العودة   شبكة الدفاع عن السنة > المنتديات الإجتماعية > شؤون الأسرة وقضايا المجتمع

 
 
أدوات الموضوع انواع عرض الموضوع
قديم 30-05-10, 09:27 PM   رقم المشاركة : 1
Nabil48
عضو ماسي







Nabil48 غير متصل

Nabil48 is on a distinguished road


سلسلة الحقوق في المجتمع الإسلامي / د. راغب السرجاني

سلسلة الحقوق في المجتمع الإسلامي


حقوق الوالدين في الإسلام

الدكتور راغب السرجاني


الوالدان هنا هما الزوجان بعد أن مَنَّ الله عليهما بالْوَلَدِ، وصار لهما أبناء وذُرِّيَّة، كَدَّا مِنْ أَجْلِهم، وسَهِرَا على راحتهم، وأعطياهم من الحقوق ووفَّرَا لهم من سبل الحياة على نحو ما ذكرناه في المقالات السابقة.

حقوق الوالدين على الأبناء

وكَنَوْعٍ من ردِّ الجميل، والاعتراف بحُسْنِ الصنيع، ومجازاة الإحسان بالإحسان، أَقَرَّ الإسلام جملة من الحقوق للآباء على الأبناء، وخاصَّة في حال كِبَرِهما وضَعْفِهما؛ حيث خَصَّهُما الله بالإحسان والعطف عليهما والبِرِّ بهما؛ تمامًا كما كانا يفعلان بأبنائهما في صغرهم.
فكان من أهمِّ هذه الحقوق؛ حقُّ الْبِرِّ والطاعة والإحسان، وليس هناك أعظم إحسانًا، وأكبر تَفَضُّلاً بعد الله تعالى من الوالدين؛ ولذلك قَرَنَ سبحانه الإحسان إليهما وحُسْن الرِّعَايَةِ بهما بعبادته والإخلاص له، فقال سبحانه: { وَقَضَى رَبُّكَ أَلاَّ تَعْبُدُوا إِلاَّ إِيَّاهُ وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا إِمَّا يَبْلُغَنَّ عِنْدَكَ الْكِبَرَ أَحَدُهُمَا أَوْ كِلاَهُمَا فَلاَ تَقُلْ لَـهُمَا أُفٍّ وَلاَ تَنْهَرْهُمَا وَقُلْ لَهُمَا قَوْلاً كَرِيمًا * وَاخْفِضْ لَهُمَا جَنَاحَ الذُّلِّ مِنَ الرَّحْمَةِ وَقُلْ رَبِّ ارْحَمْهُمَا كَمَا رَبَّيَانِي صَغِيرًا } [الإسراء: 23، 24].
فجاء الأمر بالإحسان إليهما والنهي عن عقوقهما ولو بجرح مشاعرهما بكلمة "أُفٍّ" كعلامة على الضجر منهما، كما أن الله سبحانه لم يمدح الذُّلَّ ولم يَقْبَلْ من عباده أن يقع منهم على بعض إلاَّ في مقام الوالدين؛ فقال تعالى كما جاء في الآية الأخيرة السابقة: { وَاخْفِضْ لَـهُمَا جَنَاحَ الذُّلِّ مِنَ الرَّحْمَةِ }.


على أن أعظم البِرِّ يكون في حال بلوغ الوالدين الكِبَرَ أحدهما أو كلاهما، وهو حال الضعف البدني والعقلي، الذي ربما يُؤَدِّي إلى العجز؛ فأمر الله تعالى بأن نَقُولَ لهما قولاً كريمًا، ونخاطبهما مخاطبة لَيِّنَة؛ رحمة بهما، وإحسانًا إليهما، مع الدعاء لهما بالرحمة كما رحمانا في الصِّغَرِ وقت الضعف، ثم الإكثار من إسماعهما عبارات الشكر، الذي قرنه الله بشكره سبحانه؛ حيث قال: { وَوَصَّيْنَا الإِنْسَانَ بِوَالِدَيْهِ حَمَلَتْهُ أُمُّهُ وَهْنًا عَلَى وَهْنٍ وَفِصَالُهُ فِي عَامَيْنِ أَنِ اشْكُرْ لِي وَلِوَالِدَيْكَ إِلَيَّ الْـمَصِيرُ } [لقمان: 14].

