من كتاب ( فضائح الباطنية ) لأبي حامد الغزالي :
( الْبَاب الْخَامِس فِي إِفْسَاد تأويلاتهم للظواهر الجلية واستدلالاتهم بالأمور العددية
وَفِيه فصلان الْفَصْل الاول فِي تأويلاتهم للظواهر
وَالْقَوْل الْوَجِيز فِيهِ انهم لما عجزوا عَن صرف الْخلق عَن الْقُرْآن وَالسّنة صرفوهم عَن المُرَاد بهما الى مخاريق زخرفوها واستفادوا بِمَا انتزعوه من نُفُوسهم من مُقْتَضى الْأَلْفَاظ إبِْطَال مَعَاني اشرع وَبِمَا زخرفوه من التأويلات تَنْفِيذ انقيادهم للمبايعة والموالاة وانهم لَو صَرَّحُوا بِالنَّفْيِ الْمَحْض والتكذيب الْمُجَرّد لم يحظوا بموالاة الموالين وَكَانُوا اول المقصودين المقتولين .
وَنحن نحكي من تأويلاتهم نبذة لنستدل بهَا على مخازيهم فقد قَالُوا كل مَا ورد من الظَّوَاهِر فِي التكاليف والحشر والنشر والأمور الإلهية فَكلهَا أَمْثِلَة ورموز الى بواطن
اما الشرعيات فَمَعْنَى الْجَنَابَة عِنْدهم مبادرة المستجيب بإفشاء سر إِلَيْهِ قبل أَن ينَال رُتْبَة اسْتِحْقَاقه
وَمعنى الْغسْل تَجْدِيد الْعَهْد على فعل ذَلِك
ومجامعة الْبَهِيمَة مَعْنَاهَا عِنْدهم معالجة من لَا عهد عَلَيْهِ وَلم يؤد شَيْئا من صَدَقَة النَّجْوَى وَهِي مائَة وَتِسْعَة عشر درهما عِنْدهم فَلذَلِك اوجب الشَّرْع الْقَتْل على الْفَاعِل وَالْمَفْعُول بِهِ والا فالبهيمة مَتى وَجب الْقَتْل عَلَيْهَا
وَالزِّنَا هُوَ القاء نُطْفَة الْعلم الْبَاطِن فِي نفس من لم يسْبق مَعَه عقد الْعَهْد
الِاحْتِلَام هُوَ ان يسْبق لِسَانه الى إفشاء السِّرّ فِي غير مَحَله فَعَلَيهِ الْغسْل اي تَجْدِيد المعاهدة
الطّهُور هُوَ التبري والتنظف من اعْتِقَاد كل مَذْهَب سوى مبايعة الامام
الصّيام هُوَ الامساك عَن كشف السِّرّ
الْكَعْبَة هِيَ النَّبِي وَالْبَاب عَليّ
الصَّفَا هُوَ النَّبِي والمروة عَليّ
والميقات هُوَ الاساس
والتلبية إِجَابَة الدَّاعِي
وَالطّواف بِالْبَيْتِ سبعا هُوَ الطّواف بِمُحَمد الى تَمام الْأَئِمَّة السَّبْعَة
والصلوات الْخمس أَدِلَّة على الاصول الاربعة وعَلى الامام ، فالفجر دَلِيل السَّابِق ، وَالظّهْر دَلِيل التَّالِي ، وَالْعصر دَلِيل للأساس ، وَالْمغْرب دَلِيل النَّاطِق ، وَالْعشَاء دَلِيل الإِمَام
وَكَذَلِكَ زَعَمُوا أَن
الْمُحرمَات عبارَة عَن ذَوي الشَّرّ من الرِّجَال وَقد تعبدنا باجتنابهم كَمَا أَن الْعِبَادَات عبارَة عَن الاخيار الْأَبْرَار الَّذين أمرنَا باتبَاعهمْ
