معاوية بن أبي سفيان أول المجددين في تاريخ الإسلام
الجزء الأول
يصعب على الثقافة الجمعية التقليدية تقبل هذا الكلام، وقد يحسبه أهلها نوعاً من التعصب وردة الفعل غير الموزونة بميزان العلم. تلك الثقافة التي تخلط بين الدين والسياسة خلطاً يخالف طبيعتهما؛ فالدين - بمعنى العقيدة والعبادة – أمور نصية موقوفة، يغلب عليها الثبات. بينما السياسة أمور مصلحية اجتهادية، يغلب عليها التغير.
أما أنا فأحسب أن الأحداث قادتني إلى التأمل والتعمق أكثر فأدركت أسراراً غابت عن كثير ممن لم يتعرضوا لما تعرضت له، وممن لم يتأملوا ويتعمقوا وإن عاشوا الظرف نفسه وتعرضوا للأحداث عينها.
ولأجل أن نصل إلى رأي متقارب أو متمازج نحتاج إلى قراءة بعض المقدمات:
التجديد ممارسة جماعية
يقول شوقي جلال: "إن الإنسان يفكر إبداعياً حين يعمل، وإذا تعطل العمل غاب العقل المبدع. ونعني بالعمل العمل الاجتماعي القائم على التفاعل المشترك (النسقي) نحو أهداف محددة. ومن ثم يكون الفكر منتَجاً اجتماعياً حين يرتكز على التفاعل الذي يدعم التلاحم والانتماء، والذي يتجسد في مشروع قومي أو استراتيجية تنموية تطورية اجتماعية". ثم يقول: "العمل المجتمعي هو علة التطور والارتقاء في الفكر والجسد، كما وأنه هو أساس تصحيح الأخطاء في الإدراك والتقدير والتوقع. والعمل المجتمعي هو منطلق الشعور بأزمة الفكر في التعامل مع تحديات الواقع؛ وبذا يكون العمل هو الحافز إلى التغيير، ومظهر انتماء الفكر والتاريخ".
ويلفت شوقي النظر إلى ناحية مهمة من النواحي التي تقودنا إلى ضرورة الممارسة الجماعية للتجديد، وخطأ اقتصاره على فرد محدد يصعب عليه نقل فكره إلى الواقع. هذه الناحية هي الحاجة إلى اختبار المنتَج التجديدي لمعرفة خطأه من صوابه؛ وبذلك يتحول العلم إلى معرفة. فيقول: "تؤكد الدراسات أن الإنسان الذي يعمل هو الذي يبدع فكراً ويرتقي سلم التطور الحضاري. إن من يقبع في مكانه والنظارة على عينيه لا يتكيف مع الواقع، على عكس من يتحرك ويحاول العمل بيديه، أي التفاعل مع البيئة، فإن صورة الواقع تتعدل وسرعان ما يتكيف مع الواقع ويتعامل معه بنجاح. إن العمل المجتمعي شرط التكيف مع الواقع المتغير. وهو أداة تلاحم، ومِحك مراجعة، ومعيار صدق،
وشرط الإبداع والتجديد الفكري.
من خلال العمل تتجدد الاحتياجات العملية للمجتمع، ومهام المستقبل، ومعوقات الحركة المادية والفكرية، وتتعدد تيارات الفكر في تفسير الواقع وتتلاقح فيما بينها تناسقياً وإيجابياً.
بالعمل تكون المعرفة رداً على سؤال يطرحه العلم على أرضية الواقع. وإذا تعطل العمل توقفت التساؤلات، وحلق التفكير في فراغ التهويمات العاجية. ويدور الجدل في حيز نظري افتراضي مجرد لا مجال لاختبار صحة فرضيته . فالعمل هو مجال اختبار الفروض، والتكيف ضد أي تشويه مضاد للصورة أو الفكرة"([1]).
إذن من أجل أن يتحول التجديد إلى روح تسري في الأمة، لا بد أن يخرج من نطاقه على مستوى الفرد إلى انطلاقه على مستوى الجماعة. نحن بأمس الحاجة إلى أن نتخلص من المفهوم القديم الذي يفترض لكل قرن مجدداً واحداً، ثم يتعسف في تعيينه من يكون؟ لنعلم أن الإبداع الفردي لا قيمة له في الحياة سوى الإعجاب بالمبدعين، وهذا لا معنى له ولا ثمرة ترتجى من ورائه ما لم يتحول إلى فعل وممارسة جماعية، تثار فيها القوى مجتمعة: كل حسب طاقته وإمكانيته وما يحسنه، وكل حسب موقعه المناسب.
