ترجمة الشيخ العلامة / محب الدين الخطيب رحمه الله
بسم الله الرحمن الرحيم
هذه ترجمة للشيخ محب الدين الخطيب
لمحات من حياته وقبسات من أفكاره
بقلم الشيخ: ممدوح فخري
لمحة عابرة عن حياته:
ولد رحمه الله عام 1305 في دمشق الشام من أسرة عريقة أصيلة النسب هاشمية تعود أصولها إلى علي بن أبي طالب رضي الله عنه. وكان أبوه وجده عالمين جليلين وعنهما أخذ معلوماته الأولى، وبدأ تعليمه الأولى في دمشق وأتمه في بيروت، وأما شيخه الذي كان يجله كثيراً أو يذكره بخير دائماً فهو المرحوم الشيخ طاهر الجزائري وكان يقول رحمه الله: "منه تعلمت عروبتي وإسلامي"، وقد مدحه بقصيدة جميلة في شبابه لا يتسع المجال لذكرها، ثم سافر رحمه الله إلى استانبول والتحق هناك بكليتي الحقوق والآداب وفي تلك الأثناء التقى بمجموعة من المثقفين العرب الذين كانوا يدرسون في استانبول ورأى منهم انهيارا في شخصيتهم وذوباناً في غيرهم وتزلفاً إلى غير العربية والعرب, فأسس جمعية النهضة العربية، لتذكر العرب بأصالتهم وبدورهم القيادي في حياة البشرية.
وبعد إتمام دراسته هناك عاد إلى دمشق ولكن لم يطلب له المقام فيها من جراء مضايقات بعض الجهات المسؤولة فسافر إلى بيروت ومنها إلى استانبول ثم قصد أخيراً إلى القاهرة، وحينما تأزمت الأوضاع في الجزيرة العربية وفي بلاد الشام وقامت الثورة العربية الكبرى التحق بها محب الدين وأشرف على تحرير جريدة القبلة التي كان يصدرها الشريف حسين، ولكن سرعان ما تبيّن حقيقة الشريف حسين أنه لم يكن يريد ثورة إصلاحية مسلمة شاملة وإنما قام بثورته للحفاظ على منصبه وطمعاً في منصب أعلى تخلى عنه، وكان يقول: "إن الشريف حسين وأولاده يريدون الأوطان مزارع للملوك".
لقد قامت في تلك الفترة في البلاد العربية حركات وجمعيات كثيرة وساهم محب الدين رحمه الله في نشاط الكثير منها، ولكنه كان مخالفاً لكثيرين من رواد تلك الحركات، لقد وجد يومئذ نوعان من الحركات العربية، نوع عنصري قومي يريد تحطيم الأخوة الإسلامية وضرب الخلافة وتهديم الدولة العثمانية بسلاح النعرات القومية والعصبيات الوطنية, وهذا النوع كان يلقي التأييد الكلي من المستعمرين ومن النصارى والملاحدة بين المسلمين ونوع يؤمن بخصائص الأمة العربية الأصيلة وجدارتها بحمل رسالة الإسلام وقيادة الأمة الإسلامية وزيادتها بهذا الدين مع الإبقاء على الخلافة الإسلامية والرابطة الإيمانية في نوع من الحكم الذاتي الذي يبرر خصائص كل قطر وكل أمة أو الأمة العربية بالذات, ومن دعاة هذه الحركة كان محب الدين رحمه الله. وقد دعا لفكرته هذه في بلاد الشام إلى أن دخلت القوات الفرنسية دمشق وغادرها فيصل ابن الشريف حسين قبل دخول تلك القوات فاضطر محب الدين أيضاً إلى مغادرتها متخفياً في زي تاجر جمال عربي، إلى أن وصل إلى القاهرة بجواز سفر مزور حصل عليه من يافا في طريقه إلى مصر.
وبعد أن ضرب محب الدين رحمه الله في أرجاء الوطن الإسلامي الكبير من الأستانة إلى اليمن إلى العراق إلى مصر في مهمات عظيمة رأى أخيرا أن يستقر في مصر، ويجعل منها منطلقاً لدعوته وميداناً لجهاده لما لمصر من المكانة والتأثير في العالم الإسلامي كله.
وفي هذه المرحلة الجديدة مرحلة الاستقرار توضحت معالم شخصية محب الدين وتحددت مبادئ دعوته، وبرزت آراؤه وأفكاره بشكل واضح ومركز واستمر يدعو لها بعزيمة لا تعرف الكلل وبهمة لا تعرف الملل إلى أن وافاه الأجل وهو صابر محتسب.
