إذا ركبت مع أوروبي وجدته خانساً منغمساً يقرأ في كتاب ، وإذا ركبت مع عربي وجدته يبصبص كالذئب العاوي ، أو كالعاشق الهاوي ، يتعرف على الركاب ، ويسولف مع الأصحاب والأحباب . بيننا وبين الكتاب عقدة نفسية ، ونحن أمة (اقرأ) ، ولكن ثقلت علينا المعرفة ، وخف علينا القيل والقال ، ولو سألت أكثر الشباب : ماذا قرأت اليوم ؟ وكم صفحة طالعت ؟ لوجدت الجواب : صفر مكعَّب ، مع العلم أن غالب الشباب بطين سمين ثخين بدين ، لأنه مجتهد في تناول الهنبرقر والبيتزا ، وكل ما وقعت عليه العين ووصل إلى اليدين :
* سل الصحون التباسي عن معالينا ـ واستشهد البَيْضَ هل خاب الرجا فينا
* كم (كبسة) شـهدت أنا جحافلهـا ـ وكـم خـروفٍ نـهشناه بـأيدينا
يحتاج شبابنا إلى دورات تدريبية على القراءة ، لأنهم وزّعوا الأوقات على السمر مع الشاشات ، أو التّحلق على الكبسات ، أو متابعة آخر الموضوعات . الإنسان بلا قراءة قزم صغير ، والأمة بلا كتاب قطيع هائم ، طالعت سِيَر العظماء العباقرة فإذا الصفة اللازمة للجميع مصاحبتهم للحرف ، وهيامهم بالمعرفة وعشقهم للعلم ، حتى مات الجاحظ تحت كتبه ، وتوفي مسلم صاحب الصحيح وهو يطالع كتاباً ، وكان أبو الوفاء ابن عقيل يقرأ وهو يمشي ، وقال ابن الجوزي : قرأت في شبابي عشرين ألف مجلده ، وقال المتنبي : وخير جليس في الزمان كتاب ، سألت شباباً عن مؤلفي كتب مشهورة فجاءت الإجابات مضحكة ، قال صاحب كتاب فن الخطابة : العظمة هي قراءة الكتب بفهم ، وقال الروائي الروسي الشهير تيولوستي : قراءة الكتب تداوي جراحات الزمن ، وقال الطنطاوي : أنا من ستين سنة أقرأ كل يوم خمسين صفحة ألزمت نفسي بها :
* جمالَ ذي الدارِ كانوا في الحياةِ وهمْ ـ بعدَ المماتِ جمالُ الكتبِ والسيَرِ
صح النوم يا شباب فقد انقضى العمر ، وتصرّمت الساعات ، وقتل الزمان بالهذيان وأماني الشيطان وأخبار فلان وعلاّن ، استيقظوا يا أصحاب الهمم الهوامد ، والعزائم الخوامد ، والذهن الجامد ، والضمير الراقد :
* وَلَو نار نفخت بِها أَضاءَت ـ وَلَكن أَنتَ تَنفخ في رَمادِ
قاتل الله التسويف والإرجاف ، وسحقاً لمن زرع شجرة «ليت» لتثمر له «سوف» ، وتخرج له «لعلَّ» ليذوق الندامة :
* وَمُشَتَّتِ العَزَماتِ يُنفِقُ عُمرَهُ ـ حَيرانَ لا ظَفَرٌ وَلا إِخفاقُ
حيّا الله الهمم الشماء ، والعزيمة القعساء ، التي جعلت أحمد بن حنبل يطوف الدنيا ليجمع أربعين ألف حديث في المسند ، وابن حجر يؤلّف فتح الباري ثلاثين مجلداً ، وابن عقيل الحنبلي يؤلف كتاب الفنون سبعمائة مجلد ، وابن خلدون يسجّل اسمه في عواصم الدنيا ، وابن رشد يجمع المعارف الإنسانية :
* لولا لطائف صنع الله ما نبتتْ ـ تلك المكارم في لحمٍ ولا عصبِ
وددتُ أنَّ لنا يوماً في الأسبوع يخصص للقراءة ، ويا ليتنا نبدأ بمشروع القراءة الحرّة النافعة عشر صفحات كل يوم تُقرأ بفهم من كتاب مفيد لنحصد في الشهر كتاباً وفي السنة اثني عشر كتاباً ، ولتكن قراءة منوّعة في ما ينفع لتتضح أمامنا أبواب المعرفة وتتسع آفاقنا ، وتُنار عقولنا . فيا أمة (اقرأ) هيا إلى قراءة راشدة ، واطلاع نافع ، وثقافة حيّة ، ومعرفة ربانية ، وسوف تنتهي بكم التجارب إلى أن الكتاب خير جليس ، وشكراً للأمير بن صمادح حيث يقول :
* وزهدني في الناس معرفتي بهم ـ وطول اختباري صاحباً بعد صاحبِ
* فلم ترني الأيام خلاًّ تسرني ـ مباديه إلاّ ساءني في العواقبِ
* ولا قلت أرجوه لكشف ملمةٍ ـ من الدهر إلاّ كان إحدى المصائبِ !
* فليس معي إلاّ كتاب صحبته ـ يؤانسني في شرقها والمغاربِ