للأستاذ عبد المنعم شفيق ..
تمهيـــد
لعل من أخطر ما يواجهنا أثناء النظر في الأحداث المستجدة لأي قضية ، النظر إليها باعتبارها حادثة وليدة لا علاقة لها بأصول سالفة؛ فهي لقيطة لا يُعرف لها نسب، ولا يستشرف لها مستقبل. حتى أولئك الذين يميلون إلى (تربيط) الأحداث بالسابق واللاحق يحيدون في التربيط أحياناً، ويرجعونها إلى غير مرجعها، فأصبحوا كالذين ينسبون اللقيط إلى غير والده. ومن نماذج هذه الأحداث ما ظهر أخيراً من دعوات الدولة الإيرانية إلى فتح باب التقارب، وفتح صفحة جديدة مع العالم كله، بما في ذلك (الشيطان الأكبر) أمريكا . وجاءت هذه الدعوة مع بداية عهد (جورباتشوف) الإيراني!! آية الله محمد خاتمي، الذي أغدقت عليه منذئذٍ ألقاب الاستنارة والانفتاح، فما هي ـ يا تُرى ـ المهام التنويرية والانفتاحية التي يجري على طريقها ويقوم بها؟!
إن موضوع (التقرب) الإيراني إلى الغرب، و (التقارب) مع العرب، جدير بالاهتمام والبحث لسبر غوره وإدراك ماهيته.
وقبل البدء في تفاصيل (التقرب) و (التقارب) لا بد من بيان قواعد ثلاث ينبني عليها فهم خلفيات ذلك الموضوع، وهي:
(أصل هذه الدعوة وهدفها)، (تعليل أصل الدعوة وأصول التقرب)، (طريقة الغرب في حرب الإسلام).
القاعدة الأولى: أصل الدعوة وهدفها:
إذا حدد الهدف الأكبر لأي دعوة أو حركة أو دولة، كان السعي لتحقيقه بعد ذلك لا يعدو أن يكون طرائق ووسائل، وكثيراً ما يتم الخلط بين الأهداف والوسائل وبين الأصول والطرائق المؤدية إليها، لذلك كان لا بد من إيضاح الهدف الأساس الذي يحرك الدعوة الإيرانية، والذي قامت لأجله الدولة وتسعى إلى تحقيقه، ولن نذهب في التاريخ بعيداً، بل سنكتفي بوثيقة حديثة وسارية المفعول في عهد خاتمي نفسه توضح الغاية العظمى للدولة (*)
. فقد أرسل مجلس شورى الثورة الثقافية الإيرانية رسالة إلى المحافظين في الولايات الإيرانية، سرية للغاية، كان مما جاء فيها: «الآن بفضل الله، وتضحية أمة الإمام الباسلة!! قامت دولة الإثنى عشرية في إيران، بعد عقود عديدة، ولذلك فنحن ـ وبناء على إرشادات الزعماء الشيعة المبجلين ـ نحمل واجباً خطيراً وثقيلاً وهو تصدير الثورة؛ وعلينا أن نعترف أن حكومتنا فضلاً عن مهمتها في حفظ استقلال البلاد وحقوق الشعب، فهي حكومة مذهبية ويجب أن نجعل تصدير الثورة على رأس الأولويات. لكن نظراً للوضع العالمي الحالي والقوانين الدولية ـ كما اصطلح على تسميتها ـ لا يمكن تصدير الثورة بل ربما اقترن ذلك بأخطار جسيمة مدمرة.