بعد أن استقر محب الدين رحمه الله في مصر عمل بعض الأعمال الفرعية ثم أسس المكتبة السفلية الكبرى ومطبعتها، وجعلها كبرى وسائله في جهاده الطويل المدى وكفاحه الطويل النفس وجعل ينشر فيها من كنوز التراث الإسلامي عشرات الكتب، ويطبع فيها رسائل من تأليفه وتأليف كبار العلماء والمفكرين من إخوانه، ثم أصدر منها مجلته الأولى (الزهراء) والتي استمرت عدة سنوات، ثم أصدر مجلته الأسبوعية (الفتح) التي تعتبر إلى يومنا هذا من أقوى المجلات الإسلامية التي ظهرت في العالم العربي، لقد استمرت مجلة الفتح تصدر خمسة وعشرين عاماً في مرحلة من أصعب المراحل التي مرت بها الأمة الإسلامية في تاريخها الحديث، وقد تبنت الفتح في تلك المرحلة العصيبة قضايا العلم الإسلامي واستقطبت حولها كتاب العلم الإسلامي كله، وتصدت للدفاع عن حقائق الإسلام وحقوق المسلمين.
وقد بين رحمه الله الفكرة الداعية إلى إصدار الفتح في إحدى افتتاحياتها فقال: "إن الفتح أنشئت لمماشاة الحركة الإسلامية وتسجيل أطوارها ولسد الحاجة إلى حاد يترنم بحقائق الإسلام مستهدفاً تثقيف النشء الإسلامي وصبغه بصبغة إسلامية أصيلة يظهر أثرها في عقائد الشباب وأخلاقهم وتصرفاتهم وحماية الميراث التاريخي الذي وصلت أمانته إلى هذا الجيل من الأجيال الإسلامية التي تقدمته" (العدد الأول من عام 1353).
ومن هذه الكلمة الجامعة يبدو أن الفتح كانت مدرسة كبرى تعنى بتثقيف الجيل المسلم وتربيته ومعالجة قضايا واقعه على اختلاف أنواعها. وفي مدة ربع قرن من الزمان والفتح تفتح آفاقاً جديدة أمام المسلمين من الوعي الإسلامي الصحيح والفكر السياسي النير والمعالجة السليمة لقضايا العالم الإسلامي على ضوء هذا الدين الحنيف، وبعد هذا الجهاد المرير مع مختلف أعداء الإسلام في الحاضر والماضي على صفحات الفتح اضطر محب الدين رحمه الله إلى إيقافها وحينما سئل عن سبب ذلك قال: "أوقفتها حينما أصبح حامل المصحف في هذا البلد مجرماً يفتش ويعاقب"، ولكن إذا توقفت الفتح فإن محب الدين لم يتوقف وإنما استمر في طريقه الذي اختطه لنفسه من نصرة هذا الدين حتى الرمق الأخير. فإلى جانب التحقيق والتعليق وكتابة الرسائل والإشراف على ما يطبع في مطبعته الكبيرة تولى رئاسة تحرير مجلة الأزهر لمدة ست سنوات من 952 إلى 985/م وقبل ذلك كان قد أسس جمعية الشبان المسلمين بالتعاون مع عدد كريم من شخصيات مصر وعلمائها وعلى رأسهم العلامة المحقق أحمد تيمور والشيخ الجليل محمد الخضر حسين شيخ الأزهر الأسبق وغيرهما.
وعن غايته من تأسيس هذه الجمعية يقول رحمه الله: "كنت أنا وأحمد تيمور باشا والسيد محمد الخضر حسين حريصين على أن تكون هذه المؤسسة الأولى للإسلام في مصر قائمة على تقوى من الله وإخلاص، وكنا حريصين على أن يتولى إدارتها رجال يعرفون كيف يصمدون لتيار الإلحاد الجارف بعد أن استولى المتابعون للإستعمار على أدوات الثقافة والنشر في العالم الإسلامي وفي مصر على الخصوص"، ويقول أيضاً: "وكانت الجمعية حدثاً كبيراً من أحداث الحركة الإسلامية لأن دعاة الإلحاد والتحلل كان قد استفحل أمرهم وظنوا أن قيادة الأمة قد أفلتت من أيدي ممثلي الإسلام وانتظمت إلى أيديهم". وهذه الجمعية وإن انحرفت عن كثير من الغايات التي وجدت لأجلها فإنها لا تزال قائمة إلى يومنا هذا ولها مجلتها الناطقة باسمها، ومن على منبرها وفي مواسمها الثقافية قد استمعنا لعدد كبير جداً من علماء مصر ومفكريها.