فَأَما الْمعَاد فَزعم بَعضهم أَن النَّار والاغلال عبارَة عَن الْأَوَامِر الَّتِي هِيَ التكاليف فانها موظفة على الْجُهَّال بِعلم الْبَاطِن فَمَا داموا مستمرين عَلَيْهَا فهم معذبون فَإِذا نالوا علم الْبَاطِن وضعت عَنْهُم أغلال التكاليف وسعدوا بالخلاص عَنْهَا
واخذوا يؤولون كل لفظ ورد فِي الْقُرْآن وَالسّنة فَقَالُوا
أَنهَار من لبن أَي معادن الدّين الْعلم الْبَاطِن يرتضع بهَا أَهلهَا ويتغذى بهَا تغذيا تدوم بهَا حَيَاته اللطيفة فَإِن غذَاء الرّوح اللطيفة بارتضاع الْعلم من الْمعلم كَمَا ان حَيَاة الْجِسْم الكثيف بارتضاع اللَّبن من ثدي الام
وأنهار من خمر هُوَ الْعلم الظَّاهِر
وأنهار من عسل مصفى هُوَ علم الْبَاطِن الْمَأْخُوذ من الْحجَج وَالْأَئِمَّة
أما المعجزات فقد أولُوا جَمِيعهَا وَقَالُوا
الطوفان مَعْنَاهُ طوفان الْعلم اغرق بِهِ المتمسكون بِالسنةِ
والسفينة حرزه الَّذِي تحصن بِهِ من اسْتَجَابَ لدعوته
ونار ابراهيم عبارَة عَن غضب نمْرُود لَا عَن النَّار الْحَقِيقِيَّة
وَذبح اسحق مَعْنَاهُ اخذ الْعَهْد عَلَيْهِ
عَصا مُوسَى حجَّته الَّتِي تلقفت مَا كَانُوا يأفكون من الشّبَه لَا الْخشب
انفلاق الْبَحْر افْتِرَاق علم مُوسَى فيهم على أَقسَام
وَالْبَحْر هُوَ الْعَالم
والغمام الَّذِي أظلهم مَعْنَاهُ الامام الَّذِي نَصبه مُوسَى لإرشادهم وإفاضة الْعلم عَلَيْهِم
الْجَرَاد وَالْقمل والضفادع هِيَ سُؤَالَات مُوسَى وإلزاماته الَّتِي سلطت عَلَيْهِم
والمن والسلوى علم نزل من السَّمَاء لداع من الدعاة هُوَ المُرَاد بالسلوى
تَسْبِيح الْجبَال مَعْنَاهُ تَسْبِيح رجال شَدَّاد فِي الدّين راسخين فِي الْيَقِين
الْجِنّ الَّذِي ملكهم سُلَيْمَان بن دَاوُد باطنية ذَلِك الزَّمَان وَالشَّيَاطِين هم الظَّاهِرِيَّة الَّذِي كلفوا بِالْأَعْمَالِ الشاقة
عِيسَى لَهُ أَب من حَيْثُ الظَّاهِر وَإِنَّمَا أَرَادَ بِالْأَبِ الإِمَام إِذْ لم يكن لَهُ إِمَام بل اسْتَفَادَ الْعلم من الله بِغَيْر وَاسِطَة وَزَعَمُوا لعنهم الله أَن أَبَاهُ يُوسُف النجار
كَلَامه فِي المهد اطِّلَاعه فِي مهد القالب قبل التَّخَلُّص مِنْهُ على مَا يطلع عَلَيْهِ غَيره بعد الْوَفَاة والخلاص من القالب
إحْيَاء الْمَوْتَى من عِيسَى مَعْنَاهُ الاحياء بحياة الْعلم عَن موت الْجَهْل الْبَاطِن
وابراؤه الاعمى مَعْنَاهُ عَن عمي الضلال وبرص الْكفْر ببصيرة الْحق الْمُبين
ابليس وآدَم عبارَة عَن ابي بكر وَعلي إِذْ امْر ابوبكر بِالسُّجُود لعَلي وَالطَّاعَة لَهُ فَأبى واستكبر
الدَّجَّال زَعَمُوا انه ابو بكر وَكَانَ اعور إِذْ لم يبصر الا بِعَين الظَّاهِر دون عين الْبَاطِن