ولهذا فإننا من خلال ثلاث جلسات وبآراء شبه إجماعية من المشاركين وأعضاء اللجان وضعنا خطة خمسينية تشمل خمس مراحل، ومدة كل مرحلة عشر سنوات، لنقوم بتصدير الثورة الإسلامية إلى جميع الدول ونوحد الإسلام أولاً !! لأن الخطر الذي يواجهنا من الحكام الوهابيين وذوي الأصول السنية أكبر بكثير من الخطر الذي يواجهنا من الشرق والغرب !! لأن هؤلاء (أهل السنة والوهابيين) يناهضون حركتنا وهم الأعداء الأصليون لولاية الفقيه والأئمة المعصومين، حتى إنهم يعدون اعتماد المذهب الشيعي مذهباً رسمياً ودستوراً للبلاد أمراً مخالفاً للشرع والعرف. وإن سيطرتنا على هذه الدول تعني السيطرة على نصف العالم، ولإجراء هذه الخطة الخمسينية يجب علينا بادئ ذي بدء أن نحسن علاقاتنا مع دول الجوار، ويجب أن يكون هناك احترام متبادل وعلاقة وثيقة وصداقة بيننا وبينهم حتى إننا سوف نحسن علاقتنا مع العراق بعد الحرب، وذلك أن إسقاط ألف صديق أهون من إسقاط عدو واحد. إن الهدف هو فقط تصدير الثورة ؛ وعندئذ نستطيع رفع لواء هذا الدين الإلهي وأن نُظهر قيامنا في جميع الدول، وسنتقدم إلى عالم الكفر بقوة أكبر، ونزين العالم بنور الإسلام والتشيع حتى ظهور المهدي الموعود». ا هـ(1).
ومن خلال هذه الوثيقة نخلُص إلى الآتي:
1- الهدف هو تصدير الثورة الرافضية.
2 ـ المذهب الرافضي الإثنا عشري؛ هو مذهب الحق ـ كما يزعمون ـ الذي يجب أن يُوحَّد المسلمون عليه.
3 ـ أهل السنة ألد الأعداء لكونهم يرفضون هذا المذهب.
4 ـ خطر أهل السنة هو الأكبر وهو أبشع من خطر الغرب النصراني، والشرق الشيوعي.
5 ـ التقارب وسيلة لتحقيق الهدف الأسمى.
6 ـ القضاء على أهل السنة مطلب رئيس لتحقيق الأهداف.
هذه هي القاعدة الأولى التي حُددت من خلالها الأهداف والوسائل، وتبين معها أن (التقارب) وسيلة لتحقيق الأهداف المرسومة.
القاعدة الثانية: تعليل أصل الدعوة وأصول (التقرب) :
هذه الدعوة ليست بالجديدة، فهي متجذرة في مبادئهم، وكما نقلنا أصل دعوتهم من كلامهم، سننقل من كلام أئمتنا تعليلاً لهذه الدعوى، فهذا شيخ الإسلام أحمد بن تيمية ـ رحمه الله ـ يقول: (من معتقداتهم أنهم يكفِّرون كل من اعتقد في أبي بكر وعمر والمهاجرين والأنصار العدالة أو ترضى عنهم، ويسمون مذهبهم مذهب الجمهور، ويرون في أهل الشام ومصر والحجاز والمغرب واليمن والعراق وسائر بلاد الإسلام أنه لا يحل نكاح هؤلاء ولا ذبائحهم... ويرون أن كفر هؤلاء أغلظ من كفر اليهود والنصارى، لأن أولئك عندهم كفار أصليون وهؤلاء مرتدون، ولهذا السبب يعاونون الكفار على الجمهور من المسلمين، فيعاونون التتار على الجمهور، وهم كانوا أعظم الأسباب في خروج جنكيز خان ملك الكفر إلى بلاد الإسلام، وفي قدوم هولاكو إلى بلاد العراق، وفي أخذ حلب ونهب الصالحية وغير ذلك بخبثهم ومكرهم، لما دخل فيه من توزَّر منهم للمسلمين، وغير من توزر منهم»(2)
وقال ـ رحمه الله ـ: «والرافضة تحب التتار ودولتهم لأنه يحصل لهم بها من العز ما لا يحصل بدولة المسلمين. والرافضة هم معاونون للمشركين واليهود والنصارى على قتال المسلمين، وهم كانوا من أعظم الأسباب في دخول التتار قبل إسلامهم إلى أرض المشرق بخراسان والعراق والشام، وكانوا من أعظم معاونة لهم على أخذهم لبلاد الإسلام، وقتل المسلمين، وسبي حريمهم... وإذا غلب المسلمون النصارى والمشركين كان ذلك غصة عند الرافضة، وإذا غلب المشركون والنصارى المسلمين كان ذلك عيداً ومسرة عند الرافضة(3).