وجود المنظومة
ناحية أُخرى في غاية الأهمية تضاف إلى الموضوع، هي أنه لا يمكن نقل الإبداع من مجاله الفردي إلى نطاقه الجماعي، من أجل أن يتحول إلى فعل تجديدي يعطي ناتجاً اجتماعياً يسهم في تطور المجتمع وبنائه الحضاري المتقدم، دون وجود منظومة فاعلة تجمع الطاقات الإبداعية المتناثرة في دائرة نسقية واحدة، تضع كل شيء في مكانه المناسب، الذي يخدم من ذلك المكان أجزاء المنظومة كلها. إذن العالم المبدع ما لم يكن يملك آلية لتحويل علمه إلى مادة للتغيير التجديدي غير مقصود بالنص الوارد عن النبي صلى الله عليه وسلم؛ لسبب جوهري هو عجزه عن إحداث الأثر الاجتماعي، الذي هو المقصود الأساسي بالتجديد. ومن دون حصول التجديد واقعاً لا يمكن أن يكون العالم المبدع هو المقصود بـ(من يجدد لهذه الأمة دينها). وأَولى المنظومات بتحقيق هذه النتيجة هي منظومة الحكم القادر المستقر، الذي يتخذ من الإسلام مرجعية عليا للتطبيق: نصاً في العقيدة والعبادة، واجتهاداً في التنفيذ والسياسة.
الحاكم المسلم المبدع أولى من العالم بوصف ( المجدد )
من تأمل الكلام السابق، وتدبر فنظر في الزمان والدعوات وحاجتها إلى التجدد وعملية التجديد، عرف أنه لا تمر فترة (25) عاماً حتى تتطلب أي دعوة أو دولة أو مؤسسة تجديداً تحافظ به على حيويتها وتمتلك به قابليتها على الاستمرار. وهذا يقوي القول بأن الصحيح في نص الحديث لفظ (قرن) أي الجيل من الناس، وليس لفظ (مئة عام). وأرى - طبقاً لهذه الحيثيات مجتمعة - أن المجدد الحقيقي الواقعي أو المجدد بمعناه المطلق هو الحاكم المسلم، وأن الحاكم أولى من العالم بهذا الوصف؛ لأنه الوحيد الذي يمكن أن يعم تجديده فيسري في جميع مفاصل الدين بمعناه الذي هو عليه والذي يشمل حركة الحياة كلها خاضعة لشرع الله تعالى، وبصورة عمل تديره منظومة تنتج فعلاً اجتماعياً نسقياً، مبنياً على معرفة قابلة للاختبار. على أن هذا لا يغمط العالم حقه ووصفه وكونه (مجدداً) ما دام أنه يمارس عملية التجديد فكراً وتطبيقاً. لاسيما في فترات تخلي الحكام عن وظيفتهم الحضارية الكبرى، كما في هذا الزمان، وقبله بكثير. لكن تجديده يبقى محصوراً في المجال الذي يمكنه أن يتحرك فيه. وهذا يضيق ويتسع طبقاً لقدرته وظرفه.
التجديد في تحويل نظام الحكم من نظام الخلافة إلى المُلك
أرى أن أول حركة تجديد في تاريخنا كانت خلافة معاوية رضي الله عنه، فمعاوية أول مجدد في تاريخ الإسلام. وكانت هذه الحركة بعد وفاة النبي صلى الله عليه وسلم بـ(30) عاماً. وقد ولدت ولادة متعسرة ابتدأت قبل ذلك بـ(5) أعوام.
إن أول وأهم مظاهر التجديد في عهد سيدنا معاوية تأسيسه للنظام الملَكي في الإسلام، وهو – في رأيي – يمثل طفرة حضارية جريئة، بدأها سيدنا علي رضي الله عنه حين رأى أو أقر تولية ابنه الحسن رضي الله من بعده، لكنها جاءت أشبه ما تكون بالحركة العفوية التي اقتضتها ظروف اللحظة الحاضرة، ولم تسبق بدراسة متأنية وتداول مطول للرأي مع أهل الشأن.
