المبحث الرابع شبهات وردود
الشبهه الأولى قول ابن عباس "كفر دون كفر" وقصه أبي مجلز مع الخوارج:
يحتج المنافحين عن الطواغيت وحكمهم الوثني أن الحاكم بغير ما أنزل الله لا يكفر مطلقًا إلا إذا استحل بما ورد عن ابن عباس في قوله تعالى
{وَمَن لَّمْ يَحْكُم بِمَا أَنزَلَ اللَّهُ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ} أنه كفر لا يخرج من الملة، كذلك بأثرين رواهما الطبري في التفسير (1):
أحدهما: قال حدثنا محمد بن عبد الأعلى , قال: ثنا المعتمر بن سليمان , قال: سمعت عمران بن حدير , قال: أتى أبا مجلز ناس من بني عمرو بن سدوس , فقالوا: يا أبا مجلز , أرأيت قول الله: {وَمَن لَّمْ يَحْكُم بِمَا أَنزَلَ اللَّهُ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ} [المائدة: 44] أحق هو؟ قال: نعم. قالوا: {وَمَن لَّمْ يَحْكُم بِمَا أنزَلَ اللَّهُ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ} [المائدة: 45] أحق هو؟ قال: نعم. قالوا: {وَمَن لَّمْ يَحْكُم بِمَا أَنزَلَ اللَّهُ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ} [المائدة: 47] أحق هو؟ قال: نعم. قال: فقالوا: يا أبا مجلز , فيحكم هؤلاء بما أنزل الله؟ قال: هو دينهم الذي يدينون به , وبه يقولون , وإليه يدعون , فإن هم تركوا شيئا منه عرفوا أنهم قد أصابوا ذنبا. فقالوا: لا والله , ولكنك تفرق. قال: أنتم أولى بهذا مني لا أرى وإنكم ترون هذا ولا تحرجون , ولكنها أنزلت في اليهود والنصارى وأهل الشرك , أو نحوا من هذا"
الثاني: قال وحدثني المثنى , قال: ثنا حجاج , قال: ثنا حماد , عن عمران بن حدير , قال: قعد إلى أبي مجلز نفر من الإباضية , قال: فقالوا له: يقول الله: {وَمَن لَّمْ يَحْكُم بِمَا أَنزَلَ اللَّهُ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ} [المائدة: 44] , { فَأُوْلَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ } , {فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ} قال أبو مجلز: إنهم يعملون ما يعملون , يعني الأمراء , ويعلمون أنه ذنب. قال: وإنما أنزلت هذه الآية في اليهود والنصارى. قالوا: أما والله إنك لتعلم مثل ما نعلم , ولكنك تخشاهم. قال: أنتم أحق بذلك منا , أما نحن فلا نعرف ما تعرفون ولكنكم تعرفونه , ولكن يمنعكم أن تمضوا أمركم من خشيتهم "
قالوا وهذا يدل على أن التكفير لغير المستحل هو رأي الخوارج.
والجواب على هذا من وجوه:
أحدها:الوقوف على ثبوت الأثر عن ابن عباس؛ فلا يصح أن نناقش دلاله روايه ما لم تثبت صحتها!
فأقول وبالله تعالى التوفيق روي عن ابن عباس في تفسير هذه الآيه ثلاث روايات:
أما الأولى أخرجها الطبري في تفسيره (2) عن المثنى، وابن أبي حاتم في تفسيره (3) عن أبيه، كلاهما عن أبي صالح قال ثني معاوية بن صالح , عن علي بن أبي طلحة , عن ابن عباس , قوله:
{وَمَن لَّمْ يَحْكُم بِمَا أَنزَلَ اللَّهُ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ} [المائدة: 44] قال: " من جحد ما أنزل الله فقد كفر , ومن أقر به ولم يحكم فهو ظالم فاسق".
قلت: تفرد به أبو صالح عن معاويه بن صالح عن علي بن أبي طلحه عن ابن عباس.
