السلام عليكم ورحمة الله وبركاته
انقطعت عنكم اخوة الإسلام قرابة الشهرين حيث كنت في منتدى ثانٍ أناقش فيه مبتدعا
وقلت في نفسي لا بد أن أجلب لسلفيي هذا المنتدى هدية قيمة إن شاء الله وهي شرح حديث تقرب العبد لربه عز وجل شبرا وتقرب الله تعالى ذراعا....إلى بقية الحديث والتي لطالما دندن حوله المبتدعة سخرية بهذا الحديث
وقد وجدت في شرح الشيخ عبد الله الغنيمان كلاما نفيسا جعلتُ منه هديتكم.
وهاكم هديتكم
أخرج البخاري في كتاب التوحيد بسنده عن أبي هريرة – رضي الله عنه – قال: قال النبي –صلى الله عليه وسلم-: يقول الله -تعالى-: " أنا عند ظن عبدي بي، وأنا معه إذا ذكرني، فإن ذكرني في نفسه ذكرته في نفسي، وإن ذكرني في ملأ ذكرته في ملأ خير من منهم، وإن تقرب إلىّ بشبر تقربت إليه ذراعاً، وإن تقرب إليَّ ذراعاً تقربت إليه باعاً، وإن أتاني يمشي أتيته هرولة".
[[هذا الحديث من الأحاديث القدسية، وهي: ما يذكره الرسول –صلى الله عليه وسلم- مضافاً إلى الله -تعالى- أنه قاله، ولكنه غير متعبد بتلاوته، ولا هو معجز متحدى به كالقرآن.
والظن يأتي بمعنى العلم واليقين، كقوله -تعالى-: {الَّذِينَ يَظُنُّونَ أَنَّهُم مُّلاَقُو رَبِّهِمْ وَأَنَّهُمْ إِلَيْهِ رَاجِعُونَ} ( ).
ويأتي واسطــة بين الشك والعلم، أو بمعنى الشك، كقوله -تعالى- عن الكفار {وَظَنُّوا أَنَّهُمْ إِلَيْنَا لا يُرْجَعُونَ} ( ). والقرائن تبين ذلك وتحدده.
فقوله: " أنا عند ظن عبدي بي "، قال صاحب "المرعاة": "يجوز أن يكون على ظاهره، والمعنى: أنا أعامله على حسب ظنه بي، وأفعل به ما يتوقعه مني، من خير أو شر، والمراد: الحث على تغليب الرجاء على الخوف، وحسن الظن بالله -تعالى- على ما دل عليه قوله –صلى الله عليه وسلم-: " لا يموتن أحدكم إلا وهو يحسن الظن بالله".
ويجوز أن يكون المراد بالظن: العلم الموقن، ويكون المعنى: أنا عند علمه بي ويقينه بأن مصيره إليّ، وحسابه عليَّ، وأن ما قضيت به له أو عليه، من خير أو شر، لا مرد له، لا معطي لما منعت، ولا مانع لما أعطيت"( ).
وقال الحافظ: " أنا عند ظن عبدي بي" أي قادر على أن أعمل به ما ظن أن أعامله به، وقال الكرماني: وفي السياق إشارة إلى ترجيح جانب الرجاء على
ص224
الخوف، وكأنه أخذه من أن العاقل يختار لنفسه وقوع الخير، وهو مقيد بالمحتضر، لما في الحديث: " لا يموتن أحدكم إلا وهو يحسن الظن بالله"( ).
قلت: قول الحافظ هذا خلاف ظاهر الحديث، إذ هو خبر عن الله -تعالى- أنه عند ظن عبده به، يعني أنه -تعالى- يفعل بعبده ما ظنه العبد أنه يفعله به، وقد جاءت أحاديث مصرحة بذلك، كما في "المسند" من حديث واثلة بن الأسقع، سمعت رسول الله –صلى الله عليه وسلم يقول: " قال الله: أنا عند ظن عبدي بي، إن ظن خيراً فله، وإن ظن شراً فله"( )، ورواه ابن حبان، وهذا لفظه، وفي هذا أحاديث كثيرة.
وقال في "المفهم": "معنى: "أنا عند ظن عبدي بي" ظن الإجابة عند الدعاء، والقبول عند التوبة، والمغفرة عند الاستغفار، والإثابة على العمل، إيماناً بوعده -تعالى-؛ لما في الحديث "ادعوا الله، وأنتم موقنون بالإجابة"( ).
ولذلك ينبغي للمرء أن يجتهد في العمل، موقناً بأن الله يقبله، ويغفر له؛ لأنه وعد بذلك، وهو لا يخلف وعده.
