بهجة الأنوار للإمام السالمي
-----------------------
الفصل الأَوَّل
في التقيَّة
أجز التقيَّة بقول إن خلص ... مِن نيْلِ ضُرِّ مَن بهِ القولُ يُخَص
وامْنَعْهَا في إتلافِ نفسٍ إن جَنَى ... والخُلْفُ في إتلاف مالٍ ضُمِنَا
التقيَّة إِمَّا أن تكون بالفعل، وسيأتي بيان حكم التقيَّة بالفعل.
وَأَمَّا التقيَّة بالقول فتجوز في موضع وتمنع في موضع آخر، ولها موضع ثالث يختلف في جوازها فيه.
أَمَّا الموضع الذي تجوز فيه فهي ما إذا كان القول ليس فيه ضرر عَلَى أحد من البشر، وكان المجبور قد أُكره عَلَى القول به فَإِنَّهُ يجوز له في هَذَا الموضع أن يدفع عن نفسه ما يخشاه من القتل ونحوه بالقول الذي طُلب منه، ولو كان ذَلِكَ القول شركا، وَهَذَا معنى قوله: (أَجِزْ تقيَّة بقول...) إلخ. وَمَعْنَى قوله: (إن خلص من نيل ضرٍّ...) إلخ، أي إن خلص ذَلِكَ القول من وقوع الضررفي الغير فهو تقييد للجواز،
وجواز ما ذكرناه مأخوذ من الكِتَاب وَالسُّنَّة، فَأَمَّا الكِتَاب فقوله تَعَالىَ:
{إِلاَّ مَنُ اُكْرِهَ وَقَلْبُهُ, مُطْمَئِنُّم بِالاِيمَانِ} (1) ، وَقَوله تَعَالىَ: {اِلآَّ أَن تَتَّقُواْ مِنْهُمْ تُقَاةً} (2) .
وَأَمَّا السنَّة فقوله - صلى الله عليه وسلم - : «عفي عن أمَّتي الخطأ والنسيان وما حدَّثوا به أنفسهم وما أكرهوا عَلَيْهِ». ومن ذَلِكَ ما جرى لعمَّار بن ياسر حين أخذه المشركون فلم يدعوه حَتَّى سبَّ رَسُول اللهِ - صلى الله عليه وسلم - وذكر آلهتهم بخير، فَلَمَّا جاء إِلىَ النَّبِيء - صلى الله عليه وسلم - قال: يا رسول الله، ما أراني إِلاَّ هلكت، فأخبره الخبر، قال: «كيف تجد قلبك؟» قال: مطمئنٌّ بالإيمان، قال: «فإن عادوا فعُدْ».
__________
(1) - ... سورة النحل: 106.
(2) - ... سورة آل عمران: 28.
وَأَمَّا الموضع الذي تمنع فيه التقيَّة بالقول فهو ما إذا كان القول ضررا عَلَى أحد من البشر، كإتلاف نفس الغير، أو قطع عضوه، فَإِنَّهُ لا تجوز لأحد التقيَّة في هَذَا الموضع إذ لا يحلُّ لأحد أن ينجي نفسه بضرر غيره، إذ ليست نفسه أولى بِذَلِكَ من نفس غيره، وَهَذَا معنى قوله: (وامنعها في إتلاف نفس إن جنى) أي: وامنع التقيَّة بالقول في موضع لا يجني فيه القول إتلاف نفس الغير، وكذا حكم عضوه، ومثال ذَلِكَ أن يُكْرِه جَبَّار ذو قدرة معروف بالغشم أحدا مِمَّن يقدر عَلَيْهِ أن يَدُلَّه عَلَى أحد من البشر ليقتله بباطل، أو ليقطع عضوه بغير حقٍّ، وكان قد توعَّده بالقتل إن لم يدلَّه عَلَيْهِ، فلا يجوز لهذا المجبور أن يَدُلَّ الجَبَّار عَلَى ذَلِكَ المطلوب، وإن خاف عَلَى نفسه منه.
وَأَمَّا الموضع الذي يختلف فيه جواز التقيَّة فيه بالقول فهو ما إذا كان في ذَلِكَ القول إتلاف لِمَال الغير، كَأَن يَدُلَّ الجَبَّارَ عَلَى مالٍ لغيره أن يضيِّعه أو يقتله الجَبَّار، فَإِنَّ بَعْضًا قد أجاز له أن يَدُلَّه عَلَى ذَلِكَ مع اعتقاد الضمان له، وَبَعض منع من ذَلِكَ. وَهَذَا معنى قوله: (والخلف...) إلخ. والجواز في هَذَا الموضع أظهر من المنع، لأَنَّ المال لا يقاوم النفس، وَالله سُبْحَانَهُ وَتَعَالىَ أعلم.
