حديث الثقلين وفقهه
الدكتور علي السالوس
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله حمدا طيبا طاهرا مباركا فيه . نحمده سبحانه وتعالى ونستعينه ونستهديه . ونصلي ونسلم على رسوله المصطفى المبعوث رحمة للعالمين، وعلى آله وصحبه ، ومن اهتدى بهديه، واتبع سنته إلى يوم الدين .
أما بعد:
فلعل البشرية في تاريخها لم تعرف علما نقل
بالضبط الذي نقل به حديث رسول الله .
وإذا كان ربنا عز وجل قد تكفل بحفظ القرآن الكريم :
(( إنا نحن نزلنا الذكر وإنا له لحافظون ))
(سورة الحجر الآية 9)
فمن تمام حفظ الكتاب العزيز حفظ السنة المطهرة ،
ولهذا هيأ لها من المسلمين من حفظها ووعها،
أداها كما سمعها .
ومرت السنة بمراحل قبل عصر التدوين ،
ثم حاول أناس أن يلبسوا الحق بالباطل،
وأن يفتروا على رسول الله ،
وأخطأ آخرون في النقل،
فكان للأئمة الأعلام دورهم الذي قاموا به.
قال الإمام مسلم رحمه الله -
في كتاب التمييز(ص 171)، وهو كتابه في العلل :
" واعلم، رحمك الله ، أن صناعة الحديث، ومعرفة أسبابه من الصحيح والسقيم، إنما هي لأهل الحديث خاصة، لأنهم الحفاظ لروايات الناس العارفين دون غيرهم .
إذ الأصل الذي يعتمدون لأديانهم السنن والآثار المنقولة،
من عصر إلى عصر من لدن النبي إلى عصرنا هذا، فلا سبيل لمن نابذهم من الناس، وخالفهم في المذهب، إلى معرفة الحديث ومعرفة الرجال من علماء الأمصار فيما مضى من الأمصار، من نقال الأخبار وحمال الآثار.
وأهل الحديثهم الذين يعرفونهم ويميزونهم حتى ينزلوهم منازلهم في التعديل والتجريح .وإنما اقتصصنا هذا الكلام، لكي ننبه من جهل مذهب أهل الحديث ممن يريد التعلم والتنبه . على تثبيت الرجال وتضعيفهم، فيعرف ما الشواهد عندهم، والدلائل التي بها ثبتوا الناقل للخبر من نقله ،أو سقطوا من أسقطوا منهم ، والكلام في تفسير ذلك يكثر ". أ. ه.
هذا كلام مشرق، ما أحوجنا إلى تدبره في عصر أصبحت السنة المطهرة حديث كل من هب ودب !
حتى وإن كان مستشرقا صليبيا أو يهوديا ، أو تلميذا غذي بسمومهم ، أو حاقدا أثيما، أو جاهلا متطفلا.
وأقدم هنا نموذجا لدراسة حديث ،
وستبين هذه الدراسة
سقطات الجاهلين ، واختلافات العالمين .
والحديث اختلفت أسانيده ،
وتنوعت متونه .
وصدر في القاهرة مؤخرا كتاب عنوانه
"حديث الثقلين "،
ذكر مؤلف الكتاب أنه ينقل الأخبار الصحيحة
الموقوفة المنسوبة إلى أصحابها ورواتها.
ونشرت الكتاب جهة علمية أيدت قول المؤلف .
نظرت في الكتاب فوجدته
يشير إلى الرواة والأسانيد،
ويجمع بين أجزاء المتون المختلفة،
ويخلط بينهما،
فلا ينسب كل متن إلى إسناده،
ولا يذكر من خرجه .
وخلط المتون والأسانيد
يجعلنا لا نميز إسناد كل متن،
ولا نعرف من خرج كل رواية.
وأظن أن هذا المنهج الذي سلكه المؤلف
ليس بالمنهج العلمي الصحيح، فيمكن أن يخلط الصحيح بالضعيف والموضوع . وأن يمزج بين الحق والباطل .
لذا رأيت أن أتتبع روايات هذا الحديث الشريف
في كتب السنة قدر الاستطاعة،
وأجمع كل الروايات،
وأجعل كل متن مع إسناده،
ذاكرا من أخرجه، ثم أنظر فيما جمعت رواية وفقها،
مستعينا بالله عز وجل .
الفصل الأوّل
الروايات
من كتب السنة
أولا - الموطأ :
لا نجد في موطأ الإمام مالك ذكرا للثقلين، وإنما يروى عن الرسول- -أنه قال: " تركت فيكم أمرين لن تضلوا ما تمسكتم بهما كتاب الله وسنة نبيه ".