وبِرُّ الوالدين من أعظم أبواب الخير، وقد جاء ذلك في الحديث الذي سأل فيه عبد الله بن مسعود رضي الله عنه النبي صلى الله عليه وسلم قائلاً: أَيُّ الْعَمَلِ أَحَبُّ إِلَى اللهِ؟ قَالَ صلى الله عليه وسلم: "الصَّلاَةُ عَلَى وَقْتِهَا". قال: ثمَّ أيٌّ؟ قال: "ثُمَّ بِرُّ الْوَالِدَيْنِ". قال: ثمَّ أيٌّ؟ قال: "الْجِهَادُ فِي سَبِيلِ اللهِ"[1].
وعن عبد الله بن عمرو بن العاص قال: أَقْبَلَ رجلٌ إلى نبيِّ الله صلى الله عليه وسلم، فقال: أبايعك على الهجرة والجهاد أبتغي الأجر من الله. قال صلى الله عليه وسلم: "فَهَلْ مِنْ وَالِدَيْكَ أَحَدٌ حَيٌّ ؟" قال: نعم، بل كلاهما. قال: "فَتَبْتَغِي الأَجْرَ مِنَ اللهِ؟" قال: نعم. قال: "فَارْجِعْ إِلَى وَالِدَيْكَ فَأَحْسِنْ صُحْبَتَهُمَا"[2]. وفي رواية قال: "فَفِيهِمَا فَجَاهِدْ"[3].
ومن أعظم ما شرعه الإسلام من حقوق للآباء على الأبناء، ما جاء في حديث جابر بن عبد الله والذي فيه: أنَّ رجلاً قال: يا رسول الله، إنَّ لي مالاً وولدًا، وإنَّ أبي يريد أن يجتاح مالي. فقال: "أَنْتَ وَمَالُكَ لأَبِيكَ"[4].
قال أبو حاتم بن حبان[5]: "معناه أنه صلى الله عليه وسلم زجر عن معاملته أباه بما يُعَامِلُ به الأجنبيين، وأمر ببِرِّهِ والرفق به في القول والفعل معًا إلى أن يصل إليه ماله، فقال له: "أَنْتَ وَمَالُكَ لأَبِيكَ". لا أن مال الابن يملكه الأبُ في حياته من غير طيب نفس من الابن به"[6].

والأحاديث والآثار في البِرِّ بالوالدين والإحسان إليهما والتحذير من عقوقهما أكثر من أن تُحْصَى، وهي تُعَبِّرُ عَمَّا بَلَغَتْهُ الشريعة الإسلامية الغَرَّاء في حفظ القيم الأصيلة في المجتمع من أن تُنْتَهَكَ أو تتهاوى.

الهوامش:
[1] البخاري: كتاب الآداب، باب البر والصلة (5625)، ومسلم: كتاب الإيمان، باب بيان كون الإيمان بالله تعالى أفضل الأعمال (137).
[2] مسلم: كتاب البر والصلة والآداب، باب بر الوالدين وأنهما أحق به (6)، وأبو داود (2528)، والنسائي (4163)، وأحمد (6490)، وابن حبان (419).
[3] البخاري: كتاب الجهاد والسير، باب الجهاد بإذن الأبوين (2842)، ومسلم: كتاب البر والصلة والآداب، باب بر الوالدين وأنهما أحق به (2549).
[4] ابن ماجه: كتاب التجارات، باب ما للرجل من مال ولده (2291)، وأحمد (6902)، وابن حبان (410)، وصححه الألباني، انظر: إرواء الغليل (1625).
[5] أبو حاتم بن حبان البستي: هو أبو حاتم محمد بن حبان بن أحمد (ت 354هـ/ 965م) مؤرخ، علامة، جغرافي، محدث. ولد وتوفي في (بُست) من بلاد سجستان. من كتبه: "المسند الصحيح" في الحديث. انظر: السبكي: طبقات الشافعية 3/131.
[6] صحيح ابن حبان 2/142.

عن موقع قصة الإسلام






 
قديم 31-05-10, 08:07 PM   رقم المشاركة : 2
Nabil48
عضو ماسي







Nabil48 غير متصل

Nabil48 is on a distinguished road


سلسلة الحقوق في المجتمع الإسلامي/حقوق الأبناء/د.راغب السرجاني

سلسلة الحقوق في المجتمع الإسلامي

حقوق الأبناء في الإسلام

الدكتور راغب السرجاني


الأبناء وأثر البيئة في تربيتهم

الأبناء في الإسلام هم زهرة الحياة الدنيا وزينتها، وهم بهجة النفوس وقُرَّة الأعين، وقد اعتنى الإسلام بالأبناء عناية خاصَّة، فقرَّرَت الشريعة الإسلامية أنَّ لهم على الآباء حقوقًا وواجبات.
فالابن تتشكَّل في نفسه أَوَّل صُوَرِ الحياة متأثِّرًا ببيئة والديه، لما ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: "مَا مِنْ مَوْلُودٍ إِلاَّ يُولَدُ عَلَى الْفِطْرَةِ، فَأَبَوَاهُ يُهَوِّدَانِهِ أَوْ يُنَصِّرَانِهِ أَوْ يُمَجِّسَانِهِ" [1].
فالوالدان لهما أثر كبير في دين وخُلُقِ الأبناء؛ لذا فإن صلاح الآباء يتوقَّفُ عليه مصلحة الأبناء ومستقبل الأُمَّة، وعليه فإن حقوق الأبناء ترجع إلى ما قبل الولادة؛ حيث اختيار الأُمِّ الصالحة والأب الصالح، كما سبق أن بَيَّنَّا.

