ذكر الله تعالى في سورة الحج أصناف أهل الضلال وهم ثلاثة كما قال ابن القيم رحمه الله في الصواعق فقال تعالى عن الصنف الأول:
"وَمِنْ النَّاسِ مَنْ يُجَادِلُ فِي اللَّهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ وَيَتَّبِعُ كُلَّ شَيْطَانٍ مَرِيدٍ (3) كُتِبَ عَلَيْهِ أَنَّهُ مَنْ تَوَلاَّهُ فَأَنَّهُ يُضِلُّهُ وَيَهْدِيهِ إِلَى عَذَابِ السَّعِيرِ (4)"
فهذا الصنف هو المتبع لأهل الضلال، المتكلم بلسانهم، الذاب عنهم، ينعق بما لا يسمع إلا دعاء ونداء، فخلقه الله سميعا بصيرا ولكنه أبى إلا الضلال، فهو أصم على الحقيقة، أعمى على الحقيقة، وهذا من شرار الخلق، فهو لا يعرف الهدى ولا يعرف أهل الهدى، فتولى شياطين الإنس والجن وضل بضلالهم، ومن اتبع الشيطان المريد وتولاه يضله ويهديه إلى عذاب السعير، فهذا حال هذا الصنف الشقي.
وأما الصنف الثاني فقال سبحانه وتعالى فيه:
"وَمِنْ النَّاسِ مَنْ يُجَادِلُ فِي اللَّهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ وَلا هُدًى وَلا كِتَابٍ مُنِيرٍ (8) ثَانِيَ عِطْفِهِ لِيُضِلَّ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ لَهُ فِي الدُّنْيَا خِزْيٌ وَنُذِيقُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ عَذَابَ الْحَرِيقِ (9) ذَلِكَ بِمَا قَدَّمَتْ يَدَاكَ وَأَنَّ اللَّهَ لَيْسَ بِظَلاَّمٍ لِلْعَبِيدِ (10)"
وهذا الصنف هو المتبوع الذي أضل الصنف الأول، وهذا الصنف نفى الله عنه العلم والهدى والكتاب المنير، وأما الصنف الأول فنفى الله تعالى عنه العلم واكتفى بهذا العموم لأنه إمعة مقلد وضلاله فرع على ضلال متبوعه.
ونفي العلم وهذا عام للأصناف التالية له ولغيرها، فهؤلاء ليس لهم علم بعقل ولا بنقل، لا بصيرة بما سيقع ولا بصر بما هو واقع، وهم كذلك مخالفون للوحي، مخالفون للكتاب والسنة، فانتفى عنهم العلم والكتاب المنير، ثم انتفى عنهم سلامة القصد والنية، فليسوا على هدى، فهم بهذا شر متبوع لشر تابع.
وأما الصنف الثالث فقال سبحانه وتعالى فيه:
"وَمِنْ النَّاسِ مَنْ يَعْبُدُ اللَّهَ عَلَى حَرْفٍ فَإِنْ أَصَابَهُ خَيْرٌ اطْمَأَنَّ بِهِ وَإِنْ أَصَابَتْهُ فِتْنَةٌ انقَلَبَ عَلَى وَجْهِهِ خَسِرَ الدُّنْيَا وَالآخِرَةَ ذَلِكَ هُوَ الْخُسْرَانُ الْمُبِينُ (11) يَدْعُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لا يَضُرُّهُ وَمَا لا يَنْفَعُهُ ذَلِكَ هُوَ الضَّلالُ الْبَعِيدُ (12) يَدْعُوا لَمَنْ ضَرُّهُ أَقْرَبُ مِنْ نَفْعِهِ لَبِئْسَ الْمَوْلَى وَلَبِئْسَ الْعَشِيرُ (13)"
وهذا الصنف هو الذي يعبد هواه، فأينما وجد شهوته اتبعها، إذا كان ما يهواه من الرياسة والمال في التزام أمر الله التزمه، وإذا كان ما يهواه من الرياسة والمال في اتباع أهل الأهواء والضلال انقلب على وجهه فهو عبد لهواه.
والمتأمل في أحوال أهل الفتنة اليوم يجدهم أحد هؤلاء الثلاثة، وأهل الضلال لا يخرجون عن هذه الثلاثة.