( انظر كتاب النهي عن القول بالقدر) .
وهذا ا الحديث الشريف غير متصل الإسناد،
إلا أن عبد ابن عبد البر وصله من حديث كثير بن عبد بن عمرو بن عوف عن أبيه عن جده .
( انظر تنوير الحوالك 2/308) .
وقال ابن عبد البر كذلك:
مرسلات مالك كلها صحيحة مسندة (1/38)
وقال جلال الدين السيوطي:
ما من مرسل في الموطأ إلا وله عاضد أو عواضد.
فالصواب إطلاق أن الموطأ صحيح لا يستثنى منه شيء " .
( المرجع نفسه 1/6 ) .
ثانيا: ذكر الكتاب والسنة في غير الموطأ:
عندما ننظر في كتاب مفتاح كنوز السنة
تجد في باب الميم فيما ذكره عن محمد- -
الإشارة إلى عشرة مراجع من مراجعه الأربعة عشر
ذكرت الوصية بالكتاب والسنة .
وبالرجوع إلى هذه الكتب نجد في غير الموطأ ما جاء في سيرة محمد بن إسحاق التي جمعها ابن هشام ،
خطبة الرسول- - في حجة الوداع (4/603)، ومما جاء في الخطبة قول الرسول - : " وقد تركت فيكم ما إن اعتصمتم به فلن تضلوا أبدا، أمرا بينا: كتاب الله وسنة نبيه) " .
وفي صحيح البخاري نجد
" كتاب الاعتصام بالكتاب والسنة "
ومما جاء فيه : " وكانت الأئمة بعد النبي - - يستشيرون الأمناء من أهل العلم في الأمور المباحة ليأخذوا بأسهلها ، فإذا وضح الكتاب أو السنة لم يتعدوه إلى غيره ، اقتداء بالنبي - " .
ونجد في بعض هذه المراجع العشرة
الوصيةبكتاب الله تعالى دون ذكر السنة،
من ذلك ما جاء في سنن الدارمي .
حدثنا محمد بن يوسف، عن مالك بن مغول، عن طلحة بن مصرف اليامي، قال: "سألت عبد الله بن أبا أوفى : أوصي رسول الله - ؟ قال: لا ، قلت : فكيف كتب على الناس الوصية، أو أمروا بالوصية ؟ فقال : أوصى بكتاب الله ".
( أنظر كتاب الوصايا. باب من لم يوص
ج 2 ص 390 - 291 ).
وفي سنن النسائي رواية أخرى لهذا الحديث .
وقال السيوطي في شرحه: " أوصى بكتاب الله أي بدينه، أو به وبنحوه ليثمل السنة".
( أنظر كتاب الوصايا - باب هل أوصى النبي ؟ ج6 ص240).
وفي غير المراجع العشرة نجد مثلا في كتاب
الزهد لعبد الله بن المبارك " باب في لزوم السنة "
ويحتوي على ثمانية أخبار.
وفي المسند لأبي بكر عبد الله بن الزبير الحميدي حدث المصنف قال : ثنا سفيان قال : ثنا مالك بن مغول عن طلحة بن مصرف قال : سألت عبد الله بن أبي أوفى : " هل أوصى رسول ؟ فقال : لم يترك رسول الله - - شيئا يوصي فيه . قلت : وكيف أمر الناس بالوصية ولم يوص؟ قال : أوصى بكتاب الله "
(أنظر المجلد الثاني - حديث رقم 722) .
وفى فيض القدير شرح الجامع الصغير،نجد رواية عن أبى هريرة قال: خطب النبي -- في حجة الوداع فقال :
" تركت فيكم شيئين لن تضلوا بعدهما: كتاب الله وسنتي، ولن يتفرقا حتى يردا على الحوض " . .
ومما قله المناوي في شرحه :
إنهما الأصلان اللذان لا عدول عنهما،
ولا هدى إلا منهما،
والعصمة والنجاة لمن تمسك بهما،
واعتصم بحبلهما .
الفرقان الواضح ،
والبرهان اللائح بين المحق إذا اقتفاهما ،
والمبطل إذا خلاهما،
فوجوب الرجوع إلى الكتاب والسنة
متعين معلوم من الدين بالضرورة.
( راجع الجزء الثالث ص 240 - 241 ، حديث رقم 3282 وشرحه، وانظر صحيح الجامع الصغير ناصر الدين ا!لباني ج . حديث رقم 2934 ) .
ولسنا في حاجة إلى أن نطيل الوقوف هنا،
فلا خلف بين المسلمين في وجوب التمسك والاعتصام
بالقرآن الكريم . والسنة النبوية المطهرة .