حقوق الأبناء قبل ولادتهم

تحصينه من الشيطان
إذا ما وُفِّقَ كُلٌّ من الزوجين في اختيار صاحبه، يأتي حقُّ الولد عليهما في تحصينه من الشيطان؛ وذلك عند وضع النطفة في الرحم، ويظهر ذلك في التوجيه النبوي الشريف في الدعاء عند الجماع، والذي يحفظ الجنين من الشيطان؛ فعن ابن عباس -رضي الله عنهما- أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "لَوْ أَنَّ أَحَدَكُمْ إِذَا أَتَى أَهْلَهُ قَالَ: بِاسْمِ اللهِ، اللَّهُمَّ جَنِّبْنَا الشَّيْطَانَ، وَجَنِّبِ الشَّيْطَانَ مَا رَزَقْتَنَا. فَقُضِيَ بَيْنَهُمَا وَلَدٌ، لَمْ يَضُرُّهُ"[2].

حقه في الحياة
وإذا ما صار جنينًا في رحم أُمِّه فمن حقِّه الذي أقرَّه الإسلام له حقُّه في الحياة؛ وذلك بتحريم إجهاضه وهو جنين؛ حيث تُحَرِّمُ الشريعة الإسلامية على الأُمِّ إسقاط الجنين قبل ولادته؛ لأنه أمانة أودعها الله في رحمها، ولهذا الجنين حقٌّ في الحياة، فلا يجوز الإضرار به أو إيذاؤه، كما اعتبرته الشريعة نفسًا لا يجوز قتلها متى مَضَتْ له أربعة أشهر ونُفِخَتْ فيه الرُّوح، وأوجبت على قاتله الدِّيَةُ؛ فعن المغيرة بن شعبة قال: إن امرأتين كانتا تحت رجل من هذيل فضربت إحداهما الأخرى بعمود فقتلتها وجنينها، فاختصموا إلى النبي صلى الله عليه وسلم ، فقال رجل من عصبة القاتلة: أنغرم دية من لا أكل ولا شرب ولا استهل؟! فقال صلى الله عليه وسلم: "أَسَجْعٌ كَسَجْعِ الأَعْرَابِ[3]"[4]. فقضى فيه بغُرَّة[5]، وجعله على عاقلة المرأة.
كما أن الشريعة الإسلامية أجازت الفطر في رمضان للمرأة الحامل حفاظًا على صحَّة الجنين، كما أجازت تأجيل حدِّ الزنا حتى يُولد وينتهي من الرضاع.

حقوق الأبناء بعد ولادتهم

الاستبشار عند ولادتهم
وأمَّا بعد الولادة فقد وضع الإسلام للأبناء أحكامًا تتعلَّق بولادتهم، منها: استحباب الاستبشار بهم عند ولادتهم؛ وذلك على نحو ما جاء في قوله تعالى في ولادة سيدنا يحيى بن زكريا عليهما السلام: { فَنَادَتْهُ الْـمَلاَئِكَةُ وَهُوَ قَائِمٌ يُصَلِّي فِي الْـمِحْرَابِ أَنَّ اللهَ يُبَشِّرُكَ بِيَحْيَى مُصَدِّقًا بِكَلِمَةٍ مِنَ اللهِ وَسَيِّدًا وَحَصُورًا وَنَبِيًّا مِنَ الصَّالِحِينَ } [آل عمران: 39]، وهذه البشارة للذَّكَرِ والأنثى على السواء من غير تَفْرِقَةٍ بينهما.

الأذان والإقامة في أذنيه
ومنها أيضًا الأذان في أُذُنِهِ اليمنى، والإقامة في أُذُنِهِ اليسرى، وفي هذا اقتداء بالنبي صلى الله عليه وسلم ؛ فقد أذَّن النبي صلى الله عليه وسلم في أُذُنِ الحسن بن علي -رضي الله عنهما- عند ولادته، روى ذلك عبيد الله بن أبي رافع، عن أبيه، قال: "رَأَيْتُ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم أَذَّنَ فِي أُذُنِ الْـحَسَنِ بْنِ عَلِيٍّ - حِينَ وَلَدَتْهُ فَاطِمَةُ- بِالصَّلاَةِ"[6].

تح************هم بتمر
ومن حقوق الأبناء كذلك عند ولادتهم استحباب تح************هم بتمر[7]، وذلك كما فعل النبي صلى الله عليه وسلم ، فقد روى أبو موسى[8] رضي الله عنه، قال: "وُلِدَ لِي غُلاَمٌ فَأَتَيْتُ بِهِ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم فَسَمَّاهُ إِبْرَاهِيمَ فَحَنَّكَهُ بِتَمْرَةٍ، وَدَعَا لَهُ بِالْبَرَكَةِ، وَدَفَعَهُ إِلَيَّ"[9].

حلق شعر رأسهم والتصدق بوزنه فضة
ومنها كذلك حَلْق شعر رأسهم والتصدُّق بوزنه فضة، وفي ذلك فوائد صحِّيَّة واجتماعيَّة؛ فمن الفوائد الصحِّيَّة: تفتيح مسامِّ الرأس، وإماطة الأذى عنه، وقد يكون ذلك إزالةً للشعر الضعيف؛ لينبت مكانه شعر قويٌّ، أمَّا الفائدة الاجتماعية فتعود إلى التصدُّق بوزن هذا الشعر فضة، وفي ذلك معنَى التكافل الاجتماعي بين أفراد المجتمع، وممَّا يُدْخِل السرور على الفقراء، وفي ذلك فقد روى محمد بن علي بن الحسين أنه قال: "وَزَنَتْ فَاطِمَةُ بِنْتُ رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم شَعَرَ حَسَنٍ وَحُسَيْنٍ فَتَصَدَّقَتْ بِزِنَتِهِ فِضَّةً"[10].

