فصل
في اسْتِدْلال ِ بَعْض ِ القبوْرِيِّيْنَ عَلى صِحَّةِ صَلاتِهمْ في المقابرِ وَعِنْدَ القبوْرِ ، بحدِيْثِ ابْن ِ عُمَرَ رَضِيَ الله ُ عَنْهُمَا مَرْفوْعًا «في مَسْجِدِ الخيْفِ قبْرُ سَبْعِيْنَ نَبيًّا» ، وَقدْ صَلى فِيْهِ النَّبيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَأَصْحَابُهُ وَأَئِمَّة ُ الإسْلام ! وَبيَان ِ بُطلانِهِ وَأَنهُ مُنْكرٌ ، وَرَدِّهِ عَليْهمْ
قدِ اسْتَدَلَّ بَعْضُ القبوْرِيِّيْنَ عَلى جَوَازِ صَلاتِهمْ في المقابرِ وَعِنْدَ القبوْرِ ، بَلْ وَجَوَازِ اتخاذِهَا مَسَاجِدَ ، وَرُبَّمَا جَعَلَ بَعْضُهُمْ ذلِك َ مُسْتَحَبًّا : بمَا رَوَاهُ أَبوْ هَمّامٍ الدَّلالُ عَنْ إبْرَاهِيْمِ بْن ِ طهْمَانَ عَنْ مَنْصُوْرِ بْن ِ المعْتَمِرِ عَنْ مُجَاهِدٍ عَن ِ ابْن ِ عُمَرَ رَضِيَ الله ُ عَنْهُمَا قالَ : قالَ رَسُوْلُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ :«في مَسْجِدِ الخيْفِ قبْرُ سَبْعِيْنَ نبيًّا».
قالوْا : (وَمَسْجِدُ الخيْفِ ، هُوَ مَسْجِدُ مِنَى ، وَصَلاة ُ النَّبيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِيْهِ ، وَصَلاة ُ أَصْحَابهِ : ثابتة ٌ مَعْرُوْفة ٌ صَحِيْحَة ٌ لا رَيْبَ فِيْهَا وَلا مِرْية ٌ: فدَلتْ صَلاة ُ النَّبيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في ذلِك َ المسْجِدِ مَعَ مَا فِيْهِ مِنْ قبوْرِ أَنبيَاءٍ ، عَلى جَوَازِ الصَّلاةِ في المسَاجِدِ المبْنِيَّةِ عَلى القبوْرِ، وَفي المقابرِ مِنْ بَابِ أَوْلىَ ! وَقدْ تتابعَ أَئِمَّة ُ الإسْلامِ مِنْ صَدْرِ الإسْلامِ حَتَّى اليوْم ، عَلى الصَّلاةِ فِيْهِ دُوْنَ إنكار)!
وَقدْ رَوَى هَذَا الحدِيْثَ :
- أَبوْ يَعْلى الموْصِلِيُّ(22) قالَ: أَخْبَرَنا الرَّمَادِيُّ أَبوْ بَكرٍ حَدَّثنَا أَبوْ هَمّامٍ الدَّلالُ به .
- وَالفاكِهيُّ في «أَخْبَارِ مَكة» (4/266)(2594) قالَ: حَدَّثنَا مُحَمَّدُ بْنُ صَالِحٍ حَدَّثنَا أَبوْ هَمّامٍ الدَّلالُ به .
- وَالطبَرَانِيُّ في«مُعْجَمِهِ الكبيْرِ» (12/414)(13525) قالَ: حَدَّثنَا عَبْدَانُ بْنُ أَحْمَدَ حَدَّثنَا عِيْسَى بْنُ شاذانَ حَدَّثنَا أَبوْ هَمّامٍ الدَّلالُ به .
وَالجوَابُ :
أَنَّ هَذَا الحدِيْثَ الذِي اسْتَدَلوْا بهِ ، عَلى وُجُوْدِ سَبْعِيْنَ قبْرِ نبيٍّ في مَسْجِدِ الخيْفِ : حَدِيْثٌ باطِلٌ مُنْكرٌ، وَإنْ كانَ ظاهِرُ إسْنَادِهِ الصِّحَّة !
وَهُوَ حَدِيْثٌ لمْ يُصَحِّحْهُ أَحَدٌ مِنَ الأَئِمَّةِ ، بَلْ وَلمْ يَسْتَدِلَّ بهِ أَحَدٌ مِنْ أَهْل ِ العِلمِ المعْتبرِيْنَ المتقدِّمِيْنَ عَلى شَيْءٍ مِنْ مَسَائِل ِ الصَّلاةِ في المقابرِ ، لاطرَاحِهِ وَظهُوْرِ نكارَتِهِ . وَبيانُ ذلِك َ مِنْ وُجُوْهٍ :
أَحَدُهَا : أَنهُ مُخالِفٌ لِلأَحَادِيْثِ الصَّحِيْحَةِ بَلْ وَالمتوَاتِرَةِ عَن ِ النَّبيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْ لعْنِهِ لِليهُوْدِ وَالنَّصَارَى ، المتخِذِيْنَ قبوْرَ أَنبيَائِهمْ مَسَاجِدَ ، بَلْ لعْنهُ المتخِذِيْنَ القبوْرَ مَسَاجِدَ مُطلقا .