والخلاف حول شيء من السنة
مرده
إلى الخلاف حول الثبوت أو الدلالة ،
أما ما ثبت عن الرسول ،
وكان واضح الدلالة،
فلا خلاف حول الأخذ به ووجوب اتباعه،
فقد نطق بهذا الكتاب المجيد في مثل قوله تعالى:
خيرا كثيرا،
رأيت رسول الله - ،
وسمعت حديثه،
وغزوت معه،
وصليت خلفه،
لقد لقيت يا زيد خيرا كثيرا،
حدثنا يا زيد ما
سمعت من رسول الله - - قال يا بن أخي: والله لقد كبرت سني، وقدم عهدي، ونسيت بعض الذي كنت أعي من رسول الله-
- فما حدثتكم فاقبلوا، وما لا فلا تكلفونيه، ثم قال: قام رسول الله - - يوما فينا خطيبا بماء يدعى خما بين مكة والمدينة،
فحمد الله وأثنى عليه، ووعظ وذكر، ثم قال: " أما بعد: ألا أيها الناس فإنما أنا بشر يوشك أن يأتي رسول ربي فأجيب، وأنا تارك
فيكم ثقلين: أولهما كتاب الله فيه الهدى والنور، فخذوا كتاب الله واستمسكوا به ، فحث على كتاب الله ورغب فيه، ثم قال: وأهل
بيتي أذكركم الله في أهل بيت ، أذكركم الله في أهل بيتي، أذكركم الله في أهل بيتي "
فقال له حصين: ومن أهل بيته يا زيد ؟ أليس نساؤه من أهل بيته ؟ قال: نساؤه من أهل بيته، ولكن أهل بيته من حرم الصدقة بعده، قال: ومن هم؟ قال: هم آل علي، وآل عقيل، وآل جعفر، وآل عباس. قال: كل هؤلاء حرم الصدقة ؟ قال: نعم.
(2) وحدثنا محمد بن بكار بن الريان، حدثنا حسنا يعني ابن إبراهيم عن سعيد بن مسروق، عن يزيد بن حيان، عن زيد بن أرقم،عن النبي - -
وساق الحديث بنحوه بمعنى الحديث زهير .
(3) حدثنا أبو بكر بن أبي شيبة، حدثنا محمد بن فضيل ح وحدثنا إسحاق بن إبراهيم، أخبرنا جرير،
كلاهما عن أبي حيان، بهذاالإسناد نحو حديث إسماعيل،
وزاد في حديث جرير:
كتاب الله فيه الهدى والنور من استمسك به وأخذ به
كان على الهدى ومن أخطأه ضل .
(4) حدثنا محمد بن بكار بن الريان، حدثنا حسان "يعني ابن إبراهيم"، عن سعيد " وهو ابن مسروق" عن يزيد بهن أرقم قال: دخلنا عليه فقلنا له : لقد رأيت خيرا لقد صاحبت رسون الله - - - وصليت حلفه .. وساق الحديث بنحو حديث أبي حيان غير أنه قال: " ألا وإني تارك فيكم ثقلين، أحدهما كتاب الله عزوجل، هو حبل الله من اتبعه كان على هدى ومن تركه كان على ضلالة، وفيه: فقلنا : من أهل بيته ؟ نساؤه ؟ قال لا وأيم الله إن المرأة تكون مع الرجل العصر من الدهر ثم يطلقها فترجع إلى أبيها وقومها، أهل بيته أصله وعصبته الذين حرموا الصدقة بعده.
رابعا: مسند الإمام أحمد وروايته عن زيد بن أرقم : -
ذكر الإمام أحمد في مسنده سبع، روايات لحديث الثقلين
إحداها عن زيد بن أرقم،
وهي تنفق مع ما رواه الإمام مسلم،
وأربع روايات عن أبي سعيد الخدري،
وروايات عن زيد بن ثابت،
والروايات الست تختلف
عما رواه أحمد ومسلم عن زيد بن أرقم،
لذلك نرجيء ذكرها وما يتعلق بها إلى تنتهي من الرواية الأولى، وهي كما جاءت في المسند (4/ 366 - 367) .