ويأجوج وَمَأْجُوج هم اهل الظَّاهِر
هَذَا من هذيانهم فِي التأويلات حكيناها ليضحك مِنْهَا ونعوذ بِاللَّه من صرعة الغافل وكبوة الْجَاهِل ولسنا نسلك فِي الرَّد عَلَيْهِم الا بمسالك ثَلَاثَة إبِْطَال ومعارضة وَتَحْقِيق
أما الْإِبْطَال
فَهُوَ أَن أَن يُقَال بِمَ عَرَفْتُمْ أَن المُرَاد من هَذِه الْأَلْفَاظ مَا ذكرْتُمْ فَإِن اخذتموه من نظر الْعقل فَهُوَ عنْدكُمْ بَاطِل
وان سمعتموه من لفظ الامام الْمَعْصُوم فلفظه لَيْسَ بأشد تَصْرِيحًا من هَذِه الْأَلْفَاظ الَّتِي أولتموها
فَلَعَلَّ مُرَاده أَمر آخر اشد بطونا من الْبَاطِن الَّذِي ذكرتموه وَلكنه جَاوز الظَّاهِر بِدَرَجَة فَزعم ان المُرَاد بالجبال الرِّجَال فَمَا المُرَاد بِالرِّجَالِ ؟
لَعَلَّ المُرَاد بِهِ امْر آخر وَالْمرَاد بالشياطين اهل الظَّاهِر فَمَا اهل الظَّاهِر ؟
وَالْمرَاد بِاللَّبنِ الْعلم فَمَا معنى الْعلم ؟
فَإِن قلت الْعلم وَالرِّجَال اهل الظَّاهِر صَرِيحَة فِي مقتضياتها بِوَضْع اللُّغَة ان كنت نَاظرا بِالْعينِ العوراء الى اُحْدُ الْجَانِبَيْنِ فَأَنت المُرَاد إِذا بالدجال فَإِنَّهُ أَعور لانك أَبْصرت باحدى الْعَينَيْنِ فَإِن الرِّجَال ظَاهر وعميت بِالْعينِ الاخرى الناظرة الى الْجبَال وانها ايضا ظَاهر
فَإِن قلت يُمكن ان يكنى بالجبال عَن الرِّجَال
قُلْنَا وَيُمكن ان يكنى بِالرِّجَالِ عَن غَيرهم كَمَا عبر الشَّاعِر بِالرجلَيْنِ اللَّذين احدهما خياط وَالْآخر نساج عَن امور فلكية واسباب علوِيَّة فَقَالَ ...
رجلَانِ خياط واخر حائك ... متقابلان على السماك الاعزل
لَا زَالَ ينسج ذَاك خرقَة مُدبر ... ويخيط صَاحبه ثِيَاب الْمقبل
... وَهَكَذَا فِي كل فن وَإِذا نزل تَسْبِيح الْجبَال على تَسْبِيح الرِّجَال فلينزل معنى الرِّجَال فِي قَوْله تَعَالَى " رجال لَا تُلْهِيهِمْ تِجَارَة وَلَا بيع عَن ذكر الله " على الْجبَال فَإِن الْمُنَاسبَة قَائِمَة من الْجَانِبَيْنِ
ثمَّ إِذا نزل الْجبَال على الرِّجَال وَنزل الرِّجَال أَيْضا على غَيره أمكن تَنْزِيل ذَلِك الْبَاطِن الثَّالِث على رَابِع وتسلسل إِلَى حد يبطل التفاهم والتفهيم وَلَا يُمكن التحكم بِأَن الْحَائِز الرُّتْبَة الثَّانِيَة دون الثَّالِثَة أَو الثَّالِثَة دون الرَّابِعَة
المسلك الثَّانِي
مُعَارضَة الْفَاسِد بالفاسد وَهُوَ أَن يتَنَاوَل جَمِيع الْأَخْبَار على نقيض مَذْهَبهم
مثلا
يُقَال قَوْله لَا تدخل الْمَلَائِكَة بَيْتا فِيهِ صُورَة أى لَا يدْخل الْعقل دماغا فِيهِ التَّصْدِيق بالمعصوم