ففي قلب هذه الفتنة تجد من يؤز الناس عليها ويدفعهم إلى أتونها دفعا، وهو ممن صدق عليه قول الله فلا علم ولا هدى ولا كتاب منير، فهم مخالفون للكتاب والسنة، يخرجون النساء من الخدور ويدفعون بالرجال إلى مناحرهم ويحرضون الناس على قتال الفتنة ويكفرون المسلمين ولا يأكلون بعض ذبائحهم، وهم بعد من الطاعنين في علماء أهل السنة، تجد بعضهم يقول عن إمام أهل السنة الشيخ الألباني رحمه الله أنه من جهمية المرجئة، ويلمز أهل السنة بالعمالة، وتجد بعضهم يقول عن علماء السنة أنهم لا يعرفون ما يسمونه بفقه الواقع، ثم هو يماشي كل مبتدع يوافقه على تأجيج الفتنة، بل يماشي النصارى حين يساعدونه على فتنته، وبعد كل هذا فهم حرب على أهل السنة على الدوام، وهذا حال أكابرهم لا علم ولا كتاب منير، ولا هدى فهم من أبغض الناس لأهل السنة وإن شابهوهم في اللباس وشيء من السمت الظاهر.
ومع هؤلاء في الفتنة أتباعهم، لا علم لهم، ينعقون بقول متبوعيهم، لم يستضيئوا بنور الوحي ولم يفهموا شيئا من مقاصد الشريعة، هم همج رعاع أتباع كل ناعق، ثم هم مع جهلهم يجادلون عن باطل متبوعيهم بألسنة حداد سليطة، وهم حطب الفتنة وهم من يحترق بنارها، هم أشبه شيء بالمريدين مع شيخ الطريقة، فكل قول لشيخهم عندهم شرع متبع، وكل طاعن في شيخهم عندهم زنديق خائن عميل.
وفي ظهر هؤلاء ويتخللهم الصنف الثالث من أصحاب الشهوات، تجدهم معهم في الرياسة والمأكلة، فحين تكون الدائرة مع شيوخ الضلال وشياطين الفتنة تجده معهم يدفعهم ويعينهم ويأكل من غنيمتهم، وإذا كانت الدائرة عليهم ذهب مع من عنده الرياسة والمأكلة، وهو على كل أحواله مفتون تابع لهواه، مخنث العزم فاسد الإرادة إن علم الصواب، غير مكترث بالحق إن غاب عنه علمه,
ولكن الله تعالى، خلص من بين كل هؤلاء أهل السنة، جند الرحمن وعساكر الإيمان وذكر وصفهم فقال تعالى:
"إِنَّ اللَّهَ يُدْخِلُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الأَنْهَارُ إِنَّ اللَّهَ يَفْعَلُ مَا يُرِيدُ (14) مَنْ كَانَ يَظُنُّ أَنْ لَنْ يَنصُرَهُ اللَّهُ فِي الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ فَلْيَمْدُدْ بِسَبَبٍ إِلَى السَّمَاءِ ثُمَّ لِيَقْطَعْ فَلْيَنظُرْ هَلْ يُذْهِبَنَّ كَيْدُهُ مَا يَغِيظُ (15) وَكَذَلِكَ أَنزَلْنَاهُ آيَاتٍ بَيِّنَاتٍ وَأَنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَنْ يُرِيدُ (16)"
وهؤلاء هم الخلص من عباد الله، وهم أهل الجنان الذين لم يتلبسوا بفتنة ومرت الفتنة عليهم فحالهم قبلها كحالهم بعدها، دينهم لا يتغير ولا يتبدل، لم يتلطخوا فيها بدم مسلم، ولم يفسدوا فيها البلاد والعباد، ولم يزرعوا البغضاء في قلوب العوام لأصحاب الديانة والشريعة، بل نصحوا لله وبينوا وإن رفضهم الناس، وإن أجلب عليهم أهل البدع بخيلهم ورجلهم.
لم يحلوا ما حرم الله من سياسة غير شرعية على هدي اليهود والنصارى، ولم يركنوا إلى النصارى والعلمانيين، ولم يطلبوا الدنيا بالدين ولم يرضوا بالخساسة في طلب الرياسة، بل علموا الحق ورحموا الخلق ونشروا السنة وقمعوا البدعة، حجتهم بينة داحضة من الكتاب والسنة، ومن كان يظن أن النصر في الدنيا والآخرة ليست على منهاجهم وسبيلهم فليخنق نفسه بحبل يعلقه في سقف داره، فإذا اختنق فليقطع الحبل ولينظر هل ذهب ما يجد في صدره من الغيظ من استبطاء النصر والرزق.
فالله الله عباد الله في أنفسكم، لا تكونوا من الشياطين الذين يؤججون نيران الفتنة، ولا تكونوا من أتباع الشياطين حطب الفتنة، ولا تكونوا عبيد الهوى والشهوة، بل عليكم بمنهاج النبوة، واتبعوا أهل السنة والزموهم فهم قد عرفوا الفتنة من أول يوم، وحذروا منها قبل أن تقع وحين وقعت وفي مبتدئها وفي وسطها وحين هاجت واصفرت فأعجبت أصحابها وهم اليوم يحذرون منها، فالحذر الحذر من الفتنة.