" حدثنا عبد الله ، حدثني أبي: ثنا إسماعيل بن إبراهيم عن أبي حبان التميمي ، حدثني يزيد بن حيان التميمي ، قال : انطلقنا أنا وحصين بن سبرة ، وعمر بن مسلم، إلى زيد بن أرقم ، فلما جلسنا إليه قال حصين : لقد لقيت يا زيد خيرا كثيرا ، رأيت رسول الله - - وسمعت حديثه، وغزوت معه، وصليت معه، لقد رأيت يا زيد خيرا كثيرا ، حدثنا يا زيد ما سمعت من رسول الله -- فقال: يا ابن أخي والله لقد كبرت سني، وقدم عهدي، ونسيت بعض الذي كنت أعي من رسول الله -- فما حدثتكم فاقبلوه وما لا فلا تكلفونيه. ثم قال : قام رسول الله - - يوما خطيبا فينا بماء يدعى خما، ثم قال:" أما بعد: ألا يأيها الناس إنما أنا بشر يوشك أن يأتيني رسول ربي عز وجل فأجيب ، وإني تارك فيم ثقلين : أولهما كتاب الله عز وجل فيه الهدى والنور، فخذوا بكتاب الله تعالى واستمسكوا به ، فحث على كتاب الله . ورغب فيه ، وقال : وأهل بيتي : أذكركم الله في أهل بيتي، أذكركم الله في أهل بيتي، أذكركم الله في أهل بيتي".
فقال له حصين : ومن أهل بيته يا زيد ؟ أليس نساؤه من أهل بيته ؟ قال : إن نساءه من أهل بيته " ولكن أهل بيته من حرم الصدقة بعده قال: ومن هم ؟قال: هم آل علي، وآل عقيل، وآل جعفر، وآل عباس، قال : أكل هؤلاء حرم الصدقة ؟ قال : نعم " .
هذه روايات حديث الثقلين
التي رواها الإمام مسلم وأحمد عن زيد ابن أرقم،
وهي تدل على
وجوب الاعتصام بكتاب الله تعالى،
والقرآن الكريم أمرنا بالأخذ بسنة رسول الله .
فهذه الروايات إذاً تتفق مع الروايات
التي تدعونا إلى التمسك بالكتاب والسنة .
كما أن هذه الروايات تحثنا معشر المسلمين
على أن نرعى حقوق أهل بيت الرسول --
فنحبهم ونوقرهم وننزلهم منازلهم
فحبنا لرسولنا - يدفعنا لحبنا لآله الأطهار،
وعلينا أن نصلهم ،
ورحم الله أبا بكر الصديق حيث قال :
"والذي نفسي بيده لقرابة رسول الله --
أحب إليّ أن أصل من قرابتي " .
وقال:" ارغبوا محمدا -- في أهل بيته "
( أخرجهما البخاري وغيره ) .
والمراد بأهل البيت
أمهات المؤمنين رضي الله تعالى عنهن،
وأقارب الرسول - -
الذين حرموا الصدقة بعده -رضي الله تعالى عنهم جميعا .
والمعنى يشمل الجميع،
ولا يقتصر على أحد دون أحد،
ولذلك عندما جاء السؤال:
" من أهل بيته ؟ نساؤه ؟
كان الجواب:" لا وأيم الله "،
وعندما جاء السؤال بمن التبعيضية
" أليس نساؤه من أهل بيته؟"
كان الجواب مؤكدا أنهن من أهل البيت
" إن نساءه من أهل بيته " .
ورأى قوم
أن أمهات المؤمنين لسن من أهل البيت !
وأن المراد
من أهل البيت ينحصر في أفراد معدودين معلومين !
فالمعنى كذلك
لا يمتد ليشمل
باقي الأقارب الذين أشارت إليهم هذه الروايات!.
وذكر هؤلاء القوم ما رأوا أنه يؤيد ما يذهبون إليه ،
وقد ناقشتهم ، وأثبت عدم صحة قولهم ،
وبينت هذا بالتفصيل في
كتيب" آية التطهير بين أمهات المؤمنين وأهل الكساء " ، فليرجع أليه من شاء . . .
خامسا:باقي روايات الثقلين في المسند وغيره : -
بالبحث في كتب السنة نجد روايتين في سنن الترمذي تتفقان
مع روايات مسند الإمام أحمد الستة التي أشرنا إليها من قبل .
ونذكر هنا الروايات الثمانية، ثم نتحدث عنها .
روايات المسند هي :
- حدثنا عبد الله، حدثني أبي، حدثنا أسود بن عامر، أخبرنا إسرائيل، يعني إسماعيل بن أبي إسحاق الملائي، عن عطية، عن أبي سعيد قال : قال رسول الله - : " إني تارك فيم الثقلين ، أحدهما أكبر من الآخر، كتاب الله حبل ممدود من السماء إلى الأرض ، وعترتي أهل بيتي، وإنهما لن يفترقا حتى يردا على الحوض " (3/14) .