وَقَوله إِذا ولغَ الْكَلْب فِي إِنَاء أحدكُم فليغسله سبعا أى إِذا نكح الباطني بنت أحدكُم فليغسلها عَن درن الصُّحْبَة بِمَاء الْعلم وصفاء الْعَمَل بعد أَن يعفرها بِتُرَاب الإذلال
أَو يَقُول قَائِل النِّكَاح لَا ينْعَقد بِغَيْر شُهُود وَولى وَأما قَوْله كل نِكَاح لَا يحضرهُ أَرْبَعَة فَهُوَ سفاح مَعْنَاهُ أَن كل اعْتِقَاد لم يشْهد لَهُ الحلفاء الْأَرْبَعَة أَبُو بكر وَعمر وَعُثْمَان وَعلي فَهُوَ بَاطِل وَقَوله لَا نِكَاح إِلَّا بولِي وشاهدي عدل أَي لَا وقاع إِلَّا بِذكر وأنثيين
إِلَى غير ذَلِك من الترهات وَالْمَقْصُود من ذكر هَذَا الْقدر مُعَارضَة الْفَاسِد بالفاسد وتعريف الطَّرِيق فِي فتح هَذَا الْبَاب حَتَّى إِذا اهتديت إِلَيْهِ لم تعجز عَن تَنْزِيل كل لَفْظَة من كتاب أَو سنة على نقيض معتقدهم
فَإِن زَعَمُوا أَنكُمْ أنزلتم الصُّورَة على الْمَعْصُوم فِي قَوْله لَا تدخل الْمَلَائِكَة بَيْتا فِيهِ صُورَة فَأَي مُنَاسبَة بَينهمَا
قلت وَأَنْتُم نزلتم الثعبان على الْبُرْهَان وَالْأَب فِي حق عِيسَى على الإِمَام وَاللَّبن على الْعلم فِي أَنهَار اللَّبن فِي الْجنَّة وَالْجِنّ على الباطنية وَالشَّيَاطِين على الظَّاهِرِيَّة وَالْجِبَال على الرِّجَال فَمَا الْمُنَاسبَة
فَإِن قلت الْبُرْهَان يقضم الشّبَه كَمَا يقضم الثعبان غَيره وَالْإِمَام يُفِيد الْوُجُود العلمي كَمَا يُفِيد الْأَب الْوُجُود الشخصي وَاللَّبن يغذي الشَّخْص كَمَا يغذي الْعلم الرّوح وَالْجِنّ بَاطِن كالباطنيه
فَيُقَال لَهُم فاذا اكتفيتم بِهَذَا الْقدر من الْمُشَاركَة فَلم يخلق الله شَيْئَيْنِ إِلَّا وَبَينهمَا مُشَاركَة فِي وصف مَا فَإنَّا نزلنَا الصُّورَة على الإِمَام لَان الصُّورَة مِثَال لَا روح فِيهَا كَمَا أَن الامام عنْدكُمْ مَعْصُوم وَلَا معْجزَة لَهُ
والدماغ مسكن الْعقل كَمَا ان الْبَيْت مسكن الْعَاقِل
وَالْملك شئ روحاني كَمَا أَن الْعقل كَذَلِك
فَثَبت أَن المُرَاد بقوله لَا تدخل الْمَلَائِكَة بَيْتا فِيهِ صُورَة مَعْنَاهُ لَا يدْخل الْعقل دماغا فِيهِ اعتقادا عصمَة الإِمَام
فَإِذا عرفت هَذَا فَخذ كل لفظ ذَكرُوهُ وَخذ مَا تريده واطلب مِنْهُمَا الْمُشَاركَة بِوَجْه مَا وتأوله عَلَيْهِ فَيكون دَلِيلا بِمُوجب قَوْلهم كَمَا عرفتك فِي الْمُنَاسبَة بَين الْملك وَالْعقل والدماغ وَالْبَيْت وَالصُّورَة وَالْإِمَام وَإِذا انْفَتح لَك الْبَاب اطَّلَعت على وَجه حيلهم فِي التلبيس بِنَزْع مُوجبَات الْأَلْفَاظ وَتَقْدِير الهوسات بَدَلا عَنْهَا للتوصل إِلَى إبِْطَال الشَّرْع وَهَذَا الْقدر كَاف فِي إبِْطَال تأويلهم
