بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله رب العالمين و الصلاة و السلام على نبينا محمد و على آله و صحبه الطيبين الطاهرين ، أما بعد :
فقد صحّ عنه عليه الصلاة و السلام أنه قال « اقْتَدُوا بِاللَّذَيْنِ مِنْ بَعْدِي مِنْ أَصْحَابِي : أَبِي بَكْرٍ ، وَعُمَرَ ، وَاهْتَدُوا بِهَدْيِ عَمَّارٍ ، وَتَمَسَّكُوا بِعَهْدِ ابْنِ مَسْعُودٍ » أي إذا عهد إليكم عهدًا فتمسكوا به .
و صحّ عنه أيضاً عليه الصلاة و السلام أنه قال « رضيت لأمتي ما رضي لها ابن أم عبد » ولهذا كان بن مسعود صاحب وصايا .
و من وصاياه رضي الله عنه ، هذه الوصية العظيمة :
قال – رضي الله عنه – لأصحابه ، محذرًا وموصيًا وعاهدًا إليهم ، بل وإلى أمة محمد – صلى الله عليه وسلم – : إِنَّهَا سَتَكُونُ هَنَاتٌ وَأُمُورٌ مُشْتبِهَاتٌ, فَعَلَيْكَ بِالتُّؤَدَةِ ، فَتَكُونُ تَابِعًا فِي الْخَيْرِ خَيْرٌ مِنْ أَنْ تَكُونَ رَأْسًا فِي الشَّرِّ .
لو نظرنا إلى مقتل عثمان – رضي الله عنه – وما حصل لعلي – رضي الله عنه – وما كان بينه وبين معاوية – رضي الله عنه – إلى آخر ما حدث ، وبداية الفرقة في الأمة ، وبداية الأقوال ، وبداية الأخذ والرد ، وتنوع الأفكار والأفهام ، لوجدنا أن من أهم أسبابها العجلة في الحكم ، وعدم التأني .
ولهذا فإن ابن مسعود وصى أصحابه بالتؤدة ، فإن الرجل أن يكون تابعا في الخير ، خير من أن يكون رأسًا في الضلالة .
وإذا أردنا أن نتكلم عن معنى قوله ” مشتبهات ” فيجب أولا أن نعلم أن العلم نوعان : محكم ، ومتشابه ، أو مشتبه .
أما المحكم فهو ما تعلمه حقًّا بدليله ، أو تعلمه حقًّا من كلام أهل العلم الراسخين المؤتمنين على كلام الله – جل وعلا – وعلى كلام رسوله – صلى الله عليه وسلم – وهو الذي قال الله – جل وعلا – فيه ﴿ هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ مِنْهُ آيَاتٌ مُحْكَمَاتٌ هُنَّ أُمُّ الْكِتَابِ ﴾ [ آل عمران : 7 ] .
فهذه المحكمات هي الواضحة البيّنة ، التي علمتها ، وعلمت ما فيها من المعنى ، وأخذت بها .
لكن هناك أمور مشتبهات ، تحدث بين الناس ، ولا يجوز لك أن تنساق في المشتبهات والمتشابهات وَفق رأيك وهواك ، بل لا بد أن تَرُدّ المشتبهات إلى الشرع ، قال –تعالى – ﴿ مَا فَرَّطْنَا فِي الْكِتَابِ مِنْ شَيْءٍ ﴾ [ الأنعام : 38 ] ، فلا خير إلا دلنا عليه رسول الله – صلى الله عليه وسلم – ولا شر إلا حذّرنا منه .
فإذا أقبلت المتشابهات فعليك بالتؤدة ، ولا تعجل ، والنبي – صلى الله عليه وسلم – قد أثنى على أشج عبد القيس ، فقال : « إن فيك خَصلتين يحبهما الله : الحلم والأناة » .
فالتؤدة والأناة والرفق صفات محبوبة لله – جل وعلا – ولرسوله – صلى الله عليه وسلم – ولهذا ثبت في الصحيح أن النبي – صلى الله عليه وسلم – قال : « إِنّ اللّه رفِيقٌ يُحِبُّ الرِّفْق ، ويُعْطِي على الرِّفْقِ ما لا يُعْطِي على الْعُنْفِ ، وما لا يُعْطِي على ما سِواهُ » .
وقد دخل رجل يهودي إلى بيت النبي – صلى الله عليه وسلم – فقال : للنبي – عليه الصلاة والسلام – : السام عليك . – والسام يعني الموت – فقال النبي – عليه الصلاة والسلام – : « وعليك » . فسمعت عائشة – رضي الله عنها – هذا الكلام فغضبت لرسول الله – صلى الله عليه وسلم – فقالت لليهودي : وعليك السام واللعنة . فقال لها – عليه الصلاة والسلام – : « يا عائِشةُ إِنَّ اللَّهَ رَفِيقٌ يُحِبُّ الرِّفْقَ فِي الأمْرِ كُلِّهِ » . فقالت : أَوَلَمْ تَسْمَعْ ما قالُوا ؟ قال : « قُلْتُ وَعَلَيْكُمْ ».
وقد ثبت أيضًا في صحيح مسلم وغيره أن النبي – صلى الله عليه وسلم – قال : « إِنَّ الرِّفْقَ لا يكُونُ فِي شيْءٍ إِلاَّ زانهُ ولا يُنْزَعُ مِنْ شيْءٍ إِلاَّ شانهُ » .