من خلال هذه القاعدة، يتبين أن (التقرب) إلى ملل الكفر وسيلة دائمة لتحقيق خطوة كبيرة، وهي القضاء على أهل السنة، لتحقيق الهدف الأكبر .
القاعدة الثالثة: طريقة الغرب في حرب الإسلام.
لا شك أن ملل الكفر على اختلافها وتعددها، وبرغم خلافاتها وعداوتها فيما بينها، يجمعها أصل عام هو حرب الإسلام الصحيح وأهله، وهذا هو هدفهم جميعاً الذي يسعون لتحقيقه؛ فلا مانع من أن تكون بينهم خلافات عظيمة وحروب وقتال، لكن إذا تعلق الأمر بحرب الإسلام الحق الذي أنزله الله على نبيه ( صلى الله عليه وسلم )، فإن ذلك محل اتفاق عندهم جميعاً؛ هذا من ناحية، ومن ناحية ثانية ـ ولتحقيق ذلك الهدف ـ يتعاونون ويستخدمون الذين يلتقون معهم في الهدف نفسه، وإن كانوا منتسبين إلى الإسلام، ويرون أن ذلك أدعى لتحقيق مآربهم، بل حتى قد يتطلب الأمر استغلال أهل الإسلام الحق في تمرير مخططاتهم وإن كان أولئك يغفلون عن ذلك، والأمثلة على ذلك كثيرة تكاد ألا تحصى، وليس هنا محل بسطها. من ناحية ثالثة: لا يمنع من ذلك أن يكسب أهل الكفر مكاسب أخرى: سياسية أو اقتصادية أو اجتماعية أثناء سعيهم لتحقيق ذلكم الهدف الأكبر، ولكنها كذلك وسائل وطرق تعين على مواصلة السير في الطريق الطويل إلى أن يرث الله الأرض ومن عليها. هذه القاعدة، هي ما يتعامل به أهل الكفر مع الروافض، حيث تم التوافق في الهدف ويتم التعاون في الوسائل، كالعلاقات الاقتصادية والسياسية، ولكن هذا التعاون يتلوَّن ويتغير بتبدل الأوضاع والأزمان؛ إذ من الحمق الثبات على طريق واحدة في الحرب. وهذا ما سنراه من تطور مراحل (التقرب) بين الروافض وملل الكفر.
من تاريخ (التقرب)
مرت طرق ووسائل الروافض لتحقيق هدفهم الأكبر بأطوار مختلفة على مدى التاريخ الإسلامي، من خلال الدعوات السرية، والحركات الفردية، ومروراً باختراق الدولة الإسلامية بوزراء وأعوان، وانتهاءً بإنشاء دول ظهرت ثم بادت ثم ظهرت مرة أخرى. ولعلنا نستعرض بشكل سريع شيئاً من ذلك التاريخ كي يكون دليلاً واضحاً لمن أراد البينة، وسنقتصر في العرض على من ذُكر (تقربهم) لأهل الكفر للقضاء على من يخالفهم من أهل الإسلام، وإلا فإن هناك نماذج أخرى من الروافض كانت لهم أدوار مساعدة وخطيرة تؤدي إلى الهدف ذاته.
الخليفة العباسي (الناصر):
هو أبو العباس أحمد بن المستضيء بأمر الله، كانت خلافته سبعاً وأربعين سنة، فلم يَلِ الخلافة من بني العباس أطول مدة منه، وكان متشيعاً ويميل إلى مذهب الإمامية، ويعتبره الشيعة من أعلام المائة السابعة لهم، وقد حمَّل عدد من المؤرخين القدامى والمحدثين الخليفة الناصر مسؤولية اختراق المغول لديار الإسلام، فقد راسلهم وأطمعهم في ذلك(4).