المسلك الثَّالِث
وَهُوَ التَّحْقِيق أَن تَقول هَذِه البواطن والتأويلات الَّتِي ذكرتموها لَو سامحناكم أَنَّهَا صَحِيحَة فَمَا حكمهَا فِي الشَّرْع أيجب إِخْفَاؤُهَا أم يجب إفشاؤها ؟
فَإِن قُلْتُمْ يجب إفشاؤها إِلَى كل أحد قُلْنَا فَلم كتمها مُحَمَّد صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فَلم يذكر شَيْئا من ذَلِك للصحابة ولعامة الْخلق حَتَّى درج ذَلِك الْعَصْر وَلم يكن لأحد من هَذَا الْجِنْس خبر ؟
وَكَيف إستجاز كتمان دين الله وَقد قَالَ تَعَالَى {لتبيننه للنَّاس وَلَا تكتمونه} تنبها على أَن الدّين لَا يحل كِتْمَانه ؟
وَإِن زَعَمُوا أَنه يجب إخفاؤه
فَنَقُول مَا أوجب الرَّسُول صلى الله عَلَيْهِ وَسلم إخفاؤه من سر الدّين كَيفَ حل لكم إفشاؤه ؟
وَالْجِنَايَة فِي السِّرّ بالإفشاء مِمَّن اطلع عَلَيْهِ من أعظم الْجِنَايَات فلولا أَن صَاحب الشَّرْع عرف سرا عَظِيما ومصلحة كُلية فِي إخفاء هَذِه الْأَسْرَار لما أخفاها وَلما كرر هَذِه الظَّوَاهِر على أسماع الْخلق وَلما تَكَرَّرت فِي كَلِمَات الْقُرْآن صفة الْجنَّة وَالنَّار بِأَلْفَاظ صَرِيحَة مَعَ علمه بِأَن النَّاس يفهمون مِنْهُ خلاف الْبَاطِن الَّذِي هُوَ حق ويعتقدون هَذِه الظَّوَاهِر الَّتِي لَا حَقِيقَة لَهَا
فَإِن نسبتموه إِلَى الْجَهْل بِمَا فهمه الْخلق مِنْهُ فَهُوَ نِسْبَة إِلَى الْجَهْل بِمَعْنى الْكَلَام
إِذْ كَانَ النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم يعلم قطعا أَن الْخلق لَيْسَ يفهمون من قَوْله وظل مَمْدُود وَمَاء مسكوب وَفَاكِهَة كَثِيرَة إِلَّا الْمَفْهُوم مِنْهُ فِي اللُّغَة فَكَذَا سَائِر الْأَلْفَاظ
ثمَّ مَعَ علمه بذلك كَانَ يؤكده عَلَيْهِم بالتكرير وَالْقسم وَلم يفش إِلَيْهِم الْبَاطِن الَّذِي ذكرتموه لعلمه بِأَنَّهُ سر الله المكتوم فَلم أفشيتم هَذَا السِّرّ وخرقتم هَذَا الْحجاب ؟
وَهل هَذَا إِلَّا خُرُوج عَن الدّين وَمُخَالفَة لصَاحب الشَّرْع وَهدم لجَمِيع مَا أسسه إِن سلم لكم جدلا أَن مَا ذكرتموه من الْبَاطِن حق عِنْد الله ؟
وَهَذَا لَا مخرج لَهُم عَنهُ فَإِن قيل هَذَا سر لَا يجوز إفشاؤه إِلَى عوام الْخلق فَلهَذَا لم يفشه رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وَلَكِن حق النَّبِي أَن يفشيه إِلَى سوسه الَّذِي هُوَ وَصِيَّة وخليفته من بعده وَقد أفشاه إِلَى عَليّ دون غَيره
قُلْنَا وَعلي هَل أفشاه إِلَى غير سوسه وخليفته أم لَا ؟
