هم لا جرم في تخبطهم البليغ ، واصطفائهم ما يواطئ أهواءهم ، واتباعهم ما يشتهون ، فيا بؤسَ لهم يومَ يحشرون !
ولكنّ السبيل على من يعقل ولو قليلاً ، فإن العقل حلية لا بدلَ منها ولا عوض عنها ، ولقد ذكرتَ ثمة أن الولي من الولاية ، ولكني أقول :
أولاً :
لنتفقْ على مصدر وليّ وجمعه ، فإذا وافقنا شيء منهما نظرنا في معناه فرددنا إليه المفرد ( ولياً ) .
إن كلمة ( وليّ ) على وزن ( فعيل ) فتجمع على ( أولياء ) على وزن ( أفْعلاء ) جمع كثرة ، مثل ( نبي ) : ( أنبياء ) و ( وصي ) : ( أوصياء ) و ( قوي ) : ( أقوياء ) .
قال صاحب كتاب ( شذا العَرف / 121 ) :
(( أفعلاء ، بفتح فسكون فكسر ، ويطّرد في مفرد سابقه الأول ، وهو فعيل ، لكن بشرط أن يكون معتلّ اللام أو مضعّفاً ، كغني وأغنياء ، ونبي وأنبياء .. )) .
وقال رضي الدين الاستراباذي في ( شرح شافية ابن الحاجب / 2 / 137 ) :
(( وكذا عدلوا في الناقص الواوي واليائي من فُعَلاء إلى أفعلاء كأغنياء وأشقياء وأقوياء )) .
إذاً فقد تبيّن لنا أن ( وليّ ) يجمع على ( أولياء ) وليس على ( ولاة ) ، فلننظر ما هو مصدره !
إذا أتينا ( ولياً ) وجدناه صفة مفرداً مشتقاً من الفعل ( ولِيَ ) على وزن ( فَعِل ) ، وما كان على وزن ( فَعِل ) فإن مصدره القياسي هو ( فَعالة ـ بفتح الواو ـ ) كما قال سيبويه ( لسان العرب / مادة ولي ) :
(( الوَلاية بالفتح المصدر )) وقال صاحب كتاب ( شذا العرف / 80 ) ـ بتصرف ـ :
(( فَعِل مصدره فَعَل ، كفرِح فَرَحاً ، إلا إن دل على حرفة أو ولاية فمصدره فِعالة كولي عليهم وِلاية )) والصحيح أن الوَلاية والوِلاية سيان ، وهما يدلان على النصرة كقول الله ـ تعالى ـ : (( ما لكم من وَلايتهم من شيء )) وقال ابن السكيت ما هو بهذا المعنى في إصلاح المنطق ، وذكره الخطيب التبريزي في تهذيبه ، وقد ذكر بعضهم أن الوِلاية بالكسر بمعنى الإمارة أو السلطان !
ومهما يكن فإن الشأن في الصفة ( ولي ) وجمعها ، لأنهما هما الواردتان في القرآن الكريم ، والقرآن يفسّر بعضه بعضاً ، فلنتفحص مواضع ذكرهما تمثيلاً لا حصراً :
1 ـ لفظة ( الولي ) وهي صفة مفردة مشتقة ، وتجمع على ( أولياء ) كما قدّمنا ، ومن مواضع ذكرهما في القرآن قوله ـ تعالى ـ : (( أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا لَكُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلا نَصِيرٍ )) .
ألم تر أنه قرن بين الولاية والنصرة ، فدلّ على أنهما في المعنى متقاربان !
2 ـ وقال : (( اللَّهُ وَلِيُّ الَّذِينَ آمَنُوا يُخْرِجُهُمْ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ وَالَّذِينَ كَفَرُوا أَوْلِيَاؤُهُمُ الطَّاغُوتُ يُخْرِجُونَهُمْ مِنَ النُّورِ إِلَى الظُّلُمَاتِ أُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ )) وهل الله وليّ الذين آمنوا وحدهم إذا جعلنا الولاية هنا بمعنى الإمارة والسلطان ؟!