2- حدثنا عبد الله : حدثني أبي، حدثنا أبو النضر، حدثنا محمد يعني ابن طلحة، عن الأعمش، عن عطية العوفي، عن أبي سعيد الخدري ،عن النبي -- ، قال: " إني أوشك أن أدعى فأجيب ، و إني تارك فيم الثقلين ، كتاب الله عز وجل ، وعترتي . كتاب الله حبل ممدود من السماء إلى الأرض، وعترتي أهل بيتي ، وإن اللطيف الخبير أخبرني أنهما لن يفترقا حتى يردا على الحوض ، فانظروني بم تخلفوني فيهما ؟ " . (3/17).
3- حدثنا عبد الله ، حدثني أبي، ثنا ابن نمير، ثنا عبد الملك يعني ابن أبي سليمان ، عن عطية، عن أبي سعيد الخدري قال : قال رسول الله -: " إني قد تركت فيم الثقلين ، أحدهما أكبر من الآخر: كتاب الله عز وجل حبل ممدود من السماء إلى الأرض ، وعترتي أهل بيتي ، ألا إنهما لن يفترقا حتى يردا على الحوض"
. (3 / 26 ) .
2 - حدثنا علي بن المنذر كوفي، حدثنا محمد بن فضيل، قال : حدثنا الأعمش، عن عطية، عن أبي سعيد، والأعمش عن حبيب بن أبي ثابت ، عن زيد بن أرقم رضي الله عنهما قالا: قال رسول الله --: " إني تارك فيم ما إن تمسكتم به لن تضلوا بعدي ، أحدهما أعظم من الآخر: كتاب الله حبل ممدود من السماء إلى الأرض، وعترتي أهل بيتي ، ولن يفترقا حتى يردا على الحوض ، فانظروا كيف تخلفوني فيهما "(حسن غريب ).
سادسا :مناقشة الروايات :
هذه هي بقية روايات حديث الثقلين،
وبالنظر فيها نجد ما يأتي:
1 - عن أبي سعيد الخدري خمس روايات "
الأربع الأولى من المسند
(1) انظر مناقب أهل بيت النبي - -
في أبواب المناقب من سننه .
والثانية من سنن الترمذي،
وهذه الروايات كلها يرويها عطية عن أبي سعيد،
وعطية هو عطية بن سعد بن جنادة العوفي،
والإمام أحمد نفسه - صاحب المسند -
تحدث عن عطية وعن روايته عن أبي سعيد
فقال بأنه ضعيف الحديث،
وأن الثوري وهشيما كانا يضعان حديثه،
وقال : بلغني أن عطية كان يأتي الكلبي فيأخذ عنه التفسير، وكان يكنيه بأبي سعيد فيقول :
قال أبو سعيد، فيوهم أنه الخدري .
وقال أبو حبان : سمع عطية من أبي سعيد الخدري أحاديث ، فلما مات جعل يجالس الكلبي ، فإذا قال الكلبي: قال رسول الله -- كذا، فيحفظه، وكناه أبا سعيد، وروى عنه ، فإذا قيل له : من حدثك بهذا ؟ فيقول : حدثني أبو سعيد، فيتوهمون أنه يريد أبا سعيد الخدري،وإنما أراد الكلبي،
قال: لا يحل كتب حديثه إلا على التعجب.
وقال البخاري في حديث رواه عطية:
أحاديث الكوفيين هذه مناكير،
وقال أيضا: كان هشيم يتكلم فيه .
ولقد ضعفهالنسائي أيضا في الضعفاء ، وكذلك أبو حاتم،
ومع هذا كله وثقه ابن سعد فقال : " كان ثقة إن شاء الله، وله أحاديث صالحة، ومن الناس من لا يحتج به" .
وسئل يحيى بن معين : كيف حديث عطية ؟ قال: صالح (2).
وما ذكره أبن سعد وابن معين
لا يثبت أمام ما ذكر من قبل .
وقد يقال هنا إذا كان الإمام أحمد يرى
ضعف حديث عطية فلماذا روى عنه ؟
والجواب أن الإمام أحمد
إنما روى في مسنده ما اشتهر
ولم يقصد الصحيح ولا السقيم،
ويدل على ذلك أن ابنه عبد الله قال:
(2) انظر ترجمة في تهذيب التهذيب ، وميزان الاعتدال ,
قلت لأبي: ما تقول في حديث ربعي بن خراش عن حذيفة ؟ قال : الذي يرويه عبد العزيز بن أبي رواد ؟ قلت: نعم ، قال الأحاديث بخلافه، قلت: ففد ذكرته في المسند ؟ قال: فصدت في المسند المشهور، فلو أردت أن أقصد ما صح عندي لم أرو من هذا المسند إلا الشيء لعد الشيء اليسير، وقد طعن الإمام أحمد في أحاديث كثيرة في المسند، ورد كثيرا مما روى، ولم يقل به، ولم يجعله مذهبا له (3) .