ولم تَجُزْ تقيَّة بالفعل ... كالحرق والغرق ومثل القتل
لَكِن جواز ما أبيح للضرر ... كالأكل للميتة والدم اشتهرهَذَا بيان حكم التقيَّة بالفعل. وحكمها أَنَّهَا لا تجوز عند الأصحاب، وَذَلِكَ كحرق النفس وكتغريقها وكقتلها، فَإِنَّ هَذِهِ الصور كلَّها لا يجوز لأحد أن ينجِّي نفسه بفعلها، لَكِن اشتهر عندهم جواز التقيَّة بفعل الأشياء التي أبيح فعلها للمضطرِّ:
- إِمَّا أن يكون به ضرر بالغير كحرق النفس وغرقها وقتلها.
- وَإِمَّا أن يكون ليس فيه ضرر بالغير، لَكِن فيه إتلاف لمال الغير.
- وَإِمَّا أن يكون ليس فيه ضرر للغير ولا إتلاف لماله.
فإن كان فيه ضرر بالغير <253> فهو الممنوع اتِّفَاقًا، وإن كان فيه إتلاف مال الغير فيخرج فيه الخلاف المذكور في جواز التقيَّة بالقول، بشرط ضمان ذَلِكَ المتلف، والذي ليس فيه ضرر بالغير ولا إتلاف لماله نوعان:
- أحدهما: فعل لا يقبل الجبر والإكراه، بمعنى أَنَّهُ لا يتأتَّى فعله عند ذَلِكَ كالزنى، فإن فعله لا يصدر إِلاَّ عن اختيار من الرجل دون المرأة، فلا يحلُّ للرجل التقيَّة به، ولا للمرأة أن تساعد عَلَيْهِ.
- وثانيهما: فعل يقبل الإكراه والجبر، وَذَلِكَ كأكل الميتة وأكل الدم وأكل لحم الخنزير، ونحو ذَلِكَ مِمَّا أبيح لنا فعله في الاضطرار إِلَيْهِ، فأجاز التقيَّة به قوم، ومنعها به آخرون.
وحجَّة|| المجيزين للتقيَّة به أَنَّ هَذِهِ الأشياء قد أباحها الله لنا في حال الاضطرار لها، ومقام الجبر والإكراه مقام اضطرار، فجاز لنا لِذَلِكَ، وَأَيضًا فَإِنَّ الحكمة من شَرعِيَّة الإباحة لفعل ما ذكر عند الاضطرار إِنَّمَا هي حفظ النفس، وهي حاصلة هاهنا.
قال المانعون: إِنَّ إباحة ما ذكر مقيَّدة بالاضطرار في المخمصة، فلا تكون الإباحة في غير المخمصة وإن اضطرَّ إِلىَ فعله، قلنا: ذكر المخمصة في الآيَة لا مفهوم له، وَإِنَّمَا هو جارٍ عَلَى الأغلب من أحوال الاضطرار، فَإِنَّ الغالب من حال الاضطرار إِلىَ أكل ما ذكر إِنَّمَا هو في حال المخمصة، والتقييد بالأغلب المعتاد لا مفهوم له، لأَنَّهُ لم يُذكَر للقيد، فبهذا التحقيق يظهر لك صِحَّة القول بجواز التقيَّة بأكل نحو الميتة، وَالله سُبْحَانَهُ وَتَعَالىَ أعلم.
ومكره جاء بما الحدُّ يجب ... عَلَيْهِ في أن لا يحدَّ نستحب
إذا أُكرِه المُكَلَّف عَلَى فعل شَيْء يجب عَلَى فاعله الحدُّ، كالسرقة والزنى فهل يقام عَلَيْهِ ذَلِكَ الحدُّ أم لا ؟
قال قوم: يقام عَلَيْهِ الحدُّ بِذَلِكَ، لأَنَّهُ فعل موجبه، والتقيَّة بفعله حرام، فلا يدفع عنه الحدُّ بِذَلِكَ.
وقال قوم: يدفع عنه بِذَلِكَ لحصول الشبه بالإكراه، وَفيِ حديث: «ادرؤوا الحدود بالشبهات»، وَهَذِهِ شبهة فلا يقام معها الحدُّ، وَهَذَا القول أظهر، وَدَلِيله أوضح، فقول الناظم: (في أن لا يُحَد نستحب) اختيارا لهذا القول، ومعناه أَنَّ استحبابنا في عدم حدِّه.
واعلم أَنَّ الخلاف الجاري في إقامة الحدِّ مع التقيَّة بنحو الزنى والسرقة لا يجري في التقيَّة بنحو قتل النفس وقطع عضو منها، لأَنَّ في هَذَا الفعل تعلُّق حقٍّ للعباد، فيجب عَلَيْهِ القود والقصاص، والخلاف المُتَقَدِّم آنفا إِنَّمَا هو في موجب الحدود التي لم يكن للخلق فيها حقٌّ. هَذَا ما يظهر لي في تحرير المقام. ثُمَّ إِنِّي أحسب أَنِّي وقفت عَلَى حكاية الخلاف في ثبوت القَوَد عَلَى قاتل المجبور، ووجهه أَنَّ القود قد اختلف فيه هل هو حدٌّ أم حقٌّ، فعلى القول بِأَنَّهُ حدٌّ يسقط بالشبهة ولا يسقط عَلَى القول بِأَنَّهُ حقٌّ للعباد، وَالله أعلم.