كلا ، فإن الله حاكم الناس أجمعين ، لا يخرج عن حكمه شيء ، ولكن كلمة ( وليّ ) هنا معناها ناصر وحافظ ، ولهذا قال الله ـ تعالى ـ مخاطباً الذين آمنوا : (( إنما وليكم الله ورسوله والذين آمنوا )) أي نصيركم ومعينكم ونحوهما ، وأمارة ذلك أنك تجد أن الله تعالى أردف ذلك بقوله : (( والذين كفروا أولياؤهم الطاغوت )) ( وبضدها تتميز الأشياء ) ، ويستحيل أن يكون معنى ( أولياؤكم ) هنا : حكماءكم أونحوها !
3 ـ وقال : (( لا يَتَّخِذِ الْمُؤْمِنُونَ الْكَافِرِينَ أَوْلِيَاءَ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ فَلَيْسَ مِنَ اللَّهِ فِي شَيْءٍ إِلَّا أَنْ تَتَّقُوا مِنْهُمْ تُقَاةً وَيُحَذِّرُكُمُ اللَّهُ نَفْسَهُ وَإِلَى اللَّهِ الْمَصِيرُ )) ولا ريب أن ( أولياء ) هذه معناها أنصار ، لما علمنا من أن جمع ( وليّ ) ( أولياء ) ، والمفرد وجمعه إنما هو مشتقان من مادّة واحدة !
4 ـ وقال : (( إِنَّ أَوْلَى النَّاسِ بِإِبْرَاهِيمَ لَلَّذِينَ اتَّبَعُوهُ وَهَذَا النَّبِيُّ وَالَّذِينَ آمَنُوا وَاللَّهُ وَلِيُّ الْمُؤْمِنِينَ )) وهذه الآية بيّنة الدلالة على ما قررناه من معنى الولاية ، وظاهرٌ جداً أن هذه الكلمة لا يمكن أن تؤول بمعنى ( حاكم ) ، لأن الله حاكم المؤمنين وغيرهم .
5 ـ وقال : (( إِذْ هَمَّتْ طَائِفَتَانِ مِنْكُمْ أَنْ تَفْشَلا وَاللَّهُ وَلِيُّهُمَا وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ )) ولا شك أن ( وليهما ) بمعنى ( نصيرهما ) .
6 ـ وقال : (( إِنَّمَا ذَلِكُمُ الشَّيْطَانُ يُخَوِّفُ أَوْلِيَاءَهُ فَلا تَخَافُوهُمْ وَخَافُونِ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ )) و ( أولياؤه ) أنصاره المنتمين إلى حزبه .
7 ـ وقال : (( اتَّبِعُوا مَا أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ وَلا تَتَّبِعُوا مِنْ دُونِهِ أَوْلِيَاءَ قَلِيلاً مَا تَذَكَّرُونَ )) ويمكنك أن تحسّ المقاربة بين كلمة ( ولي ) و ( نصير ) !
8 ـ وقال : (( وَمَا لَكُمْ لا تُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَالْمُسْتَضْعَفِينَ مِنَ الرِّجَالِ وَالنِّسَاءِ وَالْوِلْدَانِ الَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنَا أَخْرِجْنَا مِنْ هَذِهِ الْقَرْيَةِ الظَّالِمِ أَهْلُهَا وَاجْعَلْ لَنَا مِنْ لَدُنْكَ وَلِيّاً وَاجْعَلْ لَنَا مِنْ لَدُنْكَ نَصِيراً )) وهذا الموضع كسابقه !
9 ـ وقال : (( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا الْيَهُودَ وَالنَّصَارَى أَوْلِيَاءَ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ مِنْكُمْ فَإِنَّهُ مِنْهُمْ إِنَّ اللَّهَ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ )) ودلالة هذه الآية بينة جداً لا يماري فيها إلا الألد الخصم ، ويعضد ذلك أيضاً أن الله ـ تعالى ـ بعد ما نهى عن موالاة اليهود والنصارى ناسب أن يأمر بموالاة الله ورسوله والذين آمنوا ، وأنهم هم الأولياء حقاً ، كما يبين ذلك أن الله ـ تعالى ـ أخبر أن اليهود والنصارى بعضهم أولياء بعض ، ولا يستقيم أن يكون المعنى : بعضهم حكماء على بعض !