وعلى أثر سوء تفاهم مع القائمين على الأزهر استقال رحمه الله من رئاسة تحرير مجلة الأزهر، وكان ذلك آخر عمل رسمي له، ثم انزوى في مكتبته ومطبعته وقطع تقريباً كل صلة له بذلك المجتمع وانكب على التأليف والتحقيق, وحتى الأعمال التجارية الصرفة كانت شبه مقطوعة مع المكتبات المصرية وكان جل تعامله في آخر أمره مع المؤسسات والمكتبات السعودية. واليوم الوحيد الذي كان يخرج فيه إلى المجتمع من جزيرته الهادئة القصية هو يوم الجمعة بعد العصر حيث يذهب إلى سوق الكتب المقامة على سور حديقة الأزبكية في القاهرة ويشتري من الكتب المختلفة القديمة والحديثة وكان يحملها بيديه الكليلتين وعلى كاهله أعباء الثمانين ويتمايل في مشيته ويتعثر حتى يجد سيارة تقله إلى بيته وقد ثابر على هذه العادة الكريمة إلى ما قبيل وفاته رحمه الله, وقد جمع من ذلك مكتبة ضخمة خاصة به فاقت على ما أعتقد كل مكتبة خاصة في مصر ماعدا مكتبة العقاد، حيث بلغ تعداد كتبه الخاصة ما يزيد على عشرين ألف كتاب وكانت فهارسها تبلغ خمسة وستين مصنفاً. وكان رحمه الله قد جعلها قبل وفاته وقفاً على أهل العلم من ذريته وقد بنى ولده قصي داراً جديدة في محلة الدقى في القاهرة وخصص الطابق الأول منها لتلك المكتبة، كما قال ذلك هو رحمه الله.
ولقد كان رحمه الله محتفظاً بحيويته حتى أواخر أيام حياته وكان يعزو ذلك إلى اعتداله في حياته كلها في مأكله ومشربه ومنكحه. وكان ذا صبر وجلد على العمل لا يعرف معهما السامة والملل. وكان منظماً في شؤونه كلها عصامياً في تدبير أمره وتكوين ثروته وبناء حياته وشخصيته.
ولقد ترك رحمه الله ثروة فكرية كبيرة وتتمثل في مجموعة الكتب والرسائل و التعليقات، والتحقيقات التي كتبها في مراحل عمره المختلفة, وجميع كتاباته تتميز بالأسلوب الأدبي الرفيع والبيان البديع والحرارة الصادقة في العاطفة والفكرة العلمية المحققة. ومن أهم الآثار الفكرية التي خلفها رحمه الله هي ما يلي:
1- كتاب توضيح الصحيح, وهو شرح الصحيح البخاري بقلمه, وقد رأيت منه مجلدات في بداية طبعة له حيث كنت هناك, ولا أدري في كم جزء تم الكتاب أو لم يتم ولكن الأستاذ أنور الجندي قال في كتابة مفكرون وأدباء بأنة في ثمانية أجزاء كبار وهو قطعا قد اطلع عليه بعدي.
2-كتاب الحديقة, وهو مختارات في الأدب الإسلامي في مختلف العصور وفي مختلف الموضوعات وهو في أربعة أجزاء .
3- كتاب مع الرعيل الأول.
4- كتاب اتجاه الموجات البشرية في جزيرة العرب.
5- كتاب البهائية.
6- رسالة الجيل المثالي.
7- حملة رسالة الإسلام الأولون.
8- الغارة على العالم الإسلامي - ترجمة -.
9- تاريخ مدينه الزهراء.
10- الأزهر ماضيه وحاضره.
11- الخطوط العريضة للديانة الاثني عشرية الأمامية .
وله تعليقات قيمة على كتب عديدة منها:
1- تعليقاته الرائعة على كتاب العواصم من القواصم لابن العربي المالكي. وهي أكبر وأهم من الكتاب.
2- وكذلك تعليقات على كتاب المنتقى من منهاج الاعتدال للذهبي.
3- وتعليقاته على مختصر التحفة الاثني عشرية للألوسي.
4- وتعليقاته المفيدة على كتاب الإكليل للهمداني.
وقد طبع كتاب الأدب المفرد للبخاري مع تخريج أحاديثه, وكذلك طبع فتح الباري بشرح البخاري لابن حجر مع الإشارة إلى الأبواب التي تفرقت فيها الأحاديث بالتعاون مع محمد فؤاد عبد الباقي. وما نشر كتابا إلا وكتب مقدمة علمية عن المؤلف وعن الكتاب ثم هناك مئات من المقالات التي كتبها في موضوعات شتى خلال عمره المديد في الزهراء والفتح والأزهر وغيرها من الصحف والمجلات.
وكان رحمه الله يجيد اللغات العربية والتركية والفارسية والفرنسية .
تلك هي لمحة عن حياة ذلك الرجل الراحل العظيم اقتصرنا فيها على ما حضرنا, وما أجدره رحمه الله أن يكتب عنه كتابة مستفيضة للوقوف على مراحل حياته والاستفادة من تجاربه وخبرته.