التسمية الحسنة
ومن أهمِّ حقوق الأبناء كذلك عند ولادتهم حَقُّهم في التسمية الحَسَنَةِ؛ فالواجب على الوالدين أن يختارَا للمولود اسمًا حَسَنًا يُنادى به بين الناس، يبعث الراحة في النفس والطمأنينة في القلب، وكان الرسول صلى الله عليه وسلم يكره كلمة حرب ولا يحب أن يسمعها، وفي الحديث عنه صلى الله عليه وسلم: "أَحَبُّ الأَسْمَاءِ إِلَى اللهِ ‏عَبْدُ اللهِ ‏وَعَبْدُ الرَّحْمَنِ ‏وَأَصْدَقُهَا ‏حَارِثٌ ‏وَهَمَّامٌ، ‏وَأَقْبَحُهَا: حَرْبٌ وَمُرَّةُ"[11].
وعن علي رضي الله عنه قال: لما وُلِدَ ‏الحَسَنُ ‏سميته حربًا، فجاء رسول الله ‏ صلى الله عليه وسلم فقال: "أَرُونِي ابْنِي مَا سَمَّيْتُمُوهُ ؟ قال: قلت:‏ حربًا. قال: "بَلْ هُو حَسَنٌ". فلما وُلِدَ ‏الحسين سميته ‏حربًا، فجاء رسولُ الله صلى الله عليه وسلم فقال: "أَرُونِي ابْنِي مَا سَمَّيْتُمُوهُ ؟" قال: قلت: ‏حربًا. قال: "بَلْ هُوَ ‏حُسَيْنٌ". فلما وُلِدَ الثالث سميته حربًا‏، ‏فجاء النبي‏ ‏ صلى الله عليه وسلم ‏فقال: "أَرُونِي ابْنِي مَا سَمَّيْتُمُوهُ ؟" قلت: ‏حربًا. ‏قال: "بَلْ هُوَ ‏مُحَسِّنٌ". ‏ثم قال:‏ "‏سَمَّيْتُهُمْ بِأَسْمَاءِ وَلَدِ ‏هَارُونَ ‏شَبَّر ‏وَشَبِير ‏وَمُشَبِّر"[12].

العقيقة عن المولود
وكذلك من حقِّ الأبناء بعد الولادة العقيقة، ومعناها ذبح الشاة عن المولود يوم السابع من ولادته، وحُكْمُهُا سُنَّةٌ مؤكَّدة، وهي نوع من الفرح والسرور بهذا المولود، وقد سُئِل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن العقيقة فقال: "لاَ أُحِبُّ الْعُقُوقَ وَمَنْ وُلِدَ لَهُ مَوْلُودٌ فَأَحَبَّ أَنْ يَنْسُكَ عَنْهُ فَلْيَفْعَلْ عَنِ الْغُلاَمِ شَاتَانِ مُكَافَأَتَانِ وَعَنِ الْـجَارِيَةِ شَاةٌ"[13].

الرضاعة
ومن حقوق الأبناء كذلك بعد الولادة حَقُّهم في الرضاعة، والرضاعة عملية لها أثرها البعيد في التكوين الجسدي والانفعالي والاجتماعي في حياة الإنسان وليدًا ثم طفلاً، وهو ما أدركته الشريعة الإسلاميَّة، فكان على الأمِّ أن تُرضع طفلها حولين كاملين، وجُعِلَ ذلك حقًّا من حقوق الطفل، قال تعالى: { وَالْوَالِدَاتُ يُرْضِعْنَ أَوْلاَدَهُنَّ حَوْلَيْنِ كَامِلَيْنِ لِمَنْ أَرَادَ أَنْ يُتِمَّ الرَّضَاعَةَ وَعَلَى الْـمَوْلُودِ لَهُ رِزْقُهُنَّ وَكِسْوَتُهُنَّ بِالْـمَعْرُوفِ } [البقرة: 233].
ولقد أثبتت البحوث الصحيَّة والنفسيَّة الحديثة أن فترة عامين ضروريَّة لنمُوِّ الطفل نموًّا سليمًا من الوجهتين الصحيَّة والنفسيَّة[14]، بَيْدَ أن نِعْمَةَ الله وكرمه على الأُمَّة الإسلاميَّة لم تنتظر نتائج البحوث والتجارِب التي تُجْرَى في معامل علم النفس وخلافها من قِبَلِ العلماء النفسيِّين والتربويِّين، بل سبقت ذلك كُلَّه، ونلاحظ مدى اهتمام الشريعة بالرضاعة وجَعْلِهَا حقًّا من حقوق الطفل، إلاَّ أنَّ ذلك الحقَّ لم يكن مقتصرًا على الأُمِّ فقط؛ إذ إنَّ هناك مسئولية تقع على كاهل الأب، وتتمثَّل هذه المسئولية في وجوب إمداد الأُمِّ بالغذاء والكساء؛ حتى تتفرَّغ لرعاية طفلها وتغذيته، وبذلك فكُلٌّ منهما يُؤَدِّي واجبه ضمن الإطار الذي رسمته له الشريعة السمحة، محافِظًا على مصلحة الرضيع المُسْنَدَةِ إليه رعايته وحمايته، على أن يتمَّ ذلك في حدود طاقتهما وإمكانياتهما، قال تعالى: { لاَ تُكَلَّفُ نَفْسٌ إِلاَّ وُسْعَهَا } [البقرة: 233].

