أستاذي عالي المقام الثقافة الإسلامية،
منكم و من علمكم الغزير نستفيد إن شاء الله و أرجو أن تعذرني إن أسأت الأدب مع منتزلتك و ناقضتك في بعض ما ذهبت إليه.
بل انت اعذرني ان رددت على ما تطرحه وارجو ان لا تتحسس من ذلك. وبالمناسبة انا لما قلت "غرور" قصدت غرور بالعقل البشري الذي لا يخلو من نقص. لم اقصد شخصك.
يقول حضرتك أن الفيض يستلزم نفي الإرداة و وحدة الوجود و قدم العالم و قد رأيت في هذا شبه العقيدة الجدلية (الكلام) إذ أن من المتكلمين من نفى صفة أو أولها على أساس فهم يرى فيه أن الصفة كذا تستلزم هذا و هذا ينافي فهم ذلك إذن لا تثبت الصفة أو تؤول.
في الحقيقة لا أرى أن نفي النسيان و النوم عن الله فيه نوع من نفي الإرادة أي الله لا يريد أن ينام، نحن نتحدث هنا في سياق إستخدام ما يسمى الحجج العقلية في إثبات الذات المطلة العلوية و من جنس تلك الحجج ما يستلزم الاستسلام بالفيض لأنها النظرية الأقرب للعقل في فهم نظرية الخلق أي أقرب للعقل الحسي و العملي من نظرية الخلق المستمر في لا زمن و أقرب من الخلق في زمن.
أخي هنا تكرر الادعاء فقط بدون استدلال. والسبب في رأيك انه اقرب للعقل. لكن صعب تطلب من غيرك قبول ذلك كمسلمة. نحن عندما نناقش عقلانية الشيء, ادعاء ان س او ص اقرب للعقل, ليس فيه اي دليل. بل تكرار للادعاء. اما مواضيع النوم والنسيان فلا ارى امكانية مقارنتها بموضوع الفيض ونفي الارادة فيه. فهذا موضوع وهذا موضوع.
أما وحدة الوجود فنحن إن سلمنا أن الإرادة صفة و الصفة غير الموصوف و بالتالي الصفة غير الذات فإن العالم المتغير و العقل المتحرك لم يفيض عن الذات و إنما عن الإرادة، إذا نفينا ذلك فنحن نسقط في مشكلتين: مشكلة تشبيه إرادة الله بإرادتنا مثلا لأن إرادتنا لا يفيض منها شيء و إنما تتحقق في شيء، أما المشكلة الثانية فهي، إن سلمنا جدلا بقيمة و إمكانية الإستدلال على وجود الله بالعقل، فهي أننا غير متماسكين نأخذ ما نريد من هذا العقل و هذا عين الهوى.
لا يا أخي الكريم, بل لا تقع في مشكلة التشبيه. هذا فيه ان ارادة الله كارادتنا. وكون ارادتنا لا يفيض منها شيء, ولا نقول بالفيض في الله تعالى, هذا لا يستلزم منه التشبيه. بل ان اعتقاد انه يوجب التشبيه هو عين التشبيه. لماذا؟ لانه بما ان الحكم على الشيء فرع عن تصوره, محاولة ادعاء ان وجود رحمة عند الله ورحمة عند الناس يستلزم التشبيه, هو في الواقع محاولة تصور رحمة الله وكأنها مثل رحمة البشر. فلا يريد الشخص قبول فكرة ان الرحمة هي بطريقة تليق بجلاله وانتهى الموضوع, لأنه يريد ان يتصور كيفية الرحمة, فوقع في التشبيه. وهذا ارى فيه تعطيل للعقل, والانغلاق ومحاولة ابقاء العقل في زاوية ضيقة.
مثال آخر لماذا ينفي البعض استواء الله على العرش ويقومون بتأويل الآية؟ لأنه خالف عقلهم الذي اوقفوه عند حدود معينة, فقالوا أن ذلك يستلزم احتواء الله بمكان, والمكان مخلوق, وهذا ممتنع. فعمليا هم قاموا بالتشبيه ومحاولة تصور الله وادراكه بطريقة مادية. وأوقفوا عمل العقل عند هذا الحد ولم يطيقوا فكرة ان ذلك يتم بطريقة تليق بجلاله ولا نخوض في الكيف لعدم قدرتنا على التصور لله تعالى الذي لا تدركه الابصار. لم يطيقوا ذلك. وأرادوا حصر العقل في الامور المادية المحسوسة, واعتبروا ان ذلك من العقل!
وارى نفس نمط التفكير في المنطق المؤدي للقول بقدم العالم. لانهم يريدون حصر العقل في الماديات التي تدركها عقولهم. ولم يريدوا قبول فكرة وجود ما هو خارج عن ادراك عقولهم, وهذا بوضوح, مخالف للعقل, بل وتعطيل له. فوقعوا في التشبيه الذي أرادوا نفيه.
أما قدم العالم فقد قلت في موضع آخر أنه لا إشكال فيه إذا قلنا أن قدم العالم غير قدم الله كما نقول أن وجود الله ليس كوجود الإنسان و سمع الله ليس كسمع الانسان و رحمة الحيوان ليس كرحمة الله و غير ذلك من المتشابهات في الأسماء. إن رفضك لقدم العالم، و أقصد العالم ككل أي كل شيء غير الله و ليس هذا الكون فقط، رفض مذهبي كلامي بنى عليه حجة الاسلام الغزالي رحمه الله تكفيره للفلاسفة و نقل منه هذا المذهب كثير من كبار العلماء منهم من أشار إليه صراحة و منهم من وافقه فقط.