الشيطان الرجيم، الملقب بـ(الملك الرحيم):
وهو آخر ملوك البويهيين(2) وهو السلطان بدر الدين لؤلؤ الأرمني الأتابكي، كان يبعث كل سنة إلى (مشهد علي) قنديلاً ذهباً زنته ألف دينار، قال ابن كثير: وهذا دليل على قلة عقله…(5).
ونقل بعض المؤرخين أنه كان من بين المحرضين لهولاكو على قتل الخليفة. ووصلت علاقته بهولاكو وأسرته إلى حد المصاهرة، فقد تزوج ولده الملك الصالح إسماعيل ابنة هولاكو(6).
الوزير ابن العلقمي:
ذكر ابن كثير أن ابن العلقمي كان شيعياً جلداً ورافضياً خبيثاً، تولى الوزارة للخليفة العباسي المستعصم أربعة عشر عاماً، مالأ خلالها على الإسلام وأهله أنواع الكفار حتى فعلوا بالإسلام وأهله ما فعلوا، وكاتب ابن العلقمي هولاكو وجسَّره وقوَّى عزمه على قصد العراق؛ ليتخذ عنده يداً وليتمكن من أغراضه، وقال إنه دبر على الإسلام وأهله ما وقع من الأمر الفظيع الذي لم يؤرخ أبشع منه منذ بنيت بغداد إلى هذه الأوقات، ولم ينج أحد سوى أهل الذمة من اليهود والنصارى!! ومن التجأ إليهم وإلى دار الوزير ابن العلقمي(7).
كانت هذه إحدى المراحل التي مر بها الروافض لتحقيق هدفهم، وهو (التقرب) من أهل الكفر لتنفيذ غرضهم الهام وهو القضاء على أهل الإسلام، ولكن مرت مراحل أخرى لم يسعوا فيها إلى التقرب؛ لأنهم لم يكونوا بحاجة لذلك فقد قاموا بمفردهم بالمهمة والغرض؛ وذلك من خلال دويلاتهم (القرامطة والعبيديين) حتى قيَّض الله ـ تعالى ـ لهذه الأمة صلاح الدين وقضى عليهم، فعادوا إلى مرحلة السرية، حتى تمكنوا من إعلان دولة أخرى (بتقرب آخر) وكانت مرحلة جديدة، بشكل جديد يتواكب والمستجدات العالمية في ذلك الوقت.
الدولة الصفوية:
أسس إسماعيل الصفوي دولته عام 1500م، وأعلن أن (التشيع) دين الدولة، وحارب أهل السنة ـ الذين كانوا الأكثرية، ففي تبريز ـ العاصمة ـ وحدها كانوا لا يقلون عن 65% من السكان وقد قتل منهم في تبريز في يوم واحد 40 ألف سني!! وبإنشاء هذه الدولة دخلت الإثنا عشرية مرحلة هامة في تحقيق الهدف؛ فقد أصبح للمذهب دولة وهو أمر ليس بالهين، وبلغت الدولة قوتها في عصر الشاه الصفوي الذي استعان بالإنجليز، وأقام لهم مراكز في إيران، واستطاع الشاه الصفوي أن يحقق مكاسب وانتصارات على الدولة العثمانية، عندما استغل حربها مع النمسا ودعم الإنجليز له. ولقد كان مترسخاً لدى الغرب وقتها، أن المعين لهم على هدم دولة الخلافة هو الشاه الصفوي، وتعاونوا معه بما يحتاج إليه في ذلك(8).