أما أبو صالح: فهو عبد الله بن صالح بن محمد بن مسلم الجهنى أبو صالح المصرى كاتب الليث بن سعد.
وثقه ابن معين وقال أبو زرعه صالح. (4)
وقال عبد الله بن أحمد: سألت (يعني أباه) عن عبد الله بن صالح، كاتب الليث. فقال: كان أول أمره متماسكاً، ثم فسد بأخرة، وليس هو بشيء. (5)
وقال عبد الله: سمعتُ أَبي ذكر كاتب الليث بن سعد، عبد الله بن صالح، فذمه وكرهه. (6)
وقال زياد بن أيوب: نهاني أحمد بن حنبل أن أروي حديث عبد الله بن صالح. (7)
و قال على ابن المدينى : ضربت على حديث عبد الله بن صالح و ما أروى عنه شيئا. (8)
و قال أبو حفص بن شاهين : فى كتاب جدى ، عن ابن رشدين ـ يعنى أحمد بن محمد بن الحجاج بن رشدين بن سعد ـ ، قال : سمعت أحمد بن صالح ، يقول فى عبد الله بن صالح : متهم ليس بشىء ، و قال فيه قولا شديدا. (9)
و قال النسائى : ليس بثقة. (10)
و قال ابن حبان : منكر الحديث جدا يروي عن الأثبات مالا يشبه حديث الثقات وعنده المناكير الكثيرة عن أقوام مشاهير أئمة وكان في نفسه صدوقا. (11)
أما معاويه بن صالح فمختلف فيه؛ (12)
وثقه أحمد وابن معين وابن مهدي.
وتركه موسى بن سلمه ويحيى بن سعيد وأبو اسحاق الفزاري.
قال يعقوب بن شيبة السدوسى : قد حمل الناس عنه ، و منهم من يرى أنه وسط ليس بالثبت و لا بالضعيف ، و منهم من يضعفه وقال أبو حاتم : صالح الحديث ، حسن الحديث ، يكتب حديثه ، و لا يحتج به.
علي ابن أبي طلحه: و اسمه سالم ، ابن المخارق الهاشمى.
قال عنه الإمام أحمد: له أشياء منكرات، رجل من أهل حمص. (13)
وهو ممن يكتب حديثه ولا يحتج به؛ غير أنه لم يسمع من ابن عباس شيئًا بل لم يره!
قال أبو حاتم: سمعت دحيما يقول إن علي بن أبي طلحة لم يسمع من ابن عباس التفسير.
وقال: علي بن أبي طلحة عن ابن عباس مرسل إنما يروي عن مجاهد والقاسم بن محمد وراشد بن سعد ومحمد بن زيد. (14)
وقال عنه ابن معين: لم يسمع من ابْن عَبَّاس شَيْئا. (15)
فالسند تالف والروايه مرسله!
أما الروايه الثانيه فأخرجها سعيد بن منصور في التفسير (749) قال نا سفيان عن هشام بن حجير ، عن طاوس، عن ابن عباس في قوله عز وجل:
{وَمَن لَّمْ يَحْكُم بِمَا أَنزَلَ اللَّهُ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ} قال: "ليس بالكفر الذي تذهبون إليه".
وأخرجه ابن أبي حاتم في تفسيره (6434)، والمروزي في تعظيم قدر الصلاه (569)، والخلال في السنه (1419)، والحاكم في المستدرك (3219) ومن طريقه البيهقي في الكبرى (15854)، من طرق عن سفيان به.
قلت: سفيان هو ابن عيينه كما جاء مصرحًا به في بعض الطرق.
هشام بن حجير:
قال عبد الله بن أحمد: سمعتُ أَبي يقول: هشام بن حجير، مكي، ضعيف الحديث. (16)
وقال عبد الله سَأَلت يحيى - بن معين - عن هشام بن حُجَيْر فضعفه جدا. (17)
وقال ابن المدينى قرأت على يحيى بن سعيد، نا ابن جريج عن هشام بن حجير حديثا، قال يحيى بن سعيد: خليق ان ادعه، قلت أضرب على حديثه، قال نعم. (18)
ووثقه ابن حبان والعجلي.
