يقول الشيخ عبدالعزيز بن فيصل الراجحي في رده على الأباضي سعيد القنوبي حول أحاديث الصحيحين :
( ..... وكذلك أحاديثُ «الصَّحيحين»: فإنَّ الطَّعْنَ في شَيْءٍ مِنْها ، مِمّا لَمْ يتكلَّمْ فيه أَحَدٌ مِنَ المُتَقَدِّمينَ : ضَلالٌ مُبينٌ ، وبدعة ٌعظيمة ُ، وهو كالطَّعْن ِ في البَقِيَّة .
فصِحَّة ُ أحاديث«الصَّحيحين»: لِتَصْحيحِ الشَّيخين ِ لها ، وإجْمَاعِ الأُمَّةِ على صِحَّتِها ، وتلقِّيها لها بالقَبُول .
فإذا طُعِنَ في هَذَيْن ِالأَمْرَيْن ِ، بالطَّعْن ِ في شَيْءٍ مِنْ أحاديثِهما الَّتي تلقَّتْها الأُمَّة ُ بالقَبُول والتَّسْليم ، ولَمْ يتكلَّمْ فيها أَحَدٌ مِنَ الحُفّاظِ بشَيْءٍ : كان ذلك طَعْنًا في«الصَّحيحين» ، ونفيًا لِمَرْتبتِهما ، وعُلُوِّهما عن بقيَّة كُتُب الحديث .
الوجه الثالث : أَنَّ الإجماعَ على صِحَّةِ أحاديث«الصَّحيحين» ، وتلقِّي الأُمَّةِ لهما بالقَبُول : صحيحٌ لا شَك َّ فيه ، ومُنْعقدٌ لا رَيْبَ في انعقادِه .
وكلامُ بَعْض ِالحُفّاظ في بَعْض ِأحاديثِهما لا يُخْرِجُها عن ذلك ، فإنَّ أحاديثَ «الصَّحيحين» أقسامٌ ثلاثة :
1- قِسْمٌ : لَمْ يتكلَّمْ فيه أَحدٌ مِنَ الأَئمَّةِ الحُفّاظِ :
فهذا صحيحٌ ، مُجْمَعٌ على صِحَّتِه مُتلقَّى بالقَبُول ، وهو غالبُ أحاديثِهما ، بل الجميع سوى أحاديث قليلة .
2- وقِسْمٌ : تكلَّم فيه بَعْضُ العُلَماءِ ، أو المُنْتسبينَ إلى العِلْمِ ، أو بَعْضُ أهل البدع ، ولَمْ يَسْبِقْهُمْ أَحَدٌ مِنَ الأَئمَّة إلى ذلك :
فهؤلاء لا قيمة َ لطَعْنِهم ولا اعتبار ، سَوَاءٌ ذكروا عِلَّة ً، أَوْ لَمْ يذكروا . وقد انعقدَ الإجماعُ على صِحَّتِهما قَبْلَ كلامِهم ، فكلامُهم قَلَّ أو كَثُرَ لا أَثَرَ له ولا تأثير ، إلا َّ أَنْ يكونَ أثَرُهُ في دَلالتِهِ على جَهْلِهم ، وَسَفَهِ أَحلامِهم .
3- وقِسْمٌ : تكلَّمَ فيه بَعْضُ الحُفّاظِ المُتَقَدِّمِينَ ، وكانوا مِنْ أَئمَّةِ الحديثِ والعِلَل ِ ومَعْرفةِ الرِّجال ، وأَصحابَ اتِّبَاعٍ واستقامة :
فأَحاديثُ هذا القِسْم في«الصَّحيحين» قليلة ٌ، وهي خارجة ٌ عن إجماعِ الأُمَّةِ الَّذِي ذكرناهُ ، وعَنْ تلقِّيها لها بالقَبُول .
وحَالُ أحاديث هذا القِسْمِ ، كحَال ِ غَيرِها مِنْ أحاديث المسانيد والسُّنَن وغَيرِها ، لِكُلِّ عَالِمٍ مُجْتَهدٍ اجتهادُه ، فَرُبَّما كَانَ الصَّوابُ فيها التَّصْحيحَ ، كما هو قَوْلُ الشَّيْخين ِ، أَوِ التَّضْعيفَ كَمَا هو قَوْلُ مُخَالفِهما .