وعلى إثر ظهور البرتغاليين في المنطقة بدأت إيران إقامة علاقات تجارية مع إنجلترا وفرنسا وهولندا، ومهدت هذه العلاقات إلى اتصالات على مستوى دبلوماسي وديني عند اعتلاء شاه عباس الأول عرش فارس عام 1587م، وسجلت تغييرات أساسية في البلاد وفي علاقاتها مع الغرب، وكان من نتائج التحول السياسي الذي أحدثه شاه عباس أن غص بلاطه بالمبشرين والقسس، وبنى الغربيون الكنائس في إيران، لإدخال من لم يقتل ولم يُشيع من المسلمين في دين النصارى. وعمل الصفويون على تحويل الحجاج الإيرانيين من مكة إلى مشهد، وقد حج الشاه عباس الصفوي سيراً على الأقدام من أصفهان إلى مشهد زيادة في تقديسه لضريح الإمام (علي الرضا) وليكون في عمله هذا قدوة للإيرانيين، ومنذ ذلك العهد أصبحت (مشهد) مدينة مقدسة عند الشيعة الإيرانيين(9). الدولة البهلوية:
كل شيء في أوله له قوة ونشاط، ثم ما يلبث أن يفتر، وعند هذه المرحلة،كان لا بد من تجديد القوة والنشاط للسعي إلى تحقيق الهدف، وقد شاخت الدولة الصفوية، وانتهى الدور المنوط بها، فكان أن جيء بالدولة البهلوية مع بدايات هذا القرن، الذي كانت تصاغ فيه سياسات عسكرية وسياسية جديدة لكل العالم، جيء بها لتكون أداة في تثبيت الأوضاع الجديدة، بعد أن يتم إلغاء الخلافة الإسلامية، وكانت الدولة البهلوية مرحلة جديدة وطور آخر من مراحل (التقرب)، وقتها كان الإسلام وكل ما ينتسب إليه مقصوداً من قِبَل الغرب، فلا إسلام سنياً ولا رافضياً، كانوا يريدون نموذجاً كذلك الذي زُرع في تركيا. ففي عام 1926م ألغى رضا بهلوي الحجاب الشرعي، وكانت زوجته أول من كشفت عن رأسها في احتفال رسمي، ثم أمر الشرطة بمضايقة النساء اللواتي رفضن الاقتداء بها وخرجن محجبات، وما كانت امرأة تخرج من بيتها محجبة إلا وعادت إليه سافرة. وفي عام 1927م ألغى رضا بهلوي أحكام الشريعة الإسلامية ـ على المذهب الشيعي ـ ووضع قانوناً مدنياً وآخر للعقوبات بُنيا على الأساس الفرنسي. وفي عام 1930م قلص مادة التعليم الديني في المدارس الحكومية ثم جعلها غير إلزامية في المدارس الابتدائية والثانوية، وفرض اللغة الفارسية بدلاً من اللغة العربية. وكان رضا خان صديقاً حميماً لكمال أتاتورك، ويحرص دوماً على تقليده واقتفاء خطاه، ولهذا كان رضا بهلوي في حربه للإسلام صورة طبق الأصل عن أتاتورك. وفي عام 1935م غيَّر اسم الدولة فأصبحت (إيران) بعد أن كانت (فارس)، وخدم رضا بهلوي أسياده الإنجليز وغيرهم حتى عام 1941م، ثم اختاروا ابنه محمد رضا ملكاً لإيران. وشاه إيران الجديد كان على صلة وثيقة ـ منذ أن كان طالباً ـ بعميل المخابرات البريطانية (مسيو براون) وتقول زوجته "ثريا" في مذكراتها: «لم يحيرني ولم يدهشني في المدة التي قضيتها مع الشاه شيء أكثر من هـذا الاتصــال الوثيــق الغامض بينـه وبــين مسيو بـراون، لقــد كان باستطاعتي أن أسألـه عن أي شـيء إلا عن شخصية بــراون وعلاقته به». وفي عام 1948م اعترف شاه إيران محمد رضا بهلوي بدولة يهود وأقام علاقات متينة معها. جاء الإنجليز بالشاه في الأربعينيات، وفي الخمسينيات تولى الأمريكان حمايته، وقدموا له الخبراء وأعادوه إلى الحكم بعد عهد (مصدق)، ليصبح بعدها أسيراً لوكالة المخابرات الأمريكية، وجعل الأمريكان من إيران مركزاً لحماية مصالحهم في المنطقة، وعندما قويت شوكته، احتل جزر أبو موسى وطنب الكبرى والصغرى في الخليج(10).