فبعد عشرين عاماً من وفاة النبي صلى الله عليه وسلم توسعت الدولة كثيراً، وتغير الناس أكثر، فما عاد الناس يضبطهم نظام بسيط في مظهره وجهاز حكمه، خصوصاً مع بروز رؤوس كثيرة طامحة للحكم، كل رأس يرى أنه الأولى والأصلح وله من يؤيده ويحوطه ويناصره دون سواه. وقد قتل ثلاثة خلفاء بسبب عدم اتخاذ الحرس الشديد، وعدم وجود مقر للحكم وتحوطات أمنية كافية تحمي الخليفة. كما أنه لم يعد يكفي في ذلك حمل الناس على ظواهرهم وما يتبع ذلك من ضعف أو عدم المتابعة الأمنية والاستخبارية. فكان لا بد من استحداث نظام يتواءم والتغيرات الحادثة. وهكذا ولد النظام الملكي الذي به تجدد دين الأمة بمفهومه الأوسع الذي يشمل أهم ما يتعلق بمصالح الناس جميعاً، ألا وهو الحكم الأوفق والسياسة الأصلح لهم. وكان ذلك على يد معاوية بن أبي سفيان. وكان ما سبقه من صراع إنما هو مخاض عسير سبق ولادة النظام؛ فهو تعبير عن صراع بين نظام قديم ونظام جديد.
إن من يتأمل تلك اللحظة التاريخية بواقعية وموضوعية، وبشرعية دينية متحررة من قيود التاريخ وركام الثقافة التقليدية يدرك أن النظام الملكي في ذلك العهد وما تلاه هو الحل الصحيح، والوحيد القادر على حفظ وحدة الأمة. ولو ترك معاوية الأمر من بعده (شورى) لكانت الفوضى والفتنة والاقتتال الذي لا يعلم نهايته إلا الله وحده! وقد أشار بذلك النظام، الذي أوله تعيين ولي للعهد حسماً للخلاف، أهل الحل والعقد من الصحابة والتابعين على أمير المؤمنين معاوية، فاستشار أهل الرأي والحكمة فوافقوه على ذلك. وأول (أهل الحل والعقد) وأَولاهم بأن يؤخذ رأيه هم بطانة الحاكم الموجودون حوله في عاصمة حكمه وليس في مكان آخر غير العاصمة حتى لا يكونوا بعيداً عن ولي الأمر. وقد كانوا آنذاك في دمشق. ثم يأتي من بعدهم قادة الأمصار وعلماؤهم وحكماؤهم ووجوههم. وقد استشار معاوية جميع هؤلاء فأطبقوا على الإشارة عليه بتولية ابنه (يزيد)، كما أشارت بطانة علي عليه بتولية ابنه (الحسن). ولم أجد أن علياً رضي الله عنه استشار غيرهم من بقية الأمصار، بينما فعل ذلك معاوية رضي الله عنه فاستشار الجميع، كما أنه سبق الحدث فلم يؤخر الأمر حتى يحين أجله، وهذه تحسب له.
فما فعله سيدنا معاوية إنما فعله بمشورة (أهل الحل والعقد). أما من خالفهم وعارضهم فكانوا قلة يعدون على أصابع اليد الواحدة. فالحجة لجمهور العلماء ومعظمهم لا سيما ورأي الأمير معهم، وليس لسواهم إلا أن يبدي رأيه لا أكثر، والأمة غير ملزمة به. بل حمل الكثرة الغالبة على رأي القلة القليلة استبداد في الرأي وتحكم لا يقره شرع؛ فأمور الحكم والسياسة ما لم يرد فيها نص غير معارض برخصة إنما تؤخذ بالشورى، فإذا كانت الأغلبية ومعها الأمير على رأي فالواجب اتباع ذلك الرأي، ولم نجد أحداً من أهل العلم بالشرع قال بغير ذلك.
السبت
5/1/2013
==========
معاوية بن أبي سفيان أول المجددين في تاريخ الإسلام:: ج2
كتبه الشيخ الدكتور طه حامد الدليمي
حجم الخط طباعة البريد الإلكتروني 6 تعليقات
معاوية بن أبي سفيان
أول المجددين في تاريخ الإسلام
الجزء الثاني
نظام الملك ولد بالشورى من أهل الشأن في الأمة
هذا إذا نظرنا للأمر نظرة تجزيئية. لكن الأصوب أن ننظر إليه نظرية كلية، فأهل الشأن ومن لهم الحق في القول ومن يؤخذ برأيهم تشاوروا فيما بينهم ونظروا فرأوا أن أصلح شيء لذلك الزمان هو نظام الملك وحسم تولية العهد في زمن الخليفة السابق قبل أن يموت.