الحضانة والنفقة
ومن حقوق الأبناء على أبويهم كذلك حَقُّهم في الحضانة والنفقة؛ فقد أوجبت الشريعة على الأبوين رعاية الأبناء والمحافظة على حياتهم وصِحَّتِهم والنفقة عليهم، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: "كُلُّكُمْ رَاعٍ وَمَسْئُولٌ عَنْ رَعِيَّتِهِ: فَالإِمَامُ رَاعٍ وَهُوَ مَسْئُولٌ عَنْ رَعِيَّتِهِ، وَالرَّجُلُ فِي أَهْلِهِ رَاعٍ وَهُوَ مَسْئُولٌ عَنْ رَعِيَّتِهِ، وَالْـمَرْأَةُ فِي بَيْتِ زَوْجِهَا رَاعِيَةٌ وَهِيَ مَسْئُولَةٌ عَنْ رَعِيَّتِهَا، وَالْـخَادِمُ فِي مَالِ سَيِّدِهِ رَاعٍ وَهُوَ مَسْئُولٌ عَنْ رَعِيَّتِهِ..."[15].

حسن التربية
ثم كان حَقُّهم - أيضًا - في حُسْنِ التربية وتعليم الضروريات من أمور الدين، وفي طريقةٍ عملية في تربية الأبناء يقول الرسول صلى الله عليه وسلم: "مُرُوا أَبْنَاءَكُمْ بِالصَّلاَةِ لِسَبْعِ سِنِينَ، وَاضْرِبُوهُمْ عَلَيْهَا لِعَشْرِ سِنِينَ، وَفَرِّقُوا بَيْنَهُمْ فِي الْـمَضَاجِعِ"[16]. كما أمرنا الله تعالى أن نحمي أنفسنا وأبناءنا من النار يوم القيامة، فقال تعالى: { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا قُوا أَنْفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ نَارًا وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْـحِجَارَةُ } [التحريم: 6].

رعايتهم وجدانيا وعاطفيا
هذا بالإضافة إلى رعاية هؤلاء الأبناء وجدانيًّا؛ وذلك بالإحسان إليهم ورحمتهم، وملاعبتهم وملاطفتهم، وقد ورد في ذلك أن الرسول صلى الله عليه وسلم قَبَّل الحسن بن علي وعنده الأقرع بن حابس، فقال الأقرع: إن لي عشرة من الولد ما قبَّلتُ منهم أحدًا، فنظر إليه رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: "مَنْ لاَ يَرْحَمُ لاَ يُرْحَمُ"[17].
كما روى شداد بن الهاد رضي الله عنه عن أبيه قال: خرج علينا رسول الله صلى الله عليه وسلم في إحدى صلاتي العشاء، وهو حامل حَسَنًا أو حسينًا، فتقدَّم رسول الله صلى الله عليه وسلم فوضعه، ثم كبر للصلاة، فصلَّى، فسجد بين ظهراني صلاته سجدة أطالها، قال أبي: فرفعت رأسي وإذا الصبي على ظهر رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو ساجد، فرجعت إلى سجودي، فلمَّا قضى رسول الله صلى الله عليه وسلم الصلاة قال الناس: يا رسول الله، إنك سجدت بين ظهراني صلاتك سجدة أطلتها حتى ظننا أنه قد حدث أمر، أو أنه يوحى إليك. قال: "كُلُّ ذَلِكَ لَمْ يَكُنْ وَلَكِنَّ ابْنِي ارْتَحَلَنِي فَكَرِهْتُ أَنْ أُعَجِّلَهُ حَتَّى يَقْضِيَ حَاجَتَهُ"[18].
وروى أيضًا أنس بن مالك رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "إِنِّي لأَدْخُلُ فِي الصَّلاَةِ وَأَنَا أُرِيدُ إِطَالَتَهَا فَأَسْمَعُ بُكَاءَ الصَّبِيِّ فَأَتَجَوَّزُ فِي صَلاَتِي مِمَّا أَعْلَمُ مِنْ شِدَّةِ وَجْدِ أُمِّهِ مِنْ بُكَائِهِ"[19].