قلت: والجرح مقدم على التعديل لأنه زيادة علم، فكيف إن كان التوثيق من ابن حبان والعجلي وهم من التساهل بمكان، والتجريح من قبل جهابذة النقاد مثل أحمد والقطان وابن معين!
فالروايه منكره من وجهين، أحدهما تفرد هشام بن حجير بها وحاله كما بينا؛ ثم مخالفته لإبن طاوس وهو إمام فقيه وهي الروايه الثالثه أخرجها عبد الرزاق في التفسير (20/2) ومن طريقه الخلال في السنه (1420)، والمروزي في تعظيم قدر الصلاة (570)، وابن بطه في الإبانه (1009) عن معمر، عن ابن طاوس، عن أبيه، قال: سئل ابن عباس عن قوله: " {
وَمَن لَّمْ يَحْكُم بِمَا أَنزَلَ اللَّهُ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ} [المائدة: 44] قال "هي به كفر " قال ابن طاوس: وليس كمن كفر بالله، وملائكته، وكتبه، ورسله.
واختلف على معمر فرواه سفيان عنه وجعل قول ابن طاوس وليس كمن كفر بالله، وملائكته، وكتبه، ورسله، من قول ابن عباس أخرجه الطبري في التفسير (8/465)، والخلال في السنه (1414)، والمروزي في تعظيم قدر الصلاه (572)، والطبراني في مشكل الأثار (2/318) من طرق عن سفيان عن معمر , عن ابن طاوس , عن أبيه , قال: قال رجل لابن عباس في هذه الآيات: {ومن لم يحكم بما أنزل الله} [المائدة: 44] فمن فعل هذا فقد كفر؟ قال ابن عباس: "إذا فعل ذلك فهو به كفر , وليس كمن كفر بالله واليوم الآخر وبكذا وكذا "
قلت: اذا اختلف أصحاب معمر فالقول لعبد الرزاق؛ روى ابن شاهين عن محمد بن سهل بن عسكر قال سمعت أحمد بن حنبل يقول إذا اختلف أصحاب معمر في حديث معمر فالحديث حديث عبد الرازاق. (19)
كذلك روى ابن عساكر عن حنبل بن إسحاق قال سمعت أحمد بن حنبل يقول إذا اختلف اصحاب معمر فالحديث لعبد الرزاق. (20)
وقال ابن رجب رحمه الله:
"معمر بن راشد حديثه بالبصرة فيه اضطراب كثير، وحديثه باليمن جيد. قال أحمد في رواية الأثرم: حديث عبد الرزاق عن معمر أحب إليَّ من حديث هؤلاء البصريين، كان يتعاهد كتبه وينظر، يعني باليمن، وكان يحدثهم بخطأ بالبصرة. وقال يعقوب بن شيبة: سماع أهل البصرة من معمر حين قدم عليهم فيه اضطراب؛ لأنَّ كتبه لم تكن معه". (21)
فقول "وليس كمن كفر بالله واليوم الآخر وبكذا وكذا " من قول ابن طاوس، كما صرح بذلك عبد الرزاق.
الخلاصة أنه لم يصح عن ابن عباس رضي الله عنهما إلا قوله "هي به كفر". واللفظ مطلق وليس فيه أنه غير مخرج من الملة!
الثاني: إن سلمنا بثبوت قول ابن طاوس عن ابن عباس وجمعنا معه قصه أبي مجلز، فليس لأهل الإرجاء فيه حجة، يقول العلامة أحمد شاكر رحمه الله:
"وهذه الأثار - عن ابن عباس وغيره - مما يتلاعب به المضللون في عصرنا هذا من المنتسبين للعلم، ومن غيرهم من الجرآة على الدين يجعلونها عذرًا أو إباحية للقوانين الوثنية الموضوعة التي ضربت على بلاد الإسلام.