هذا إذا أتى بالعبادة بشروطها، فإن اعتقد أن الله لا يقبلها، وأنها لا تنفعه، فهذا هو اليأس، وهو من الكبائر، وأما ظن المغفرة مع الإصرار على الذنوب، فهو محض الجهل، والغرور. ( )
والحديث معناه واضح كما تقدم، وما ذكره صاحب المفهم من معناه، ووراء ذلك معنى أدق، وهو قرب الله من عبده المنيب إليه، وخير ما يفسر به كلام الرسول –صلى الله عليه وسلم- كلامه، ولكن لا يعارض النصوص الكثيرة المحذرة من عذاب الله -تعالى- وعقابه، فالأمر كما قال -تعالى-: {نَبِّىءْ عِبَادِي أَنِّي أَنَا الْغَفُورُ الرَّحِيمُ {49}وَ أَنَّ عَذَابِي هُوَ الْعَذَابُ الأَلِيمَ} ( )، وحسن الظن يكون مع حسن العمل،
ص225
وقد تشعر الإضافة في قوله: " عبدي" بحسن العمل، أي أنه عبد الله، وليس للشيطان أو للدنيا أو غيرهما. والله أعلم.
قوله: " وأنا معه إذا ذكرني" أي: معه بالإجابة، والتوفيق، وبسماع كلامه، وإثابته عليه، أو بحسب ما قصد في ذكره، ما لم يكن إثماً أو قطيعة رحم، فهذه المعية هي المعية الخاصة المذكورة في مثل قوله -تعالى-: {إِنَّنِي مَعَكُمَا أَسْمَعُ وَأَرَى} ( ).
ومعية الله -تعالى- بالنسبة لعباده نوعان:
معية عامة للخلق كلهم، كما قال -تعالى-: {مَا يَكُونُ مِن نَّجْوَى ثَلاثَةٍ إِلاَّ هُوَ رَابِعُهُمْ وَلا خَمْسَةٍ إِلاَّ هُوَ سَادِسُهُمْ وَلا أَدْنَى مِن ذَلِكَ وَلا أَكْثَرَ إِلاَّ هُوَ مَعَهُمْ أَيْنَ مَا كَانُوا} ( ).
وقال -تعالى-: {يَعْلَمُ مَا يَلِجُ فِي الأَرْضِ وَمَا يَخْرُجُ مِنْهَا وَمَا يَنزِلُ مِنَ السَّمَاء وَمَا يَعْرُجُ فِيهَا وَهُوَ مَعَكُمْ أَيْنَ مَا كُنتُمْ} ( )، ومن مقتضى هذه المعية: اطلاعه -تعالى- وعلمه بكل شيء، ومراقبته، وشهوده أفعال عباده، فتفيد الخوف منه -تعالى-.
والنوع الثاني: المعية الخاصة، وهي المذكورة في هذا الحديث، ونحوه، كقوله -تعالى-: {إِنَّ اللّهَ مَعَ الَّذِينَ اتَّقَواْ وَّالَّذِينَ هُم مُّحْسِنُونَ} ( )، وقوله: {إِذْ يَقُولُ لِصَاحِبِهِ لاَ تَحْزَنْ إِنَّ اللّهَ مَعَنَا} ( )، ومن مقتضى هذه المعية: النصر والتأييد والهداية والحماية.
و "معيته -تعالى- لخلقه، لا تخالف علوه، واستواءه على عرشه، فكل ذلك حق على ظاهره، وذلك أن الله معنا حقيقة، وهو فوق عرشه حقيقة، كما جمع بينهما في قوله -تعالى-: {هُوَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ يَعْلَمُ مَا يَلِجُ فِي الأَرْضِ وَمَا يَخْرُجُ مِنْهَا وَمَا يَنزِلُ مِنَ السَّمَاء وَمَا يَعْرُجُ فِيهَا وَهُوَ مَعَكُمْ أَيْنَ مَا
ص225
كُنتُمْ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ} ( ). فأخبر -تعالى- أنه فوق العرش يعلم كل شيء، وهو معنا أينما كنا، كما قال النبي –صلى الله عليه وسلم- في حديث الأوعال: "والله فوق العرش، وهو يعلم ما أنتم عليه"( ).
وذلك أن كلمة "مع" في اللغة إذا أطلقت، فليس ظاهرها في اللغة إلا المقارنة المطلقة، من غير وجوب مماسة أو محاذاة عن يمين أو شمال.
فإذا قيدت بمعنى من المعاني دلت على المقارنة في ذلك المعنى، فإنه يقال: ما زلنا نسير والقمر معنا، ويقال: هذا المتاع معي؛ لمجامعته لك، وإن كان فوق رأسك.