تربية البنات
هذا، وإن لحُسْنِ تربية البنات ورعايتهن أهمية خاصة؛ حتى إن الرسول صلى الله عليه وسلم كان يُعظِّم من أجر الذي يحسن تربيتهنَّ بصفة خاصة، فقال صلى الله عليه وسلم: "مَنْ عَالَ جَارِيَتَيْنِ حَتَّى تَبْلُغَا جَاءَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَنَا وَهُوَ وضمَّ أصابعه[20].
وعلى هذا فثَمَّة حقوق مهمَّة للأبناء على الآباء كَفَلَهَا الإسلام لهم، وقد فاقت في شمولها ومراحلها كل الأنظمة والقوانين الوضعيَّة قديمها وحديثها؛ حيث اهتمَّ الإسلام بالأبناء في كل مراحل حياتهم؛ أَجِنَّةً، ورُضَّعًا، وصبيانًا، ويافعين، إلى أن يَصِلُوا إلى مرحلة الرجولة والأنوثة، بل اهتمَّ الإسلام بهم قبل أن يكونوا أَجِنَّةً في بطون أُمَّهَاتهم! وذلك بالحضِّ على حسن اختيار أمهاتهم وآبائهم.. وذلك كُلُّه بهدف إخراج رجال ونساء أسوياء لمجتمع تَسُودُهُ الأخلاق والقيم الحضارية النبيلة.

الهوامش:

[1] البخاري عن أبي هريرة: كتاب القدر، باب الله أعلم بما كانوا عاملين (6226)، ومسلم: كتاب القدر، باب معنى كل مولود يولد على الفطرة وحكم موت أطفال الكفار وأطفال المسلمين (22).
[2] البخاري: كتاب النكاح، باب ما يقول الرجل إذا أتى أهله (4767)، ومسلم: كتاب النكاح، باب ما يستحب أن يقوله عند الجماع (2591).
[3] قال العلماء: إنما ذم سجعه لوجهين؛ أحدهما: أنه عارض به حكم الشرع ورام إبطاله، والثاني: أنه تكلفه في مخاطبته وهذان الوجهان من السجع مذمومان. انظر: النووي: المنهاج في شرح صحيح مسلم بن الحجاج 11/178.
[4] البخاري: كتاب الطب، باب الكهانة (5426)، ومسلم: كتاب القسامة والمحاربين والقصاص والديات، باب دية الجنين ووجوب الدية في قتل الخطأ وشبه العمد على عاقلة الجاني (1682) واللفظ له، وأبو داود: كتاب الديات، باب دية الجنين (4568)، والنسائي (4825)، وابن حبان (6016)، وصححه الألباني، انظر: إرواء الغليل (2206).
[5] الغُرَّة: المقصود بها العبد أو الأمة. انظر: النووي: المنهاج في شرح صحيح مسلم بن الحجاج 11/175، 176.
[6] أبو داود: كتاب الآداب، باب في الصبي يولد فيؤذن في إذنه (5107)، وقال الألباني: حديث حسن، انظر: صحيح وضعيف سنن أبي داود (5105).
[7] لا يخفى أن في تح************ الأطفال المواليد بالتمر حكمة بالغة؛ فقد أثبتت الدراسات الطبية أن معظم أو كل المواليد يحتاجون للسكر الجلوكوز بعد ولادتهم مباشرة، حيث إن مستوى السكر (الجلوكوز) في الدم بالنسبة للمولودين حديثًا يكون منخفضًا، وبما أن التمر يحتوي على السكر (الجلوكوز) بكميات وافرة، فإن إعطاء المولود التمر المذاب يقي الطفل بإذن الله من مضاعفات نقص السكر الخطيرة، وبذلك ففي تح************ المولود بالتمر علاج وقائي له، وهو إعجاز طبي لم تكن البشرية تعرفه أو تعرف مخاطر نقص السكر (الجلوكوز) في دم المولود. للمزيد من المعلومات حول أوجه هذا الإعجاز انظر: د. محمد على البار: مقال من رعاية الطفولة في الإسلام، تح************ المولود وما فيه من إعجاز علمي، الهيئة العالمية للإعجاز العلمي للقرآن والسنة، الرابط: http://www.nooran.org/O/4/4O11.htm.
[8] أبو موسى الأشعري: هو عبد الله بن قيس بن سليم بن حضار بن حرب بن عامر، صاحب رسول الله صلى الله عليه وسلم ، استعمله النبي صلى الله عليه وسلم ومعاذًا على زبيد وعدن، وولي إمرة الكوفة. انظر: ابن سعد: الطبقات الكبرى 4/105، والذهبي: سير أعلام النبلاء 2/380.
[9] البخاري: كتاب العقيقة، باب تسمية المولود غداة يولد لمن لم يعق عنه وتح************ه (5045)، ومسلم: كتاب الآداب، باب استحباب تح************ المولود عند ولادته وحمله إلى صالح يحنكه (3997).
[10] مالك: الموطأ، كتاب العقيقة، باب ما جاء في العقيقة (1840).
[11] أبو داود (4950)، والنسائي (3568)، وأحمد (19054)، والبخاري في الأدب المفرد (814)، وقال الألباني: صحيح. السلسلة الصحيحة (1040).
[12] أحمد (769)، واللفظ له، ومالك (660)، وابن حبان (6958)، والحاكم (4773)، وقال: صحيح الإسناد. ولم يخرجاه ووافقه الذهبي، والبخاري في الأدب المفرد (823)، وقال شعيب الأرناءوط: إسناده حسن.
[13] أبو داود: كتاب الضحايا، باب العقيقة (2844)، وأحمد (6822) وقال شعيب الأرناءوط: إسناده حسن. والمستدرك (7592) وقال: هذا حديث صحيح الإسناد ولم يخرجاه. ووافقه الذهبي، وقال الألباني: صحيح. انظر: السلسلة الصحيحة، (1655).
[14] الرضاعة الطبيعية لمدة 12 شهرًا على الأقل، وأن الأولى من ذلك اتباع توصيات منظمة الصحة العالمية بالرضاعة لحولين كاملين. انظر: حسن شمسي باشا: الرضاعة من لبن الأم لحولين كاملين، مقال على الرابط: http://dvd4arab.maktoob.com/showthread.php?t/60832.
[15] البخاري عن عبد الله بن عمر: كتاب العتق، باب كراهية التطاول على الرقيق (2416)، ومسلم: في الإمارة باب فضيلة الإمام العادل وعقوبة الجائر (1829).
[16] أبو داود: كتاب الصلاة، باب يؤمر الغلام بالصلاة (495)، وأحمد (6689)، والحاكم (708)، وقال الألباني: صحيح. انظر: صحيح الجامع (4026).
[17] البخاري كتاب الأدب، باب رحمة الولد وتقبيله ومعانقته (5651)، ومسلم: كناب الفضائل، باب رحمته صلى الله عليه وسلم بالصبيان والعيال... (2318).
[18] النسائي (1141)، وأحمد (27688)، الحاكم (4775)، وصححه ووافقه الذهبي، وابن خزيمة (936)، وابن حبان (2805)، واستدل به الألباني في إطالة الركوع. انظر: صفة صلاة النبي للألباني ص148.
[19] البخاري: كتاب الجماعة والإمامة، باب من أَخَفَّ الصلاة عند بكاء الصبي (677)، وابن ماجه (989)، وابن خزيمة (1610)، وابن حبان (2139)، وأبو يعلى (3144)، والبيهقي في شعب الإيمان (11054).
[20] مسلم: كتاب البر والصلة والأدب، باب الإحسان إلى البنات (2631)، واللفظ له، والترمذي (1914)، والحاكم (7350)، والبخاري في الأدب المفرد (894).