فَإِن لم يفشه إِلَّا إِلَى سوسه وَكَذَا سوس سوسه وَخَلِيفَة خَلِيفَته إِلَى الْآن فَكيف انْتهى إِلَى هَؤُلَاءِ الْجُهَّال من الْعَوام حَتَّى تناطقوا بِهِ وشحنت التصانيف بحكايته وتداولته الْأَلْسِنَة ؟
فَلَا بُد أَن يُقَال إِن وَاحِدًا من الْخُلَفَاء عصى وَأفْشى السِّرّ إِلَى غير أَهله فانتشر وَعِنْدهم أَنهم معصومون لَا يتَصَوَّر عَلَيْهِم الْعِصْيَان
فَإِن قيل السوس لَا يذكرهُ إِلَّا مَعَ من تعاهده عَلَيْهِ
قُلْنَا وَمَا الَّذِي منع الرَّسُول من أَن يعاهد ويذكره إِن كَانَ يجوز إفشاؤه مَعَ الْعَهْد ؟
فَإِن قيل لَعَلَّه عَاهَدَ وَذكر وَلَكِن لم ينْقل لأجل الْعَهْد الَّذِي أَخذ مِمَّن أفشى إِلَيْهِ
قُلْنَا وَلم انْتَشَر ذَلِك فِيكُم وأئمتكم لَا يظهرون ذَلِك إِلَّا مَعَ من أَخذ الْعَهْد عَلَيْهِ وَمَا الَّذِي عصم عهد أُولَئِكَ دون عهد هَؤُلَاءِ ؟
ثمَّ يُقَال إِذا جَازَ إفشاء هَذَا السِّرّ بالعهد فالعهد يتَصَوَّر نقضه فَهَل يتَصَوَّر أَن يفشيه إِلَى من يعلم الإِمَام الْمَعْصُوم أَنه لَا ينْقضه أَو يكفى أَن يَظُنّهُ بفراسته واجتهاده واستدلاله بالأمارات ؟
فَإِن قُلْتُمْ لَا يجوز إِلَّا إِلَى من علم الإِمَام الْمَعْصُوم أَنه لَا ينْقضه بتعريف من جِهَة الله
فَكيف انتشرت هَذِه الْأَسْرَار الى كَافَّة الْخلق وَلم تَنْتَشِر الا مِمَّن سمع فإمَّا ان يكون الْمبلغ نَاقِصا للْعهد اَوْ لم يعاهد أصلا
وفي احدهما نِسْبَة الْمَعْصُوم الى الْجَهْل وَفِي الاخر نسبته الى الْمعْصِيَة وَلَا سَبِيل الى وَاحِد مِنْهُمَا عِنْدهم
وان زعمتم أَنه يحل الإفشاء بالعهد عِنْد شَهَادَة الفراسة فِي الْمَأْخُوذ عَلَيْهِ عَهده انه لَا ينقصهُ اسْتِدْلَالا بالأمارات
فَفِي هَذَا نقض اصل مَذْهَبهم لانهم زَعَمُوا انه لَا يجوز اتِّبَاع أَدِلَّة الْعقل وَنَظره لَان الْعُقَلَاء مُخْتَلفُونَ فِي النّظر فَفِيهِ خطر الخظأ فَكيف حكمُوا بالفراسة والامارة الَّتِي الْخَطَأ أغلب عَلَيْهَا من الصَّوَاب
وَفِي ذَلِك إفشاء سر الدّين وَهُوَ أعظم الاشياء خطرا وَقد منعُوا التَّمَسُّك بِالظَّنِّ وَالِاجْتِهَاد فِي الفقهيات الَّتِي هِيَ حكم بَين الْخلق على سَبِيل التَّوَسُّط فِي الْخُصُومَات ثمَّ ردوا افشاء سر الدّين الى الخيالات والفراسات
وَهَذَا مَسْلَك متين يتفطن لَهُ الذكي ويتبجح بِهِ المشتغل بعلوم الشَّرْع إِذْ يتَيَقَّن قطعا ان الْقَائِل قائلان
قَائِل يَقُول لَا بَاطِن لهَذِهِ الظَّوَاهِر وَلَا تَأْوِيل لَهَا فالتأويل بَاطِل قطعا