فالله مع خلقه حقيقة، وهو فوق عرشه حقيقة.
ثم هذه المعية تختلف أحكامها بحسب الموارد، فقوله: {وَهُوَ مَعَكُمْ أَيْنَ مَا كُنتُمْ} ( )، دل ظاهر الخطاب أن حكم هذه المعية ومقتضاها: أنه مطلع عليكم، شهيد عليكم، ومهيمن عالم بكم، وهذا معنى قول السلف أنه معهم بعلمه، وهذا ظاهر الخطاب وحقيقته.
وقوله: {لاَ تَحْزَنْ إِنَّ اللّهَ مَعَنَا} ( )حق على ظاهره، ودلت الحال على أن حكم هذه المعية: الاطلاع والنصر والتأييد، ومثل ذلك قوله {إِنَّنِي مَعَكُمَا أَسْمَعُ وَأَرَى} ( )، وقوله: {إِنَّ اللّهَ مَعَ الَّذِينَ اتَّقَواْ وَّالَّذِينَ هُم مُّحْسِنُونَ} ( )"( )، وسيأتي لذلك بقية.
ص227
قوله: "فإن ذكرني في نفسه ذكرته في نفسي" أي: إن ذكر ربه سراً في نفسه، فإن الله -تعالى- يذكره سراً في نفسه، من غير اطلاع أحد من خلقه على ذلك.
وهذا هو محل الشاهد من الحديث، حيث أثبت النفس لله -تعالى- على ما سبق توضيحه.
قوله: "وإن ذكرني في ملأ ذكرته في ملأ خير منهم" الملأ: الجماعة، والمعنى: أن العبد إذا ذكر ربه ظاهراً في جماعة يسمعون ذكره لربه، فإن الله -تعالى- يذكره ويثني عليه في جماعة أفضل من الجماعة الذين ذكر العبد ربه فيهم؛ لأن الذين يذكر الله عبده فيهم في الملأ الأعلى عباد مكرمون، لا يعصون الله ما أمرهم ويفعلون ما يؤمرون.
وهذا من أقوى أدلة القائلين بتفضيل الملائكة على صالحي بني آدم، وهي مسألة مشهورة، والراجح فيها: أن الأنبياء والصديقين والشهداء والصالحين أفضل من الملائكة، وتفضيل فرد من النوع لا يلزم منه تفضيل النوع كله على الآخر، والله أعلم.
قوله: " وإن تقرب إليَّ بشبر تقربت إليه ذراعاً، وإن تقرب إليَّ ذراعاً تقربت إليه باعاً، وإن أتاني يمشي أتيته هرولة".
قرب الله -تعالى- من عابده وداعيه، ثبت في نصوص كثيرة، كقوله تعالى: {وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ} ( ).
وقوله – صلى الله عليه وسلم-: " أقرب ما يكون العبد من ربه وهو ساجد"( ).
فالعبد إذا قرب إلى الله -تعالى- بالتوجه والمحبة، وإخلاص العمل، والصدق في ذلك، فإن الله -تعالى- يقرب إليه أكثر من قربه، فكلما زاد قرب العبد إلى ربه بالطاعة والإنابة والحب والإخلاص، زاد قرب الله إليه، حتى يكون قلب العبد بين يدي ربه، كأنه يشاهده بعينيه، وهو –جل وعلا- على عرشه.
ص228
قال شيخ الإسلام: " فكلما تقرب العبد باختياره قدر شبر، زاده الرب قرباً إليه، حتى يكون كالمتقرب إليه بذراع، فكذلك قرب الرب من قلب العابد، وهو ما يحصل في قلب العبد من معرفة الرب، والإيمان به، وهو المثل الأعلى"( ).
وبهذا يتبين أن معنى قوله: " إذا تقرب إليَّ بشبر تقربت إليه ذراعاً" أن العبد إذا تقرب إلى ربه بطاعته والإقبال عليه، أن الرب تعالى يزيده قرباً إليه، جزاءً من جنس عمله، وأكثر من قرب العبد الذي حصل باختياره.
وقال: "فإذا قرب العبد من ربه بالإنابة إليه، قرب الرب إليه، فيدنو قلبه من ربه، وإن كان بدنه على الأرض، ومتى قرب أحد الشيئين من الآخر، صار الآخر إليه قريباً بالضرورة، وإن قدر أنه لم يصدر من الآخر تحرك بذاته، كما أن من قرب من مكة، قربت مكة إليه"( ).
وقال أيضاً: "ومن الناس من غلط فظن أن قربه -تعالى- من جنس حركة بدن الإنسان إذا مال إلى جهة انصرف عن الأخرى.