يتبع

عن قصة الإسلام







 
قديم 01-06-10, 06:38 PM   رقم المشاركة : 3
Nabil48
عضو ماسي







Nabil48 غير متصل

Nabil48 is on a distinguished road


سلسلة الحقوق في المجتمع الإسلامي/الزوجان/د.راغب السرجاني

سلسلة الحقوق في المجتمع الإسلامي

الزوجان في الإسلام الحقوق والواجبات

الدكتور راغب السرجاني

تُمَثِّلُ الأسرة المسلمة لبنة أساسية في صرح المجتمع الإسلامي، وهي حصن هذا المجتمع وقلعته وصمام أمنه وأمانه.
وقد اعتنى الإسلام أعظم العناية بالأسرة، وشرع لها نظامًا دقيقًا مُحْكَمًا، بَيَّنَ فيه حقوق وواجبات أفرادها، ونَظَّمَ معاملات الزواج، والنفقة، والميراث، وتربية الأولاد، وحقوق الآباء، كما غرس بينهم المحبَّةِ والمودَّة والرحمة؛ وذلك لأنَّ في تقوية الأُسْرَةِ وضبط سلوك أفرادها تقويةً للمجتمع وضبطًا لحركته، ونشرًا للقيم الإنسانية والاجتماعية الرفيعة بين أبنائه، وهكذا يرتقي الإسلام بالمجتمع في صورة حضارية لا مثيل لها، ويبعد به عن الفوضى والتحلُّلِ الخُلُقي وضياع الأنساب.