وأرى أن حيثيات هذا الانتقال ابتدأت إرهاصاتها في زمن الفاروق رضي الله عنه؛ لأنه لم يجد - كما قال هو - من يطمئن إلى توليته كمرشح يبذ أقرانه كما بذهم هو وصاحبه من قبله، ولم ير حكمة في تركها شورى من بعده خشية اختلاف الناس وافتراقهم، وهذا ما وقع بعد الخليفة عثمان رضي الله عنه وقد تغير الناس أكثر عما كانوا عليه زمن الخليفة عمر، فحصر الخلافة في ستة.
ونظام تولية العهد من أصعب الأنظمة وهو مما يحير العقول، وسلوا الحكام إن شئتم، لكن من لا يتصور الأمر كما هو عليه يلقي بالكلام والرأي على عواهنه. ولهذا لم يجد علي بعد التجربة المرة التي سبقته غير تولية الحسن وهو ابنه. وإلا لماذا لم يترك الأمر (شورى) من بعده؟
أما أنا فلا أراها – والحال هذه – شورى، وإنما فوضى. والدليل على ذلك هو التجربة السابقة. والناس بعد ربع قرن تغيروا أكثر وأكثر، فخرجت الشورى الشرعية بالحل الكلي المناسب ألا وهو نظام االملك، الذي وصفه رسول الله صلى الله عليه وسلم بأنه (ملك ورحمة) كما قال شيخ الإسلام ابن تيمية في مجموع الفتاوى (4/478): (اتفق العلماء على أن معاوية أفضل ملوك هذه الأمة, فإن الأربعة قبله كانوا خلفاء نبوة, وهو أول الملوك, كان ملكه ملكاً ورحمة كما جاء في الحديث: (يكون الملك نبوة ورحمة ثم تكون خلافة ورحمة ثم يكون ملك ورحمة ثم ملك وجبرية ثم ملك عضوض). وكان في ملكه من الرحمة والحلم ونفع المسلمين ما يعلم أنه كان خيرا من ملك غيره, وأما من قبله فكانوا خلفاء نبوة).
الخلافة والملك نظامان إسلاميان
والفرق بين الخلافة والملك فرق مظهري لا جوهري: فالخلافة تمتاز بالبساطة، والملك بالأّبهة. وما من شك أن التوارث من لوازم نظام الملك. وكلا النظامين (الخلافة والملك) جاء النص بجوازه ما دام في حدود الشرع. ويكفي على ذلك دليلاً ما يلي:
التنصيص القرآني على ملك داود وسليمان عليهما السلام وتوارثهما وما كان في ملكهما من مكِنة وأبهة وعمران يذهل الألباب ويخطف الأبصار.
التنصيص على طالوت ملكاً بتعيين إلهي.
وقد أقر الخليفة الزاهد عمر بن الخطاب ما رآه من أبهة معاوية ومظاهر السلطة لما بين له تخريجه الشرعي لها.
وقد يسمى الخليفة ملكاً وبالعكس كما سمى الله تعالى داود خليفة وهو ملك فقال: (يَا دَاوُودُ إِنَّا جَعَلْنَاكَ خَلِيفَةً فِي الْأَرْضِ فَاحْكُمْ بَيْنَ النَّاسِ بِالْحَقِّ وَلَا تَتَّبِعِ الْهَوَى فَيُضِلَّكَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ) (ص:26).
وقد يكون المُلك خيراً من الخلافة؛ فملك داود عليه السلام خير من خلافة عمر بن الخطاب رضي الله عنه.
وليس شرطاً أن تكون الخلافة مطلقة من قيد (الرشد أو الرحمة وما شابههما من الأوصاف) خيراً من الملك مطلقاً. كما أنه ليس شرطاً أن لا يكون المُلك راشداً، فمن الملك ما هو راشد ورحيم كما في الحديث، ومن الخلافة ما تكون غير ذلك؛ ولهذا قيدت (الخلافة) المحمودة بالرحمة: (خلافة ورحمة)، أو الرشد (خلافة راشدة) أو وصف آخر دال على مدحها مثل (خلافة على منهاج النبوة).
وقد يكون المُلك الراشد خيراً من الخلافة الراشدة، أو العكس؛ فهذا يقاس بمدى مطابقة الحكم لمنهاج النبوة ديناً ودنيا، وليس الاسم والمظهر (الأبهة في الملك، والبساطة في الخلافة).
وقد اختار الله لنفسه اسم (الملِك)، ولم يختر اسم (الخليفة)؛ فالملك من أسماء الله الحسنى الواردة في القرآن الكريم. بينما (الخليفة) ورد في الحديث كوصف للرب سبحانه كما في دعاء السفر: (اللهم أنت الصاحب في السفر والخليفة في الأهل) رواه مسلم. وأرى في هذا دلالة على سمو الملك على الخلافة.