وهناك أثر عن أبي مجلز في جدال الإباضية الخوارج إياه، فيما كان يصنع بعض الأمراء من الجور، فيحكمون في بعض قضائهم بما يخالف الشريعة، عمدًا إلى الهوى، أو جهلا بالحكم.
والخوارج من مذهبهم أن مرتكب الكبيرة كافرة، فهم يجادلون يريدون من أبي مجلز أن يوافقهم على ما يرون من كفر هؤلاء الأمراء، ليكون ذلك عذرًا لهم فيما يرون من الخروج عليهم بالسيف.
وهذان الأثران رواهما الطبري (12025، 12026) وكتب عليهما أخي الشيخ محمود شاكر تعليقًا نفيسًا جدًا، قويًا صريحًا"
فذكر الروايتين رحمه الله ثم قال:
"فكتب أخي السيد محمود بمناسبه هذين الأثرين ما نصه:
اللهم إني أبرأ إليك من الضلالة، وبعد، فإن أهل الريب والفتن ممن تصدروا للكلام في زماننا هذا، قد تلمس المعذرة لأهل السلطان في ترك الحكم بما أنزل الله، وفي القضاء في الدماء، والأعراض، والأموال، بغير شريعة الله التي أنزلها في كتابه، وفي اتخاذهم قانون الكفر شريعة في بلاد الإسلام، فلما وقف على هذين الخبرين اتخذهما رأيًا يرى به صواب القضاء في الأموال والأعراض والدماء بغير ما أنزل الله، وأن مخالفة شريعة الله في القضاء العام لا تكفر الراضي بها والعامل بها.
والناظر في هذين الخيرين لا محيص له من معرفة السائل والمسؤل، فأبو مجلز (لاحق بن حميد الشيباني السدوسي) تابعي ثقة، وكان يحب عليًا رضي الله عنه، وكان قوم أبي مجلز وهم بنو شيبان، من شيعة علي يوم الجمل وصفين، فلما كان أمر الحكمين يوم صفين، واعتزلت الخوارج، كان فيمن خرج على علي رضي الله عنه، طائفة من بني شيبان، ومن بني سدوس بن شيبان بن ذهل، وهؤلاء الذين سألوا أبا مجلز، ناس من بني عمرو بن سدوس (كما في الأثر: 12025)، وهم نفر من الإباضية (كما في الأثر 12026)، والإباضية من جماعة الخوارج الحرورية، وهم أصحاب عبد الله بن إباض التميمي، وهم يقولون بمقالة سائر الخوارج في التحكيم، وفي تكفير علي رضي الله عنه إذ حكم الحكمين، وأن علياً لم يحكم بما أنزل الله في أمر التحكيم، ثم إن عبد الله بن إباض قال: إن من خالف الخوارج كافر ليس بمشرك، فخالف أصحابه، وأقام الخوارج على أن أحكام المشركين تجري على من خالفهم.
ثم افترقت الإباضية بعد عبد الله بن إباض الإمام افتراقاً لا ندري معه –في أمر هذين الخبرين- من أي الفرق كان هؤلاء السائلون، بيد أن الإباضية كلها تقول: إن دور مخالفيهم دور توحيد، إلا معسكر السلطان فإنه دور كفر عندهم، ثم قالوا أيضاً: إن جميع ما افترض الله سبحانه وتعالى على خلقه إيمان، وأن كل كبيرة فهي كفر نعمة، لا كفر شرك، وأن مرتكبي الكبائر في النار خالدون مخلدون أبداً. ومن البين أن الذين سألوا أبا مجلز من الإباضية، إنما كانوا يريدون أن يلزموه في تكفير الأمراء لأنهم في معسكر السلطان ولأنهم ربما عصوا أو ارتكبوا بعض ما نهاهم الله عن ارتكابه. ولذلك قال لهم في الخبر الأول (رقم: 12025): (فإن هم تركوا شيئاً منه عرفوا أنهم قد أصابوا ذنباً) وقال لهم في الخبر الثاني: (إنهم يعملون بما يعملون ويعلمون أنه ذنب).