بَلْ مُخالِفٌ لأَحَادِيْثَ صَحِيْحَةٍ كثِيْرَةٍ أُخْرَى ، فِيْهَا تَحْرِيْمُ الصَّلاةِ إلىَ القبوْرِ ، وَتَحْرِيْمُ وَطئِهَا وَالمشْيُ عَليْهَا ، وَإيْقادُ السُّرُجِ فِيْهَا .
فكيْفَ يتخِذُ النَّبيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَسْجِدَ الخيْفِ مَسْجِدًا؟! وَيُصَلي فِيْهِ؟! وَيَدَعُ المسْلِمِيْنَ يُصَلوْنَ فِيْهِ؟! ثمَّ يحْذَرُ عَليْهمْ مِنَ اتخاذِ قبْرِهِ مَسْجِدًا وَعِيْدًا ، وَلا يَحْذَرُ عَليْهمُ اتخاذَ قبْرِ سَبْعِيْنَ نبيًّا مَسْجِدًا وَعِيْدًا ؟! { سُبْحَانَكَ هَذَا بُهْتَانٌ عَظِيمٌ }.
فلا شَك َّ أَنَّ حَدِيْثَ ابْن ِ عُمَرَ رَضِيَ الله ُ عَنْهُمَا هَذَا : حَدِيْثٌ بَاطِلٌ مُنْكر.
الثانِي: أَنهُ مُخالِفٌ لِلإجْمَاعِ ، وَقدْ قدَّمْنَاهُ في «فصْل ِ تَحْرِيْرِ مَحَلِّ النزَاعِ» أَوَّلَ الكِتَابِ (ص13-19) ، وَذكرْنا هُنَاك َ إجْمَاعَ أَهْل ِ العِلمِ كافة ً ، عَلى حُرْمَةِ اتخاذِ القبوْرِ مَسَاجِدَ ، وَالمسَاجِدِ عَلى القبوْر .
الثالِثُ : أَنهُ مُخالِفٌ لإجْمَاعٍ آخَرَ أَيضا مِنْ وَجْهٍ آخَرَ ، وَهُوَ إجْمَاعُ العُلمَاءِ عَلى جَهَالةِ قبوْرِ الأَنبيَاءِ ، وَعَدَمِ قطعِهمْ بقبْرِ أَحَدٍ مِنْهُمْ ، سِوَى قبْرِ نبيِّنا مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ دُوْنَ غيْرِه .
أَمّا بَقِيَّة ُ قبوْرِهِمْ ففِيْهَا خِلافٌ كبيْرٌ ، وَالرّاجِحُ المقطوْعُ بهِ : بُطلانُ نِسْبتِهَا إليْهمْ ، سِوَى قبْرِ إبْرَاهِيْمَ عَليْهِ السَّلامُ ، ففِي قبْرِهِ نِزَاعٌ ، وَالجمْهُوْرُ عَلى ثبوْته .
قالَ شَيْخُ الإسْلامِ ابنُ تَيْمية َ رَحِمَهُ الله ُ- كمَا في«مَجْمُوْعِ الفتَاوَى» (27/141) - : (وَلِهَذَا كانَ العُلمَاءُ الصّالِحُوْنَ مِنَ المسْلِمِيْنَ لا يُصَلوْنَ في ذلِك َ المكان . هَذَا إذا كانَ القبْرُ صَحِيْحًا فكيْفَ وَعَامَّة ُ القبوْرِ المنْسُوْبةِ إلىَ الأَنبيَاءِ كذِبٌ ، مِثْلُ القبْرِ الذِي يُقالُ : إنهُ «قبْرُ نوْحٍ» فإنهُ كذِبٌ لا رَيْبَ فِيْهِ ، وَإنمَا أَظهَرَهُ الجهّالُ مِنْ مُدَّةٍ قرِيْبَةٍ وَكذَلِك َ قبْرُ غيْرِه).
الرّابعُ : أَنَّ هَذَا الحدِيْثَ لوْ كانَ صَحِيْحًا : لحَرُمَ وَطئُ قبوْرِهِمْ ، وَالجلوْسُ عَليْهَا ، وَالصَّلاة ُ فِيْهَا وَإليْهَا ، وَلوَجَبَ عَلى النَّبيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بيَانُ ذلِك َ لأُمَّتِهِ ، فلمَّا لمْ يَكنْ ذلِك َ: ظهَرَ بُطلانهُ ، وَخُلوُّ المسْجِدِ مِنَ القبوْر .
