الحمد لله مدبر الأمور تدبيرا، وصلى الله على المبعوث للعالمين بشيرا ونذيرا، وعلى أهل بيته المطهرات من كل رجس تطهيرا، وعلى جميع صحبه ومن استن بهديهم إلى يوم الدين وسلم تسليما كثيرا. أما بعد
فهذه قصة من عالم الواقع وقعت أحداثها في أسرتي، سأسردها عليكم بعيدا عن التفصيل الممل أو الاختصار المخل.
منذ سنوات طويلة سكن والديّ في منزل متواضع في إحدى القرى أو الأرياف التي تنعم بفضل من الله بالهدوء والأمان وجمال الطبيعة. وقد رزق الله والديّ البنين والبنات وكنت أنا آخر العنقود.
وقبل أن أولد بأشهر، قابل والدي زائرا أجنبيا عنا كان قد وصل إلى بلدتنا منذ فترة بسيطة. وفي الحقيقة كان والدي مشدوها بهذا الزائر الغريب، فما مضت أيام قلائل على دخوله قريتنا حتى دعاه أبي إلى منزلنا ليعيش بيننا كأحد أفراد الأسرة.
استجاب هذا الزائر للدعوة، وأصبح جزءا من كيان هذه الأسرة التي ولدت لها بعد أشهر قليلة. وفي الواقع ترعرعت في ظل أسرتي من غير أن أسأل عن وضعه بيننا حيث كان لكل منا في هذه الأسرة وضعه ومكانته.
كان أخي عمر الذي يكبرني بخمس سنين قدوتي ومثلي الأعلى. أما أختي فاطمة فقد أعطتني الفرصة كي أمارس معها دور "الأخ الأكبر" وأن أطور قدراتي في فن المزاح. أما والديّ، فكانا بسيطين في تنشئتنا. والدتي علمتني حب كلمة (الله) وعلمني أبي طاعته. أما الغريب فكان يمثل دور الحكواتي.
كان يجلس إلينا طوال اليوم يحكي لنا القصص والمغامرات المثيرة ويلقي إلينا النكت المضحكة. كان لديه من المقدرة العجيبة أن يجمع الأسرة حوله لعدة ساعات كل مساء. وكان محيطا بكل شيء تقريبا، فإذا ما سألته عن السياسة أو التاريخ أو العلوم وجدت عنده الجواب. كان عنده إلمام بالماضي وفهم الحاضر، كانت عنده مقدرة رهيبة على تصوير الأمور وهو يحكيها بصورة تكاد تكون حية طالما جعلتني أضحك معها أحيانا أو أبكي.
مع مرور الأيام أصبح هذا الزائر صديق الأسرة. فقد أخذ والدي وأخي لمشاهدة لعبة كرة القدم، وكان دائما ما يشجعنا على رؤية الأفلام حتى أنه رتب لنا لقاء كثير من نجوم الفن من الممثلين والمغنين والراقصات.
كان ضيفنا كثير الكلام، بل يكاد لا يتوقف عن الثرثرة. ويظهر أن والدي لم يكن ليعبأ بثرثرته. أما والدتي فقد كانت تنسحب بهدوء إلى غرفتها أحيانا لتقرأ القرآن أو لأداء الصلاة. لا أدري ولعلها كانت تدعو الله أن يغادرنا هذا الضيف. فوالدي كان يفرض على الأسرة بعض القيم الأخلاقية، إلا أن هذا الزائر لم يكن ليعير هذه القيم أي اهتمام. خصوصا وأننا لم نعتد على سماع الكلمات البذيئة في المنزل.
أما صاحبنا الذي طالت زيارته فكان يتلفظ بما يخدش الحياء من وقت لآخر ما جعل والدي يتلوى في صمت. ولعلمي لم يواجه أحد هذا الزائر بما يوقفه عند حده.
كان والدي نوعا ما ملتزما بالدين، لا يسمح بدخول الخمرة إلى المنزل حالة كل مسلم، إلا أن هذا الزائر شعر بضرورة تنويرنا وتبصيرنا بالنمط الآخر من الحياة. كان يعرض علينا من وقت لآخر تناول البيرة وأنواعا أخرى من الخمور. وبين الفينة والأخرى يصور لنا الدخان وكأنه لذيذ الطعم والسيجار كأنه رمز الرجولة والغليون رمز التميز. كان يحدثنا عن الجنس بحرية، ولعلها كانت أحيانا من نوع الإباحية المطلقة. أما تعليقاته حول الجنس فكانت أحيانا فجة، وأحيانا أخرى فيها الترغيب والتشجيع، لكنها في جميع أحوالها مخجلة. ولا أخفي سرا تأثيره على مفهومي حول العلاقة بين الرجل والمرأة.
وحين أعود بذاكرتي إلى الوراء أحمد الله تعالى أن لم يكن لهذا الزائر كبير أثر علينا، رغم تكرار اعتراضه على القيم التي نشأنا عليها.
ومع كل هذه التجاوزات لا أذكر أنه قد وبخ أو طلب منه أحد المغادرة. ثلاثون عاما مضت منذ انتقل هذا الزائر إلى بيتنا، ولكن لو قدر لي أو لأحدكم الذهاب لمنزل والدي لرآه جالسا في إحدى الزوايا ينتظر من يستمع لثرثرته الفارغة. فهل عرفتم هذا الزائر؟
(تعريب الحجاج بتصرف)