وهذا كله مما يبطل الرأي القائل بأن نظام الخلافة خير من نظام المُلك مطلقاً.
وداود ورثه ابنه، وهو نبي الله سليمان عليه السلام ملكاً. وفيه رد على من ذم النظام الملكي بإطلاق على اعتبار أن فيه توارثاً للملك. ولو كان هذا مذموماً لما رضيه الله سبحانه لأنبيائه.
وقد اختار الله لبني إسرائيل طالوت ملكاً.
ومدح ذا القرنين وبلقيس، وكلاهما ملك.
رسول الله صلى الله عليه وسلم يبشر بملك معاوية
روى البخاري عن أنس بن مالك رضي الله عنه أن أُمُّ حَرَامٍ بِنْتُ مِلْحَانَ حدثته اَنَّ رَسُوْلَ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ فِي بَيْتِهَا يَوْماً، فَاسْتَيْقَظَ وَهُوَ يَضْحَكُ .قالت: فقلت: وما يضحكك يا رسول الله؟ قال: (ناس من أمتي، عرضوا علي غزاة في سبيل الله، يركبون ثبج هذا البحر ملوكا على الأسرة، أو: مثل الملوك على الأسرة). قالت: فقلت: يا رسول الله، ادع الله أن يجعلني منهم، فدعا لها رسول الله صلى الله عليه وسلم، ثم وضع رأسه ثم استيقظ وهو يضحك، فقلت: وما يضحكك يا رسول الله؟ قال: (ناس من أمتي، عرضوا علي غزاة في سبيل الله) كما قال في الأول، قالت: فقلت يا رسول الله ادع الله أن يجعلني منهم، قال: (أنت من الأولين). فركبت البحر في زمان معاوية بن أبي سفيان، فصرعت عن دابتها حين خرجت من البحر، فماتت.
ففي ضحك النبي واستبشاره بكون الغزاة ملوكاً على الأسرة وفرحه بذلك دليل على رشاد ملك معاوية وإقرار النبي صلى الله عليه وسلم بصحته وعظمته.
التخبط العلمي والتخلف الثقافي
وإذا كان الاعتراض على التوارث أنه يأتي بالابن أو الأخ دون النظر في مؤهلاته، فقد يأتي إلى الحكم من ليس أهلاً له. والجواب: إن الأمر الذي أردتم الخلاص منه موجود في الاختيار الآخر، فقد يأتي هذا النظام بمن ليس أهلاً أيضاً. بل أهلية الحاكم متوفرة بنسبة أكبر في الأنظمة الملكية التوارثية؛ فإن (ولي العهد) يربى وينشأ على القيادة وإدارة الملك منذ صغره، بينما الحاكم في النظام الآخر لا تتوفر له هذه الفرصة. والناظر في الأنظمة الحالية يجد أكثر الدول استقراراً ورفاهاً هي الدول الآخذة بالأنظمة الملكية وما شابهها، بل كثير من الدول المتطورة هي أنظمة ملكية مثل بريطانيا وسويسرا وهولندا والنمسا والسويد وكذلك اليابان. وعلى كل حال فإن هذا مما يختلف فيه، فلا موجب للإنكار من بعض على بعض.
على أن المعترض خرج من دائرة الدليل الشرعي إلى الدليل العقلي، فالدليل الشرعي إلى الآن مع نظام الملك وليس ضده. كما أننا لا نملك من دليل يحرمه، بل الدليل معه. والحجة العقلية يمكن أن ترد بمثلها، وليس لمن أخذ برأي أولى بالاعتبار ممن أخذ بالرأي الذي يقابله إلى درجة الإنكار القائل بأن الحكم الإسلامي قد انحرف عن مساره بعد ثلاثين سنة فقط حتى قال القائل: "إن الهدف الذي رمى إليه الإسلام عندما جعل الإنسان خليفة في الحياة وكلفه بالتسخير وفضله على كثير من الخلق، لم يتحقق كاملاً في تاريخ المسلمين. فقد بدأ الاضطهاد والاستلاب المتنوع للإنسان في ظل الدول والإمارات التي قامت في العالم الإسلامي بعد عصر الخلفاء الراشدين إلى عصرنا الحالي، وسحب من الإنسان المسلم تلك الحرية الإنسانية في إطار الضوابط التي وضعها الإسلام"([1])..!
السبت
5/1/2013