الخامِسُ : أَنهُ مُخالِفٌ لِلرِّوَايَاتِ الصَّحِيْحَةِ في بابهِ ، التي فِيْهَا : أَنَّ مَسْجِدَ الخيْفِ صَلى فِيْهِ سَبْعُوْنَ نبيًّا ، وَقدْ رَوَاهُ جَمَاعَة ٌ مِنَ الأَئِمَّةِ مَوْقوْفا وَمَرْفوْعًا ، لا قبْرُ سَبْعِيْنَ نبيًّا ! فصَوَابهُ «صَلى» لا «قبْر».
فالرِّوَاية ُ المرْفوْعَة ُ: رَوَاهَا مُحَمَّدُ بْنُ فضَيْل ٍ عَنْ عَطاءِ بْن ِ السّائِبِ عَنْ سَعِيْدِ بْن ِ جُبيْرٍ عَن ِ ابْن ِ عَبّاس ٍ رَضِيَ الله ُ عَنْهُمَا قالَ : قالَ رَسُوْلُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ :« صَلى في مَسْجِدِ الخيْفِ سَبْعُوْنَ نبيًّا ، مِنْهُمْ مُوْسَى صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ، كأَني أَنظرُ إليْهِ وَعَليْهِ عَبَاءَتان ِ قِطرَانِيَّتَان ِ، وَهُوَ مُحْرِمٌ عَلى بَعِيْرٍ مِنْ إبْل ِ شَنُوْءَةٍ ، مَخْطوْمٍ بخِطامٍ مِنْ لِيْفٍ لهُ ضَفِيْرَتان».
أَخْرَجَهُ :
- الفاكِهيُّ في«أَخْبَارِ مَكة»(4/266)(2593) قالَ: حَدَّثنَا عَلِيُّ بْنُ المنذِرِ الكوْفيُّ ، وَعَبْدَة ُ بْنُ عَبْدِ الرَّحِيْمِ قالا: حَدَّثنَا مُحَمَّدُ بْنُ فضَيْل ٍ به .
- وَالطبَرَانِيُّ في مُعْجَمَيْهِ:«الكبيْرِ»(11/452-453)(12283) وَ«الأَوْسَطِ» (6/193-194)(5403) قالَ: حَدَّثنَا مُحَمَّدُ بْنُ أَحْمَدِ بْن ِ أَبي خَيْثمَة َحَدَّثنَا عَبْدُ اللهِ بْنُ هَاشِمٍ الطوْسِيُّ حَدَّثنَا مُحَمَّدُ بْنُ فضَيْل ٍ به .
ثمَّ قالَ الطبَرَانِيُّ بَعْدَهُ في«الأَوْسَطِ»(6/194):
(لمْ يَرْوِ هَذَا الحدِيْثَ عَنْ عَطاءِ بْن ِ السّائِبِ إلا َّ مُحَمَّدُ بْنُ فضَيْل . تفرَّدَ بهِ : عَبْدُ اللهِ بْنُ هَاشِمٍ الطوْسِيّ).
وَهَذَا إسْنَادٌ رِجَالهُ حُفاظ ٌ ثِقاتٌ ، احْتَجَّ بهمْ أَصْحَابُ الصَّحِيْح .
وَتفرُّدُ مُحَمَّدِ بْن ِ فضَيْل ٍ بهِ عَنْ عَطاءٍ - الذِي ذكرَهُ الطبَرَانِيُّ - لا يَضُرُّهُ ، فإنَّ مُحَمَّدًا ثِقة ٌ حُجَّة ٌ، احْتَجَّ بهِ الشَّيْخان .
أَمّا زَعْمُ الطبَرَانِيِّ رَحِمَهُ الله ُ: تفرُّدَ عَبْدِ اللهِ بْن ِ هَاشِمٍ الطوْسِيِّ بهِ عَنْ مُحَمَّدِ بْن ِ فضَيْل ٍ: فغيْرُ مُسَلمٍ وَلا صَحِيْحٍ ، بَلْ قدْ شَارَكهُ في رِوَايتِهِ لهُ عَنْ مُحَمَّدِ بْن ِفضَيْل ٍ: رَاوِيان ِ ثِقتان ِ، هُمَا عَلِيُّ بْنُ المنذِرِ ، وَعَبْدَة ُ بْنُ عَبْدِ الرَّحِيْمِ ، كمَا تقدَّم .
------------------------------
(22) كمَا في«المطالِبِ العَالِيَةِ» لِلحَافِظِ ابْن ِ حَجَرٍ(3/370)(1425) «كِتَابُ الحجّ»،«بَابُ فضْل ِ مَسْجِدِ الخيْف».