على أَنَّ جُمْلة ً مِنْ أحاديثِ هذا القِسْم ليس نِزَاع العُلمَاء في صِحَّةِ أَصْلِهَا، وإنَّما نِزَاعُهم في بَعْض ألفاظِه ، أو طُرُقِه ونحو ذلك فحَسْب .
أَمّا زَعْمُ القَنُّوبيِّ ، وبَعْض ِ كِبَارِ جُهّال ِالمُبْتدعةِ : أَنَّ أحاديثَ «الصَّحيحين» فيها أحاديثُ مَوْضوعة ٌ مَكْذوبة ٌ! تَشْهَدُ بوَضْعِها العُقُول ! والمتواتر مِنَ المَنْقُول ! : فكذبة ٌ بَلْقَاءُ مُزْرية ، لَمْ يتكلَّمْ بها أَحَدٌ مِمَّنْ لِقَوْلِهِ اعتبار ، غير ابن حَزْمٍ ، فإنَّهُ ذكَرَ أَنَّ في«الصَّحيحين» حديثَين ِ مَوْضوعَين ِ! وقَدْ رُدَّ قَوْلُهُ عليه ، وبَيَّنَ لَهُ الأَئمة ُ كبيرَ خطئِهِ ، وعظيمَ غلطِه .
فإذا تقرَّرَ هذا : فإنَّ الطّاعِنَ في أحاديث أَحَدِ القِسْمَين ِالأَوَّلَين ِ، أو الزّاعمَ أَنَّ فيهما أحاديثَ مَوْضوعة ً مَكْذوبة ً: طاعنٌ في«الصَّحيحين»ِ أَصْلا ً وفي أحاديثِهما ، ومُفْسِدٌ لِشَرْطِهما ، وتَلَقِّي الأُمَّةِ بالقَبُول ِ لهُمَا .
وقَدْ ذكرتُ في كتابي«قدوم كتائب الجهاد»(ص175-182) حكاية َ جَمَاعَاتٍ مِنْ أهل العِلْمِ إجْمَاعَ الأُمَّةِ على صِحَّةِ «الصَّحيحين»ِ ، وتَلَقِّيْهما لهُمَا بالقَبُول .
وظَنُّ القَنُّوبيِّ أَنَّ إجْمَاعَ الأُمَّةِ أو تلقِّيْها لأحاديثِهما بالقَبُول باطلٌ ! بما جَمَعَهُ مِنْ أحاديثِ «الصَّحيحين» الَّتي تكلَّم فيها بَعْضُ العُلمَاء : هو مِنْ جُمْلةِ جَهْلهِ ، وضَعْفِ عِلْمِه .
فإنَّ إجْمَاعَ الأُمَّةِ وتلقِّيْها لهما بالقَبُول خَاصٌّ بالقِسْمَين ِالأَوَّلَين ِ، أَمّا القِسْمُ الثّالثُ فحَالُهُ كَمَا ذكَرْتُ آنِفًا .
لهذا تَجِدُ أَنَّ مِنْ أهل العِلْمِ مَنْ حَكَى إجماعَ الأُمَّةِ على صِحَّةِ «الصَّحيحين» ، وتلقِّي الأُمَّةِ لهُمَا بالقَبُول ، ثُمَّ تجدُ له كلامًا في بَعْض ِ أحاديثِهما !
ولَمْ يَقَعْ هذا له غَفْلة ً ولا سَهْوًا ، ولكن لعِلْمِهِ أَنَّ الإجماعَ ، وتلقِّي الأُمَّةِ بالقَبُول خَاصٌّ بالقِسْمَين ِالأَوَّلَين ِ، وأَنَّ كلامَهُ هو في تلك الأَحاديثِ لكَوْنِها مِنَ القِسْمِ الثّالث .
فَمَنْ تكلَّمَ في أحاديثِ القِسْمِ الثّالث مِمَّنْ ذكَرَ القَنُّوبيُّ في كتابهِ : فهو مُجْتَهدٌ إنْ مَلَك َ الآلة ، بَينَ الأَجْرِ والأَجْرَيْن .
أَمّا مَنْ تكلَّمَ في أحاديثِ القِسْمَين ِالأَوَّلين ِ: فهو مأزورٌ غَيرُ مأجور ، قد غَرَّهُ وزَيَّنَ له سُوْءَ عَمَلِهِ الغَرُور ! ) .