وَقَائِل ينقدح لَهُ ان ذَلِك يُمكن ان يكون كنايات عَن بواطن لم يَأْذَن الله لرَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم بَان يُصَرح بالبواطن بل ألزمهُ النُّطْق بالظواهر
فَصَارَ النُّطْق بالباطن حَرَامًا بَاطِلا وفجورا مَحْظُورًا ومراغمة لواضع الشَّرْع
وَهَذِه التأسيسة بالِاتِّفَاقِ فَلَيْسَ اهل عصرنا مَعَ بعد الْعَهْد بِصَاحِب الشَّرْع وانتشار الْفساد واستيلاء الشَّهَوَات على الْخلق وإعراض الكافة عَن امور الدّين أطوع للحق وَلَا اقبل للسر وَلَا آمن عَلَيْهِ وَلَا أَحْرَى بفهمه وَالِانْتِفَاع بِهِ من أهل عصر رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم
وَهَذِه الْأَسْرَار والتأويلات ان كَانَ لَهَا حَقِيقَة فقد أقفل اسماعهم عَنْهَا وألجم أَفْوَاه الناطقين عَن اللهج بهَا
وَلنَا فِي رَسُول الله أُسْوَة حَسَنَة فِي قَوْله وَفعله فَلَا نقُول الا مَا قَالَ وَلَا نظهر الا مَا يظْهر ونسكت عَمَّا سكت عَنهُ
وَفِي الافعال نحافظ على الْعِبَادَات بل على التَّهَجُّد والنوافل وأنواع المجاهدات ونعلم ان مَا لم يسْتَغْن عَنهُ صَاحب الشَّرْع فَنحْن لَا نستغني عَنهُ
وَلَا ننخدع بقول الحمقى إِن نفوسنا اذا صفت بِعلم الْبَاطِن استغنينا عَن الاعمال الظَّاهِرَة بل نستهزئ بِهَذَا الْقَائِل الْمَغْرُور ونقول لَهُ
يَا مِسْكين أتعتقد ان نَفسك اصفي وأزكي من نفس رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وَقد كَانَ يقوم لَيْلًا يصلى حَتَّى تنتفخ قدماه ؟
اَوْ يعْتَقد انه كَانَ يتنمس بِهِ على عَائِشَة ليُخَيل إِلَيْهَا أَن الدّين حق وَقد كَانَ عَالما بِبُطْلَانِهِ ؟
فان اعتقدت الأول فَمَا احمقك وَلَا نزيدك عَلَيْهِ
وان اعتقدت الثَّانِي فَمَا أكفرك واجحدك ولسنا نناظرك عَلَيْهِ لَكنا نقُول
إِذا أَخذنَا بِأَسْوَأ الْأَحْوَال وَقصرت أَدِلَّة عقولنا مثلا عَن دَرك ضلالك وجهلك وَعَن الاحاطة بِصدق رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فَإنَّا نرى بداءة عقولنا تقضي بِأَن الخسران فِي زمرة مُحَمَّد صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وموافقته والقناعة بِمَا رَضِي هُوَ لنَفسِهِ اولى من الْفَوْز مَعَك أَيهَا المخذول الْجَاهِل بل الْمَعْتُوه
المخبل
فَلْينْظر الان الْمنصف فِي آخر هَذَا وأوله فآخره يقنع الْعَوام بل الْعَجَائِز وأوله يُفِيد الْبُرْهَان الْحَقِيقِيّ لكل مُحَقّق آنس بعلوم الشَّرْع وناهيك بِكَلَام ينْتَفع بِهِ كَافَّة الْخلق على اخْتِلَاف طبقاتهم فِي الْعلم وَالْجهل ) ا. هـ .