رد هذا البهتان فكتبت ما يسره الله من البيان وفاء بما أخذه الله من الميثاق على أهل العلم والإيمان وقياما بالقسط ..إلخ
فكما ترى أنه مدفوع للرد بالاضطرار كي لايكون خاذلا للسنة في وقت استنصر فيه ..لا أنه يفعل ذلك عن عشق للمناظرات والجدال..كما هو الحال مع أهل البدع كلهم..
وإني والله شخصيا..يرتفع ضغطي..كلما جادلت أحدهم..وأحس أني في حاجة لمصابرة من نوع خاص حتى أتم النقاش..
ونعود لبحث السر..الكامن في عشق أهل الرفض للجدل ..لأن معرفة ذلك مهمة حتى للشيعي الباحث عن الحق
يبدو لي والله أعلم..أن وراء ذلك أمورا..منها:-
-أن الشيعة وإن كانت حججهم كلها داحضة وأدلتهم واهية..لايستقيم لهم نشر باطلهم إلا بذلك ليلتبس الأمر على الجهال..فيتبعونهم..لكن الله سبحانه يخذلهم في كل الأحوال ..وتكون عاقبة المناظرات في الغالب في مصلحة نشر السنة..وطمس البدعة
-ولأن نفوسهم المملوءة حقدا على خير أمة..لايطيب لها حال إلا بنضح ذلك البغض..فإن ظل مكبوتا في بواطنهم قضوا كمدا..فهو أشبه بالتنفيس..
-وأن الجدل الطويل مادة لخداع الذات مع ما يلبسه الشيطان..من أنهم على حق..فترى أحدهم يقول في نفسه..منذ شهر وأنا أناظر هذا السني الفلاني..ولم يستطع إفحامي-مجرد دعوى-..إلخ..فيتزود بمثل ذلك لما يجعله مصرا على باطله..
-ومنهم طائفة..يتملكها شعور بالنشوة..وهو يرى عشرات السنة يردون عليه..وقد تغلب عليه القهقهة طويلا..وهو يتشفى بضياع أوقات هؤلاء "الأغبياء" في نظره..
-وربما من أسباب عشقهم للجدل والمناظرات..أن قلوبهم مطموسة..وقد علاها "الران"..وهو مع هذا ينتسب "للدين"..
فلا يشغل وقته بترقيق قلب..أو عبادة محضة..أو جهاد في سبيل الله..أو نفع ملهوف..ولابد للقلب من شيء يشتغل به..ولابد للفراغ من شيء يملؤه..فكما أن أهل المعاصي لهت قلوبهم عن ذكر الله فشغلتهم شهواتهم..كذلك أهل البدع لهت قلوبهم عن تحقيق السنة..فاستغرقوا في في الجدل والشبهات
-ولأنهم معتزلة في الاعتقاد..وأهل الاعتزال..أول من نسب إليهم علم "الكلام"..فقد تمرسوا ذلك..لأنهم احتاجوا أن يسدوا جهلهم بالسنة..بما يسمونه "الأدلة العقلية"..فلا تعجب إذا وجدت معتزليا..يجادلك في المسلمات البينات..
بل لاينقضي عجب العاقل وهو يرى هؤلاء يثبتون وجود الله بأدلة تجعل الحليم حيران..وقد أغناهم الله عن ذلك..
وفاقهم الأعرابي فهما وهو يقول:إن البعرة تدل على البعير..والأثر يدل على المسير..فسماء ذات أبراج..وبحار ذات أمواج وأرض ذات فجاج..أفلا يدل ذلك على اللطيف الخبير؟..بلى والله!
هذا والله تعالى أعلم وأحكم