الدولة الخمينية:
باستصحاب قاعدة التغيير السابقة المرتبطة بالقوة والضعف، فقد ضعف الشاه في سنواته الأخيرة، فكان لا بد من وجه جديد، هذا من ناحية، ومن ناحية أخرى تغيرت كذلك الأوضاع الإقليمية والدولية؛ فقد ضغط العرب بسلاح النفط الذي يعد أهم مصالح الغرب في بلاد العرب، وارتمى منهم عدد غير قليل في أحضان الاتحاد السوفييتي السابق الذي كان على حالة من العداء مع الغرب لا تخفى، وظهرت ظاهرة ـ وكانت إحدى الكُبر المهددة للغرب ـ وهي الإسلام السياسي، أو الصحوة الإسلامية العارمة التي ظهرت في بقاع كثيرة، وهي صحوة (سنية) تمثل تضاداً للهدف الأساس، فلم يكن يجدي استخدام نموذج علماني جديد في إيران، بل كان لا بد من الكشف السافر والتهديد بالخطر الشيعي الذي أرعب المنطقة وقتها، ولم يكن له همٌّ إلا تصدير الثورة، وكانت حرب الخليج الأولى أكبر وأخطر تطور من نوعه في الصراع. وأيضاً فإن إظهار دولة شيعية في موقعها هذا ـ ومع اتصالها الوثيق بالغرب ـ يقف عائقاً أمام التهديد السوفييتي، وهي مصلحة كذلك للغرب. وسارع من سارع من المنطقة إلى الاحتماء بالغرب خوفاً من الزحف الرافضي، فكانت الأسلحة في الحرب بين إيران والعراق أمريكية!! ولنأت على بعض الأدلة:
-يقول أحد الصحفيين الإيرانيين: لقد أعطى الخميني عام 1984م الضوء الأخضر لإجراء محادثات سرية مع الولايات المتحدة بواسطة إسرائيل، وأوضحت التقارير الصادرة حول فضيحة (إيران جيت) المدى الذي وصله الخميني من الاتفاقيات السرية مع الأمريكيين، لقد انهار المشروع بأكمله عندما قرر آية الله حسين علي منتظري إدانة الاتصالات السرية مما أوقف المحادثات السرية بين طهران وواشنطن لتنتهي المسألة بإبعاد منتظري من طهران. ويقول الكاتب معتذراً ـ أو متهكماً ـ: ولولا (التقية) التي كان يمارسها أحياناً، لأصبح الخميني أبرز الزعماء الإيرانيين المواليين للولايات المتحدة(11).
-نشرت مجلة تايم الأمريكية في يوم 5/3/1979م تصريحاً للرئيس كارتر رد فيه على معارضيه، وكان مما قال: «إن الذين يطلبون من الولايات المتحدة أن تتدخل بشكل مباشر لوقف الأحداث مخطئون ولا يعرفون الحقائق القائمة في إيران!! لقد سبق أن أجرينا اتصالات مع أبرز زعمائها منذ بعض الوقت»(12).
-قدم مساعد وزير الخارجية الأمريكية (هارولد ساوندرز) تقريراً ألقاه أمام لجنة شؤون الشرق الأوسط، قال فيه: إن المصالح الأمريكية في إيران لم تتغير، ولنا مصلحة قوية في أن تبقى إيران دولة حرة مستقرة ومستقلة(13).
-وفي حديث لوزير الدفاع الأمريكي (براون) وصف حكومة (بازركان) - أول رئيس وزراء في عهد الخميني ـ بأنها متعاونة جداً وباستطاعة الأمريكان أن يقيموا معها علاقات ودية(14).
-وفي تصريح هام للراديو الحكومي قال بازركان: «إن جوهر الوجود الإيراني كدولة قد تولد من اتصالنا مع الغرب!! وإنه لما يتنافى مع المبادئ الإسلامية تدمير كل ما هو أجنبي».
-وأخيراً ننقل تصريحاً لآية الله روحاني الذي كان ممثلاً للخميني في واشنطن، عندما كان الأخير في فرنسا، يقول: «أنا مقتنع بأن أمريكا أعطتنا الضوء الأخضر»(15).