وإذن، فلم يكن سؤالهم عما احتج به مبتدعة زماننا من القضاء في الأموال والأعراض والدماء بقانون مخالف لشريعة أهل الإسلام، ولا في إصدار قانون ملزم لأهل الإسلام بالاحتكام إلى حكم غير حكم الله في كتابه وعلى لسان نبيه صلى الله عليه وسلم، فهذا الفعل إعراض عن حكم الله ورغبة عن دينه، وإيثار لأحكام أهل الكفر على حكم الله سبحانه وتعالى، وهذا كفر لا يشك أحد من أهل القبلة على اختلافهم في تكفير القائل به والداعي إليه. والذي نحن فيه اليوم، هو هجر لأحكام الله عامة بلا استثناء، وإيثار أحكام غير حكمه في كتابه وسنة نبيه، وتعطيل لكل ما في شريعة الله بل بلغ الأمر مبلغ الاحتجاج على تفضيل أحكام القانون الموضوع، على أحكام الله المنزلة، وادعاء المحتجين لذلك بأن أحكام الشريعة إنما نزلت لزمان غير زماننا، ولعلل وأسباب انقضت، فسقطت الأحكام كلها بانقضائها، فأين هذا مما بيناه من حديث أبي مجلز والنفر من الإباضية من بني عمرو بن سدوس!!.
ولو كان الأمر على ما ظنوا في خبر أبي مجلز، أنهم أرادوا مخالفة السلطان في حكم من أحكام الشريعة، فإنه لم يحدث في تاريخ الإسلام أن سن حاكم حكما وجعله شريعة، ملزمة للقضاء بها، هذه واحدة، وأخرى: أن الحاكم الذي حكم في قضية بعينها بغير حكم الله فيها، فإنه إما أن يكون حكم بها وهو جاهل، فهذا أمره أمر الجاهل بالشريعة. وإما إن يكون حكم بها هوى ومعصية، فهذا ذنب تناله التوبة، وتلحقه المغفرة، وإما أن يكون حكم به متأولاً حكما خالف به سائر العلماء، فهذا حكمه حكم كل متأول يستمد تأويله من الإقرار بنص الكتاب وسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم وأما أن يكون كان في زمن أبي مجلز أو قبله أو بعده حاكم حكم بقضاء في أمر، جاحداً لحكم من أحكام الشريعة، أو مؤثرًا لأحكام أهل الكفر على أحكام أهل الإسلام، فلذلك لم يكن قط، فلا يمكن صرف كلام أبي مجلز والإباضيين إليه.
فمن احتج بهذين الأثرين وغيرهما في غير بابها، وصرفها إلى غير معناها، رغبة في نصرة سلطان، أو احتيالاً على تسويغ الحكم بغير ما أنزل الله وفرض على عباده، فحكمه في الشريعة حكم الجاحد لحكم من أحكام الله: أن يستتاب، فإن أصر وكابر وجحد حكم الله، ورضي بتبديل الأحكام، فحكم الكافر المصر على كفره معروف لأهل هذا الدين. وكتبه محمود محمد شاكر". (22)
وما قيل في قصة أبي مجلز والإباضية يقال أيضًا فيما روي عن ابن عباس، بل هو أولى لأن الخوارج في عهده كفروا فضلاء الصحابة ومنهم عثمان وعلي رضوان الله عليهم.
الثالث: أنه لم يكن في زمن ابن عباس من يظن مجرد ظن أنه يمكن أن يأتي من يحكم المسلمين بغير شريعه الله، ويسن لهم قوانين وثنية تخالف الكتاب والسنه؛ ويبدل أحكام الله ويعدل عليها ثم يلزمهم بها ويعاقب من يخرج عنها، ثم يشك أحد في كفره!