وعندما عد ابن الجوزي من الأحاديث الموضوعة
أحاديث أخرجها الإمام أحمد في مسنده،
وثار عليه من ثار،
ألف ابن حجر العسقلاني كتابه
" القول المسدد في الذب عن المسند " ،
فذكر الأحاديث التي أوردها ابن الجوزي،
ثم أجاب عنها،
ومما قال: "الأحاديث التي ذكرها ليس فيها شيء من أحاديث الأحكام في الحلال والحرام، والتساهل في إيرادها مع ترك البيان بحالها شائع. وقد ثبت عن الإمام أحمد وغيره من الأئمة أنهم قالوا : إذا روينا الحلال والحرام شددنا، وإذا روينا في الفضائل ونحوها تساهلنا. وهكذا حال هذه الأحاديث (4) .
وما ذكره ابن حجر ينطبق على الأحاديث المروية
في فضائل أهل البيت والتمسك بالعترة .
2-الرواية الثانيةللترمذي
رواها عن علي بن الكوفي .عن محمد بن فضيل،
ثم أنقسم السند إلى طريقين:
انتهى الأول إلى عطية عن أبي سعيد ،
والثاني إلى زيد بن أرقم ،
ولا يظهر هنا أي السندين هو الأصل .
وإذا نظرنا في الروايات الأربع السابقة
التي رواها عطية عن أبي سعيد
نجد توافقا تاما في المعنى، وفي كثير
(3) انظر المسند شاكر- طلائع الكتاب 1/75 .
(4) ص11 من القول المسدد .
من اللفظ بينهما وبين هذه الرواية .
مما يرجح أن هذا الطريق هو الأصل، وهو المذكور أولا في الإسناد. ومن قبل ذكرت ما رواه الإمامان أحمد ومسلم عن زيد بن أرقم بطرق متعددة .
وفي تلك الروايات ذكر قوله :
وأنا تارك فيكم ثقلين أولهما كتاب الله فيه الهدى والنور فخذوا بكتاب الله واستمسكوا به "،
فحث على كتاب الله ورغب فيه، ثم قال :
" وأهل بيتي ، أذكركم الله في أهل بيتي".
وهذا يتفق بعض الشيء مع رواية الترمذي
لكن بينهما اختلاف كبير يستوجب عدم الجمع.
مما يجعلنا نطمئن إلى ضم رواية الترمذي
إلى الروايات الأربع التي رواها عطية عن أبي سعيد .
واستبعادها عن روايات زيد بن أرقم إلا في موضع الاتفاق .
والذي جمع بين الطريقين في هذا الإسناد
علي بن المنذر الكوفي، أو محمد بن فضيل .
ولكن الثاني روى عنه مسلم في إحدى رواياته السابقة
عن زيد بن أرقم، فيستبعد الجمع عن طريقه.
فلم يبقى إلا علي بن المنذر،
وهو من شيعة الكوفة،
قال أبي حاتم : سمعت منه مع أبي،
وهو صدوق ثقة. سئل عمه أبي ففال : محله الصدق ،
قال النسائي : شيعي محض ثقة . وذكره ابن ص حبان في الثقات.
وقال ابن نمير: هو ثقة صدوق.
وقال الدارقطني: لا بأس به، وكذا قال مسلمة بن قاسم.
وزاد: كان يشيع .
وقال الإسماعيلي : في القلب منه شيء لست أخبره .
وقال ابن ماجة: سمعته يقول:
حججنا ثمانيا وخمسين حجة أكثرها راجلا(5) .
وما سمعه منه ابن ماجة
يجعلنا نردد كثيرا في الاحتجاج بقوله :
فكيف يقطع آلاف الأميال للحج ثمانيا
وخمسين مرة أكثرها راجلا؟
ليس من المستبعد إذاً
أن يجمع راو شيعي كهذا بين روايتين في
مناقب أهل البيت لا تتفقان في شيء.
وتختلفان في شيء آخر.
(5) انظر ترجمته في تهذيب التهذيب .
وهكذا يجعلنا نزداد اطمئنانا إلى ما انتهينا إليه من جعل هذه الرواية مع الروايات الأخرى لعطية عن أبا سعيد.
وفصلها عن روايات زيد بن أرقم .
على أن هذه الرواية فيها ضعف آخر.
وهو الانقطاع في موضعين،
فالأعمش وحبيب بن أبي ثابت مدلسان .