-وهناك أدلة أخرى كثيرة، أصبحت في حكم المتواتر من الأخبار(*)
وتغيرت أحوال الدولة الخمينية بعد وفاته، وتبدلت أحوال المنطقة، فسقط الاتحاد السوفييتي، وخاف الغرب من صحوة المسلمين هناك، والمنطقة كلها - كبقية العالم - تحت سيطرة الأمريكان، ولم يتمكن الروافض من تصدير ثورتهم بالشكل الذي يريدون، فكان لا بد من طور جديد لتنفيذ المرحلة الجديدة التي تمثلت في الدولة الرفسنجانية التي كانت مرحلة وسيطية بين الخميني وخاتمي، إذ رفسنجاني من تلك المؤسسة الدينية التي قامت بالثورة الشيعية وأبدى بعض من المرونة الظاهرة والانفتاح، والذي كان من نماذجه ما تمثل في صورة ابنته فائزة رفسنجاني، التي تطالب بحقوق المرأة، وكان لها بعض الفتاوى والمواقف التي تظهر تناقضاً مع مبادئ هذه المؤسسة. لقد كانت هذه المرحلة مطلوبة كتمهيد للنقلة الأوسع التي كانت على يد محمد خاتمي.
الهوامش :
(*)) من خلال نصوص هذه الوثيقة يتبين أن وقت صدورها كان وقت الحرب العراقية الإيرانية.
(1) انظر: د. عبد الرحيم البلوشي، رئيس رابطة أهل السنة في إيران ـ مكتب لندن ـ، الخطة السرية للآيات، مجلة البيان، العدد: 123.
(2)انظر: الفتاوى، ج/28/ 477 و 478.
(3)الفتاوى، ج/28/527 و 528، وانظر منهاج السنة، ج 2/104.
(4)انظر: د. سليمان العودة ، كيف دخل التتر بلاد المسلمين ، ص: 46-50.
(5)انظر بعض من تاريخهم ومعتقداتهم، عبد الرزاق حصان ـ المهدي والمهدوية: ص75.
(6)ابن كثير: البداية والنهاية، ج/ 13، ص: 203. (2) العودة، كيف دخل التتر، ص : 52، 53.
(7)ابن كثير، البداية والنهاية، ج/ 13، ص : 193، 202، 214، 215.
(8)انظر: محمد العبدة، مائة مشروع لتقسيم الدولة العثمانية، ص : 77، 125.
(9)راجع: عبد الله الغريب، الأبعاد التاريخية للثورة الإيرانية، ص: 81.
(10)انظر: السابق، ص : 91 - 94.
(11)أمير طاهري، جريدة الشرق الأوسط، عدد (6986) .
(12)انظر: عبد الله الغريب، الجذور التاريخية، ص: 255 .
(13) السابق، ص: 255.
(14)السابق، ص: 255.
(15)مقابلة مع صحيفة باري ماتش، نقلتها الوطن الكويتية، بتاريخ 11/2/1979م ـ السابق.
(*) في عام 1986م، قام مستشار الأمن القومي الأمريكي بَدْ مكفارلن بزيارة سرية لطهران، وحضر والوفد المرافق له على متن طائرة تحمل معدات عسكرية لإيران، وجلب الوفد معهم كعكة صنعت على شكل مفتاح كرمز لمفتاح الصداقة بين البلدين، كما قدموا إنجيلاً يحمل توقيع الرئيس ريجان، وكان الكشف عن هذه الزيارة هو ما أثار القضية التي عرفت وقتها بـ «إيران جيت» والتي قام الأمريكان ـ بتعاون ومباركة يهودية ـ بتزويد إيران بأسلحة في وقت كانت تقوم فيه على حماية الخليج العربي من الزحف الرافضي الإرهابي!! انظر مزيداً من التفاصيل حول هذه القضية ومسار التعاون بين الدولتين في العهد الخميني، مذكرات وزير الخارجية الأمريكي في ذلك الوقت جورج شولتز، «نصر واضطراب»، ص 275 ـ 377، الأهلية للنشر، ط/1، 1414هـ ـ 1994م
يتبع ...