والإنسان يجد عمل روحه يخالف عمل بدنه، فيجد نفسه تقرب من نفوس كثير من الناس، من غير أن ينصرف عمن هي قريبة منه، وكذلك يجد نفسه تبعد بعيداً عن بعض النفوس بعداً غير ما يقوم بالبدن"( ).
وقال أيضاً:" وليس بين الرب والعبد إلا محض العبودية، فكلما كمل العبد عبودية ربه قرب إليه -تعالى-؛ لأنه – سبحانه – بر، جواد، محسن، يعطى العبد ما يناسبه، فكلما عظم فقره إليه، كان أغنى له، وكلما عظم ذله له، كان أعز له، فإن النفس- لما فيها من أهوائها المتنوعة، وتسويل الشيطان لها – تبعد عن الله –تعالى- حتى تصير ملعونة بعيدة عن الرحمة، واللعنة هي: البعد عن الله ورحمته.
ومن أعظم ذنوب العبد: علوه في الأرض، ونسيانه ربه، ولهذا لما كان السجود هو غاية سفول النفس، صار أقرب ما يكون العبد من ربه وهو ساجد، وكذلك الذكر المتضمن للإقبال على الله، والخضوع له "( ).
ص229
"وقوله: من تقرب إليَّ بشبر تقربت إليه ذراعاً…" إلخ، هذا قربه -تعالى- من عابده، وأما قربه من داعيه فكما في الآية: {وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ} ( )، وقربه تعالى من عابده وداعيه قرب خاص، أخص من قرب الإنابة وقرب الإجابة، الذي لم يثبت أكثر المتكلمين سواه"( ).
"فالداعي والساجد تتوجه روحه إلى الله -تعالى-، والروح لها عروج يناسبها فتقرب من الله -تعالى- بلا ريب، بحسب تخلصها من الشوائب، فيكون الله – عز وجل – منها قريباً، قرباً يلزم منه قربها.
ويكون منه قرب آخر، كقربه عشية عرفة، وفي جوف الليل، وإلى من تقرب منه شبراً، تقرب منه ذراعاً"( ).
قلت: وبهذا يتبين أن قربه -تعالى- من عباده نوعان:
أولهما: قربه -تعالى- من قلوب المؤمنين، وقرب قلوبهم منه، وهذا أمر معروف لا يجهل، فإن القلوب تصعد إليه على قدر ما فيها من الإيمان والمعرفة به تعالى، وذكره، وخشيته، والتوكل عليه، وهذا متفق عليه بين الناس، لم ينكره منهم أحد.
والثاني: ما دل عليه هذا الحديث – الذي نحن بصدد شرحه – ونحوه، مثل قربه عشية عرفة، وقربه آخر الليل، كما ثبتت بذلك النصوص، وهذا القرب ينكره أكثر المتكلمين، من الجهمية، والمعتزلة، والأشعرية، وإنكاره منكر.
قال شيخ الإسلام: "وقربه – سبحانه – ودنوه من بعض مخلوقاته، لا يستلزم أن تخلو ذاته من فوق العرش، بل هو فوق العرش ويقرب من خلقه كيف شاء، كما قال ذلك من قاله من السلف، وهذا كقربه إلى موسى لما كلمه من الشجرة، قال -تعالى-: {وَنَادَيْنَاهُ مِن جَانِبِ الطُّورِ الأَيْمَنِ وَقَرَّبْنَاهُ نَجِيًّا} ( ).
والذين يثبتون تقريبه العباد إلى ذاته، وهو القول المعروف للسلف، والأئمة، وهو قول الأشعري، وغيره من الكلابية، فإنهم يثبتون قرب العباد إلى ذاته، وأما
ص230
دنوه نفسه، وتقربه من بعض عباده، فهذا يثبته من يثبت قيام الأفعال الاختيارية بنفسه، وهو مذهب أئمة السلف، وأئمة الإسلام المشهورين، وأهل الحديث، والنقل عنهم بذلك متواتر"( ).
وقوله: "وإن أتاني يمشي أتيته هرولة" الهرولة: السرعة في المشي، بين المشي والعدو، وهو تمثيل لكرم الله وجوده على عبده، وأنه إذا أقبل إليه، فهو – سبحانه – أسرع إقبالاً وتفضلاً على عبده، من غير مقابل يناله من العبد، بل هو الغني بذاته عن كل ما سواه، وكل ما سواه فقير إليه، ويؤخذ من الحديث: عظم فضل الله وكرمه، وعظم فضل الذكر.]] (شرح كتاب التوحيد من صحيح البخاري 223-230)