وهما يرويان بالعنعنة.
فلم يثبت سماع كل منهما هنا .
والأعمش وحبيب من الثقات.
وثبت سماع الأعمش من حبيب،
وسماع حبيب س زيد بن أرقم،
إلا أن في هذه الرواية لم يثبت السماع ،
والأعمش فيه تشيع وهو كوفي، وحبيب كوفي أيضا ،
وفي بيئة الكوفة
يمكن أن تشيع مثل هذه الأحاديث دون دقة أو تمحيص .
وحبيب نفسه قال لابن جعفر النحاس :
إذا حدثني رجل عنك بحديث، ثم حدثت به عنك كنت صادقا (6) .
وفي المستدرك روى الحاكم (7) هذا الحديث بما يفيد سماع
(6) الأعمشهو سليمان بن مهران الأصدق الكاهلي.
مولاهم أبو محمد الكوفي.
انظر ترجمته وترجمه حبيب في تهذيب التهذيب،
وميزان الاعتدال .
(7) هو أبو عبد الله محمد بن عبد الله الضبي النيسابوري.
ولد سنة 331 ه. وجاوز الثمانين حيث توفى سنة 405ه.
قال عنه ابن حجر في لسان الميزان:
إمام صدوق ولكنه يصحح في مستدركه أحاديث ساقطة
فيكثر من ذلك،
فما أدري هل خفيت عليه ؟
فما هو ممن جهل ذلك. وإن علم فهو خيانة عظيمة .
ثم هو شيعي مشهور بذلك
من غير تعرض للشيخين.
والحاكم
أجل قدرا وأعظم خطرا وأكبر ذكرا من أن يذكر
في الضعفاء،
لكن قيل في الاعتذار عنه أنه عند تضعيفه للمستدرك كان كما في أواخر عمره. وذكر بعضهم أنه حصل له تغير وغفلة في آخر عمره ويدل على ذلك أنه ذكر جماعة في كتاب =
الأعمش من حبيب،
وهذا يحتاج إلى مراجعة الإسناد الذي ذكره، وما أكثر رجاله. غير إننا مضطرين إلى بذل هذا الجهد،
فإن ثبت سماع الأعمش بقي أكثر من موطن ضعف .
والحاكم ذكر الحديث بروايتين:
إحداهما في إسنادها الإمام أحمد بن حنبل،
وسيأتي أنه هو نفسه ضعف الحديث كما ذكره ابن تيمية. والأخرى بين الذهبي وهي إسنادها (8) .
3- القاسم بن حسان العامري الكوفي
روى الروايتين الخامسة والسادسة
من المسند
عن زيد بن ثابت،
ورجح المرحوم الشيخ أحمد شاكر توثيقه
وقال: " وثقه أحمد بن صالح،
وذكره ابن حيان في ثقات التابعين.
وذكر البخاري في الكبير اسمه فقط، ولم يذكر عنه شيئا،
وترجمه ابن أبي حاتم في الجرح والتعديل فلم يذكر فيه جراحا، ثم نقل عن المنذري أن البخاري قال :" القاسم بن حسان سمع من زيد بن ثابت، وعن عمه عبد الرحمن بن حرملة، وروى عنه الركين بن الربيع، لم يصح حديثه في الكوفيين".
ثم عقب شاكر على هذا بقوله: " والذي نقله المنذري عن البخاري في شأن القاسم بن حسانلا أدري من أين جاء به فإنه لم يذكر في التاريخ الكبير إلا اسمه فقط كما قلنا، ثم لم يترجمه في الصغير، ولم يذكره في الضعفاء ،
وأخشى أن يكون المنذري وهم
= الضعفاء له،
وقطع بترك الرواية عنهم،
ومنع من الاحتجاج بهم،
ثم أخرج أحاديث بعضهم في مستدركه وصححها .
(8) انظر المستدرك 3/109-110 .
وهذا الحديث من الأحاديث
التي أنكرها عليه أصحاب الحديث ،
و لم يلتفتوا إلى تصحيحه .
( راجع ترجمته بشيء من التفصيل في التذكرة التي كتبت في صدر كتابه معرفة علوم الحديث للدكتور السيد معظم حسين ) .
فأخطأ،فنقل كلام ابن أبي حاتم بمعناه منسوبا للبخاري،
وأنا أظن أن قول البخاري في عبد الرحمن من حرملة
" لا يصح حديثه "
إنما مرده إلى أنه لم يعرف شيئا عن القاسم بن حسان
، فلم يصح عنده لذلك حديث عمه عبد الرحمن (9) .