بل هناك اشكال لانك جعلته واجب الوجود مع الله, وليس ممكن الوجود, اوجده غيره بارادة منه. فجعلتهما واحدا. عندما تجعلهما واحدا ثم تقول انهما ليسا بواحد الا يخالف هذا العقل وبوضوح؟ لانك لا تستطيع ان تقول بانه ممكن وذلك عن طريق القول بان وجود عالم قديم بقدم الله, لكن وجوده ليس كوجود الله. لأن حقيقة هذا القول هو ان العالم ممتنع الوجود بدون الله, وان قلت بانه التفسير الوحيد للخلق, جعلت الله تعالى ممتنع الوجود بدون عالم قديم معه. فجعلت الله محتاجا الى غيره ونسبت له النقص.
وكذلك فيه تجاهل للآية "بديع السماوات والأرض" و "خالق كل شيء" بل وادعاء بطلان امكانية الاستدلال بالقرآن. وهذا ايضا مخالف للعقل.
فعندما نقول ان العالم شيء, والقرآن يقول ان الله خالق كل شيء, ثم يأتي احد ويقول العالم قديم بقدم الله, لكن قدمه غير قدم الله. ونؤول الآية حتى يستقيم قولنا, هذا اراه مخالف للعقل للاسباب المذكور بعضها اعلاه, والحس البديهي. ويكفي من فساد هذا القول انه ان قلنا بان العالم واجب الوجود, فحتى ان قلت ما هو ممتنع لذاته ان وجوده ليس كوجود الله, فانك بجعله واجب الوجود, نسبت النقص الى الله تعالى, وانه لا يمكن ان يوجد, بدون هذا الوجود. وقول ان هذا الوجود ليس كوجود الله لا يغير من حقيقة الأمر شيء, وهو القول بان الله ممتنع الوجود بدون عالم قديم. فجعلتهما كل منهما محتاج للآخر في وجوده حتى تستقيم هذه النظرية؟
ثم انت قلت "الاستدلال على وجود الله", وليس في شيء مما ناقشناه استدلال على وجود الله نفسه. وهذا دليل آخر على انه بهذه النظرية, تجعل الله محتاجا الى غيره. وكل هذا حتى تستدل على وجود الله, بوجودنا!
الوجود في الحقيقة وجودين منطقي و واقعي أي عين و نوع، فالوجود الفعلي يعني الوجود الحقيقي، و إذا كانت الارادة موجودة فعلا فإما أن تكون هي الذات أو شيء غير الذات و بما أن كثير من العلماء يقولون بالقول الثاني إذن الإرادة شيء موجود فعلا أي حقيقة واقعا.
اخي هنا انت تستدل هنا بأقوال وليس بأدلة عقلية. هذا يسمى circular reasoning اي التسبيب الدائري. لماذا تقول ان س حقيقة؟ لان العلماء قالوا ذلك. طيب لماذا قالوا ذلك؟ قيل "لأنه حقيقة".
لم أفهم لماذا أتيت بالتبديع هنا و نحن نتكلم عن الأدلة العقلية في إثبات الذات العلوية، أما المذهب الذي يقول بالحدث لا القدم، فهو المدعي و هو الذي يجب أن يقول لنا ما معنى البدعة، هذا مع العلم أن القرآن ليس فيه أصلا شيء عن ما قد يسمى الخلق من عدم أو العدم أو غير ذلك من الأشياء التي نجدها في العقيدة الجدلية من جوهر و عرض و استحالة و امكان و وجوب و غير ذلك ...
أتيت بايات لانها بوضوح خالفت نقطة معينة قلت بها, واستدل بها لأني اؤمن بعدم تعارض العقل والنقل. واؤمن امكانية الاستدلال على الله بظاهر القرآن والسنة. وان الاستدلال بالعقل بشكل مجرد عن القرآن ثم اسقاط معانيها على آيات القرآن, هو مخالف للعقل وللدين. لماذا اؤمن بعدم تعارض العقل والنقل؟ هذا مبحث منفصل. ان كنت لا تقبل الاستدلال بآيات كتاب الله, , حتى لو كان ذلك بتأويل (كالقول بان النقاش هو لمعرفة تفسير الآيات الخ) فهذه مشكلة بحد ذاتها تستحق التأمل. ويصعب معها النقاش حول اي شيء آخر, فيجب معرفة الارضية المشتركة اول وما يمكن الاستدلال به, قبل النقاش, والا تكون المنطلقات والمسلمات عند كل شخص مختلفة عنها عند الآخر.
وعلى هذا, قبل الخوض في كل هذه المواضيع, يجب النقاش والاتفاق حول مناهج الاستدلال, والا لن نقبل ما تقوله, ولن تقبل انت ما نقوله, ليس للاختلاف في ذات الموضوع بقدر ما هو في منهج الاستدلال. طبعا لا اقول انه يجب علينا فعل ذلك الآن, لكن من باب العلم او التذكير بان سبب الخلاف في موضوع كهذا ومواضيع كثيرة أخرى, هو موضوع منهج الاستدلال, والموقف من العلاقة بين العقل والنقل. ممكن في جزئيات معينة النقاش بالأدلة العقلية, لكن كثيرا ما ستوجد نقاط اختلاف ينبني عليها نقاط أخرى, مبنية على الاختلاف في منهج الاستدلال.
هناك نقطة أخرى ربما تبطل ايضا فكرة الفيض وذلك عن طريق العلم الحديث, ونظرية الانفجار الكبير big bang theory لكن هذا موضوع آخر وطويل فقط احببت الاشارة اليه.