فلما كان الأمر كذلك وجاء الخوارج وضلوا في فهمهم وأرادوا إلزام الناس بهذا الفهم الضال بين لهم ابن عباس رضي الله عنهما أن ليست الآيه فيما ذهبوا إليه؛ فتأمل.
الرابع: ثبت عن ابن مسعود رضي الله عنه أنه عد الحكم بغير ما أنزل الله كفر أكبر مخرج من الملة رواه أبو يعلى في المسند (5266) قال حدثني محمد، حدثنا عثمان بن عمر، حدثنا فطر بن خليفة، عن منصور، عن سالم بن أبي الجعد، عن مسروق قال: كنت جالسا عند عبد الله، فقال له رجل: ما السحت؟ قال: الرشا، فقال: في الحكم؟ قال: ذاك الكفر، ثم قرأ: {وَمَن لَّمْ يَحْكُم بِمَا أَنزَلَ اللَّهُ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ} [المائدة: 44].
قلت وهذا اسناد صحيح رجاله رجال الشيخين عدا فطر بن خليفة من رجال البخاري وهو حسن الحديث، وإن كان ابن أبي الجعد لا يعرف برواية عن مسروق لكن سماعه منه محتمل، فكلاهما كوفي، ومسروق توفي سنة اثنتين أو ثلاث وستين للهجرة، وأما سالم ذُكر أن وفاته سنة تسع وتسعين، أو مائة، أو إحدى ومائة، غير أنه لم ينفرد به فتابعه سلمة بن كهيل، أخرجه الطبري (8/467) قال حدثني يعقوب بن إبراهيم , قال: ثنا هشيم , قال: أخبرنا عبد الملك بن أبي سليم , عن سلمة بن كهيل , عن علقمة , ومسروق: أنهما سألا ابن مسعود عن الرشوة , فقال: من السحت. قال: فقالا: أفي الحكم؟ قال: ذاك الكفر. ثم تلا هذه الآية: {وَمَن لَّمْ يَحْكُم بِمَا أَنزَلَ اللَّهُ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ} [المائدة: 44] "
وللأثر طرق وشواهد أخرى لا يسع المقام لذكرها.
وأكتفي بهذا إذ حجة مطية الطواغيت لا ترتقي لمقام الشبهه
{فَمَن يُرِدِ اللَّهُ أَن يَهْدِيَهُ يَشْرَحْ صَدْرَهُ لِلإِسْلاَمِ وَمَن يُرِدْ أَن يُضِلَّهُ يَجْعَلْ صَدْرَهُ ضَيِّقًا حَرَجًا كَأَنَّمَا يَصَّعَّدُ فِي السَّمَاء كَذَلِكَ يَجْعَلُ اللَّهُ الرِّجْسَ عَلَى الَّذِينَ لاَ يُؤْمِنُونَ}
ـــــــــــ
(1) انظر الأثرين في تفسير الطبري (8/457).
(2) تفسير الطبري (468/8).
(3) تفسير ابن أبي حاتم (1142/4).
(4) تاريخ بغداد (155/11).
(5) (العلل 212/3، 4919).
(6) (العلل 242/3، 5067).
(7) المجروحين، لابن حبان (41/2).
(8) (9) (10) تاريخ بغداد (155/11).
(11) المجروحين لابن حبان (40/2).
(12) انظر ترجمته في التهذيب (186/28، 6058).
(13) سؤلات الميموني (374).
(14) المراسي،ل لابن أبي حاتم (140).
(15) من كلام الإمام أبي زكريا يحي بن معين في الرجال، روايه ابن طهمان (ص 85).
(16) (العلل 401/1، 818).
(17) المصدر السابق (30/3، 4024).
(18) الجرح والتعديل (54/9).
(19) الثقات، لابن شاهين (180) .
(20) تاريخ دمشق (169/36).
(21) شرح علل الترمذي (766/2).
(22) هامش عمدة التفسير (684/1-685).