هذه وصية ابن مسعود – رضي الله عنه – بالتؤدة والأناة في الأقوال والأفعال ، لا سيما في الأمور المشتبهات ، فإذا عرض لك أمر من الأمور المشتبهات ، التي لا تدري كيف ترجعها ، ولا تدري هل تفعل فيها كذا ، أو تفعل فيها كذا ، لا تدري ماذا تقول فيها ، فماذا تعمل ؟
في مثل هذه الحالة ، عليك بالتؤدة والأناة –عملا بوصية ابن مسعود – لأنه لا يجوز لك أن تتصرف تصرفًا إلا عن علم ، فإذا تصرفت عن جهل ، فأنت حسيب نفسك ، وتصرفك عليك ، لكن لا يجوز أن تتصرف إلا بعلم ، لأن العلم به النجاة ، والجهل فيه هلاك الناس .
فلا تتكلم إلا بكلام تعلم حُسنه في الشرع ، فإن كنت عاميًّا ، أو طالب علم ، فاسأل أهل العلم الراسخين فيه ، فسوف يبصرونك فيما ترى ، فإذا ساقوا الأدلة على قولهم ، كنت قد اعتقدت الحق بدليله .
وإذا أتاك من يقول لك فكرة غريبة ، كأن يقول كلامًا جديدًا على سمعك ، لم تسمعه من قبل ، فعليك أن تتَّئِد وتترفق حتى تسأل أهل العلم ، كي تكون فيما تقبل ، وما لا تقبل سائرًا على وفق العلم ، عملا بوصية ابن مسعود –رضي الله عنه – .
فالفتن إذا أقبلت تشابهت ، وإذا أدبرت عرفها كل أحد ، كما قال السلف ، إذا أقبلت الفتن أشكلت على غالب الناس ، لا يعرفها ، ويعرف المخرج منها إلا أهل العلم ، ولكن إذا أدبرت وانتهت عرفها كل أحد ، حين تقع يعرفها أهل العلم الراسخين ، الذين هم ليسوا من أهل الزيغ ، قال الله – جل وعلا – في كتابه ﴿ مِنْهُ آيَاتٌ مُحْكَمَاتٌ هُنَّ أُمُّ الْكِتَابِ وَأُخَرُ مُتَشَابِهَاتٌ فَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ فَيَتَّبِعُونَ مَا تَشَابَهَ مِنْهُ ﴾ [ آل عمران : 7 ] ، فالذي في قلبه زيغ يتبع المتشابه ، وأما الراسخ في العلم ، فهو الذي يعلم تأويله قال ﴿ فَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ فَيَتَّبِعُونَ مَا تَشَابَهَ مِنْهُ ابْتِغَاءَ الْفِتْنَةِ وَابْتِغَاءَ تَأْوِيلِهِ وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلَّا اللَّهُ وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ ﴾ [ آل عمران : 7 ] على أحد الوجهين في الوقف ، أن الراسخين في العلم يعلمون تأويل ما اشتبه على أكثر الناس ، لأنهم راسخون في العلم .
فإذا أتت الأمور المشتبهات ، فوصية ابن مسعود – رضي الله عنه – أن يكون المرء متئدًا مترفقًا .
ثم قال معللًا : فإن الرجل يكون تابعًا في الخير ،خير من أن يكون رأسًا في الضلالة .
إذا أقبلت الأمور المتشابهة ، سواء في أحوال المجتمع ، أو في البيت ، أو في مجلس ، أو في عمل ، أو غير ذلك ، ترى بعض الناس ، يغلي قلبه ، يريد أن يكون رأسًا فيها ، ومتقدمًا فيها ، وترى آخر يتأنى .
لا شك أن في التأني السلامة ، لأن الأمور المتشابهة إذا أقبلت ، فإنك إذا أتيتها ، ربما كانت عاقبتها إلى ضلالة ، لأنك دخلت فيها دون معرفة شرعية صحيحة ، والعلة أن تكون تابعًا في الخير ، خيرٌ من أن تكون رأسًا في الضلالة ، لأن المحاسبة يوم القيامة ستكون على ما عملت ، لا على كونك كنت رأسًا ، أو كنت تابعًا ، فمن عباد الله من يُحتقر ، ولا يُؤبه له ، ولكن لو أقسم على الله لأبرَّه .
نسأل الله الكريم من فضله ، ووصيتي لنفسي ولإخواني : أن نستمسك بعهد ابن أم عبد ، لأن النبي – صلى الله عليه وسلم – هو الذي أوصانا بذلك ،
ثم الوصية الأخرى : أن نتدبر كلمات السلف ، فأقبلوا عليه وتأملوها ، ولا تمروا عليها مر الكرام ، لكن قفوا عندها ، وتأملوا ماذا يدل عليه الكلام ، وتدبروا ، فالتدبر فيه الخير ، وأما العجَلة فيُحرَم معها المرء خيرا كثيرًا .
أسأل الله – جل وعلا – أن يفقهنا في دينه ، وأن يغفر لنا ذنوبنا – وما أعظمها – وأن يغفر لنا زلاتنا ، وأن يختم لنا برضاه ، وأن يجعلنا من الذين إذا سمعوا عمِلوا ، وإذا عملوا أخلصوا .
نقلاً من محاضرة بعنوان : عهد ابن أم عبد رضي الله عنه ، لفضيلة الشيخ : صالح بن عبدالعزيز آل الشيخ حفظه الله ، مُفرّغة على هذا الرابط
http://salehalshaikh.com/wp2/?p=518