وفي توثيق القاسم بن حسان نظر،
فأين حسان ذكره أيضا في اتباع التابعين
ومقتضاه أنه لم يسمع من زيد بن ثابت،
وقال ابن القطان: لا يعرف حاله (10) .
والبخاري ذكر اسمه فقط في التاريخ الكبير،
وليس في هذا توثيق ولا تضعيف،
وفي الجرح والتعديل حقيقة لم يذكر فيه جرحا،
ولكن لم يذكر فيه كذلك تعديلا.
وإذا كان الظن بأن البخاري ضعف
عبد الرحمن من حرملة
من أجل القاسم،
فمن باب أولى أن يدخل القاسم في الضعفاء،
ويبقى هنا الإشكال
وهو أن البخاري لم يذكره في الضعفاء،
ولم يذكر فيه جرحا في كتبه الأخرى المذكورة،
فمن أين جاء المنذري
بما نقله عنهالبخاري ؟
لعل المرحوم الشيخ شاكركان يتردد فيما كتب
ولو عرف أن البخاري له كتاب آخر كبير
الضعفاء يعق في تسعة أجزاء،
وهو مخطوط، ولا يوجد منه نسخ في مصر،
فلم لا يكون المنذري نقل منه ؟
(11) وفاته كذلك أن يقرأ ترجمة القاسم في ميزان الاعتدال،
فقد نقل الذهبي عن البخاري
أن القاسم بن حسان
حديثه منكر ولا يعرف(12)،
وهذا قول لا يحتمل الوهم.
فلا شك أن المنذري والذهبي
(9) انظر المسند ج 5 التعليق على الرواية3605، وهذه غير روايات العترة
(10) انظر ترجمته في تهذيب التهذيب .
(11) في الحديث عن أحد الرواة قال العلامة المرحوم أحمد شاكر " نقل الحافظ في التهذيب أن البخاري ذكره في الضعفاء، ولم أجده فيه " . وهذا يؤيد أنه لم يسمع بكتاب الضعفاء الكبير للبخاري-
انظر قوله في الحديث عن الرواية رقم 646 بالجزء الثاني من المسند .
(12) يطلق البخاري " منكر الحديث"
على من لا تحل الرواية عنه،
أما عند غيره فمنكر الحديث في درجة ضعيف الحديث
- انظر: قواعد في علوم الحديث للتهانوي ص 258، وانظر كذلك تدريب الراوي 1/349 ، وميزان الاعتدال 1/6 .
قد رجعا لما لم يتيسر لنا الرجوع إليه، وأغلب الظن - إن لم يكن من المؤكد-أنهما نقلا عن كتاب الضعفاء الكبير للبخاري .
4- لم يبق إذاً إلا الرواية الأولى للترمذي ،
وفي سندها زيد بن الحسن الأنماطي الكوفي،
الذي روى عن الإمام الصادق عن أبيه عن جابر بن عبد الله ،
قال أبو حاتم عن زيد هذا:
كوفي قدم بغداد،
منكر الحديث،
وذكره ابن حبان في الثقات (13) .
وخطبة الرسول - - في خطبة الوداع
رواها مسلم بسند صحيح عن الإمام الصادق عن أبيه عن جابر، وليس فيها " وعترتي أهل بيتي(14) "
وهذه الخطبة رويت عن جابر
بطرق متعددة في مختلف كتب السنة،
وليس فيها جميعا ذكر لهذه الزيادة (15) .
سابعا: الاختلاف حول الحديث : -
رأينا فيما سبق ما رواه الإمام مسلم وأحمد عن زيد بن أرقم(16) وهذا لا خلاف حول صحته .
ورأينا الروايات الأخرى لهذا الحديث،
وظهر ما بها من ضعف.
وهنا ملحظ هام
وهو أن الضعف أساسا
جاء من موطن واحد وهو الكوفة.
وهذا يذكرنا بقول الإمام البخاري في حديث رواه عطية:
أحاديث الكوفيين هذه مناكير.
ومن هنا ندرك لماذا اعتبر ابن الجوزي
هذا الحديث من الأحاديث الموضوعة،
إن كانت الروايات في جملتها كما
يبدو لنا لا تجعل الحديث ينزل إلى درجة الموضوع .
(13) انظر ترجمته في تهذيب التهذيب، وميزان الاعتدال.
(14) راجع صحيح مسلم - كتاب الحج - باب حجة النبي - .
(15) انظر حجة النبي- - كما رواها جابر ين عبد الله ص 40-41 .
(16) راجع الروايات في " ثالثا: الصحيحان " ، و " رابعا: مسند الإمام أحمد وروايته عن زيد بن أرقم " .
يتبع بوقت لاحق ان شاءلله