ومعلوم بالضرورة أن القرآن لا يمسّه الخطل والاضطراب ، ولا يصدق عليه ما يصدق على غيره ، فإنه رأس البيان وعماد الفصاحة جميعاً ، وبعضه يفسر بعضاً ، وبين آياته روابط متناهية في الإعجاز وحسن التساوق ، وهذا هو ما ينبغي أن يكون عليه القرآن الكريم ، لا أن يكون آخره متبرئاً من أوله وجمله متنافرة لا صلة لبعضها بأخواتها كما يزعم الرافضة إكراهاً لهذه الآيات حتى تستقيم لهم فيلووا رؤوسها لتوافق معتقداتهم الباطلة ، وإلى الله المشتكى !
ويدلّ على أن معنى ( وليكم ) في آية الولاية هو نصيركم أن الله ـ تعالى ـ قال في الآية التي بعدها (( ومن يتول الله ورسوله والذين آمنوا فإن حزب الله هم الغالبون )) وها هي ذي الآيات مترابطة :
(( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا الْيَهُودَ وَالنَّصَارَى أَوْلِيَاءَ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ مِنْكُمْ فَإِنَّهُ مِنْهُمْ إِنَّ اللَّهَ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ * فَتَرَى الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ يُسَارِعُونَ فِيهِمْ يَقُولُونَ نَخْشَى أَنْ تُصِيبَنَا دَائِرَةٌ فَعَسَى اللَّهُ أَنْ يَأْتِيَ بِالْفَتْحِ أَوْ أَمْرٍ مِنْ عِنْدِهِ فَيُصْبِحُوا عَلَى مَا أَسَرُّوا فِي أَنْفُسِهِمْ نَادِمِينَ * وَيَقُولُ الَّذِينَ آمَنُوا أَهَؤُلاءِ الَّذِينَ أَقْسَمُوا بِاللَّهِ جَهْدَ أَيْمَانِهِمْ إِنَّهُمْ لَمَعَكُمْ حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ فَأَصْبَحُوا خَاسِرِينَ * يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا مَنْ يَرْتَدَّ مِنْكُمْ عَنْ دِينِهِ فَسَوْفَ يَأْتِي اللَّهُ بِقَوْمٍ يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ أَذِلَّةٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ أَعِزَّةٍ عَلَى الْكَافِرِينَ يُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلا يَخَافُونَ لَوْمَةَ لائِمٍ ذَلِكَ فَضْلُ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ * إِنَّمَا وَلِيُّكُمُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَالَّذِينَ آمَنُوا الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَهُمْ رَاكِعُونَ * وَمَنْ يَتَوَلَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَالَّذِينَ آمَنُوا فَإِنَّ حِزْبَ اللَّهِ هُمُ الْغَالِبُونَ )) !
والآن لعل الغبش تبدد عن العينين ، وبان الصبح لكل أحد ، ولكنْ بالربط بين الآيات المتتابعة لا بترها واجتزائها من بين أخواتها !
فإذا نظرنا في قوله ـ تعالى ـ بعد آية الولاية (( ومن يتولّ الله .. )) تبين لنا جلياً أن الولاء هو النصرة ، ولا يمكن أن تفسّر الآية هذه بغير ذلك ، فكيف يستقيم أن يقال : إن معنى (( ومن يتولّ )) هو (( ومن يحكم أو نحو ذلك )) !!!
ولولا تقاصر همتي وفتور عزمي لمررت على القرآن كلّه ، وأخذت مشتقات ( ولي ) فأظهرت مبلغ بعد الرافضة عن الصواب في تفسيرها بما يدّعون ، والآيات سوى ما ذكرتُ جدّ كثيرة يصعب حصرها والإحاطة بها ، وهي مجمعة على تقرير المعنى الذي أوردناه !
والله ـ تعالى ـ أعلم ..
أبوس ، عدو المجوس ..