دعائم الأسرة في الحضارة الإسلامية

تقوم الأسرة في الحضارة الإسلامية على دِعامتين مهمَّتَيْنِ هما أساس تكوينها: الرجل والمرأة؛ أي الزوج والزوجة، فهما الأساس في تكوين الأسرة وإنجاب الذُّرِّيَّة، وتناسُلِ البشريَّة التي تتكَوَّن منها الأُمَّة والمجتمع؛ يقول الله تعالى: { يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالاً كَثِيرًا وَنِسَاءً } [النساء: 1]. ويقول سبحانه أيضًا: { واللهُ جَعَلَ لَكُمْ مِنْ أَنْفُسِكُمْ أَزْوَاجًا وَجَعَلَ لَكُمْ مِنْ أَزْوَاجِكُمْ بَنِينَ وَحَفَدَةً وَرَزَقَكُمْ مِنَ الطَّيِّبَاتِ } [النحل: 72].
ولقد اعتنى الإسلام عناية فائقة بهاتين الدِّعامتين الأساسيتين، فوضع تشريعًا مُحْكَمًا للعَلاقات الزوجيَّة، ورسم حدودًا واضحة لكل واحد منهما بما له وما عليه، وقسَّمَ الأدوار بين الزوجين؛ ليقوم كل واحد منهما بدوره الكامل في بناء الأسرة، والمساهمة في بناء المجتمع الإنساني على امتداده.
فَسَنَّ الإسلام أوَّلاً أمر الزواج، وهدف من ورائه حفظ النوع الإنساني وإمداد المجتمع بأفراد صالحين يُستخلفون في الأرض، ويقومون بمسئولية البناء والإعمار التي هي مقتضى الخلافة فيها، وكذلك هدف من ورائه إلى حصانة الفرد والمجتمع من الرذيلة والتردِّي الأخلاقي؛ حتى إن الرسول صلى الله عليه وسلم قال مخاطبًا الشباب: "يَا مَعْشَرَ الشَّبَابِ، مَنِ اسْتَطَاعَ مِنْكُمُ الْبَاءَةَ فَلْيَتَزَوَّجْ؛ فَإِنَّهُ أَغَضُّ لِلْبَصَرِ، وَأَحْصَنُ لِلْفَرْجِ، وَمَنْ لَمْ يَسْتَطِعْ فَعَلَيْهِ بِالصَّوْمِ؛ فَإِنَّهُ لَهُ وِجَاءٌ"[1].
ولما فَكَّر بعض الشباب في التفرُّغ للعبادة واعتزال النساء، زجرهم الرسول صلى الله عليه وسلم ونهاهم عن ذلك، وهو ما جاء في القصة التي يرويها أنس بن مالك رضي الله عليه حيث يقول: جاء ثلاثة رهطٍ إلى بيوت أزواج النَّبيِّ صلى الله عليه وسلم يسألون عن عبادة النبي صلى الله عليه وسلم ، فلمَّا أُخْبِرُوا كأنَّهم تَقَالُّوهَا فقالوا: وأين نحن من النبي صلى الله عليه وسلم ؛ قد غُفِرَ له ما تَقَدَّمَ من ذنبه وما تأخَّر؟ قال أحدهم: أمَّا أنا فإنِّي أصلِّي الليل أبدًا. وقال آخر: أنا أصوم الدَّهر ولا أُفْطِرُ. وقال آخر: أنا أعتزل النساء فلا أتزوَّج أبدًا. فجاء رسول الله صلى الله عليه وسلم إليهم فقال: "أَنْتُمُ الَّذِينَ قُلْتُمْ كَذَا وَكَذَا؟ أَمَا وَاللهِ إِنِّي لأَخْشَاكُمْ لِلَّهِ وَأَتْقَاكُمْ لَهُ، لَكِنِّي أَصُومُ وَأُفْطِرُ وَأُصَلِّي وَأَرْقُدُ وَأَتَزَوَّجُ النِّسَاءَ فَمَنْ رَغِبَ عَنْ سُنَّتِي فَلَيْسَ مِنِّي"[2].

الرهبانية في العصر الحديث

ولقد جَنَتِ الإنسانية على نفسها الكثير جَرَّاء هذا التفكير القاصر ممن ترهبنوا وحَرَّمُوا الزواج من تلقاء أنفسهم؛ حتى إن العقلاء في أوربا في العصر الحديث لمَّا رَأَوُا الرهبنة لا تُنْتِجُ إلاَّ الفساد في الظلام، حرموها بعد تجارِب خمسة عشر قرنًا من الاضطراب والخلل؛ حيث آل الأمر بالكثير من الكُهَّان والقساوسة، إلى ممارسة اغتصاب الأطفال من الذكور والإناث، حتى إنه شاع هذا في أوربا وأمريكا، واستقال أو فُصِلَ المئات منهم، واضطربت الكنيسة وفزعت لِهَوْلِ هذه الانحرافات والاعتداءات الجنسية، وقد جَنَّبَنَا دينُنَا الحنيف هذا كله، وأراحنا من تجارِب بائسة ومن آلام مريرة[3].

من أهداف الزواج

لقد هَدَفَ الإسلام من وراء الزواج حصول السكن النفسي للفرد؛ مما يجعله يُفرغ ما يعتمل في نفسه من مشاعر وعواطف تدفعه إلى العطاء والإبداع، ويُعَدُّ الزواج - أيضًا - ملاذًا لكلٍّ من الزوجين؛ يُفْضِي أحدهما إلى الآخر، ويكون له نِعْمَ الأنيس ساعة الوحدة، ونِعْمَ الجليس ساعة الغربة، قال الله سبحانه: { وَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ خَلَقَ لَكُمْ مِنْ أَنْفُسِكُمْ أَزْوَاجًا لِتَسْكُنُوا إِلَيْهَا وَجَعَلَ بَيْنَكُمْ مَوَدَّةً وَرَحْمَةً إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ } [الروم: 21]، وبهذه الأركان الثلاثة الواردة في الآية (السكن والمودة والرحمة) تتحقَّق السعادة الزوجية التي أرادها الإسلام.

معايير اختيار الزوجين في الإسلام

وقد أمر الإسلامُ الزوجين بأن يُحْسِنَ كلُّ واحد منهما اختيار صاحبه، فقال تعالى: { وَأَنْكِحُوا الأَيَامَى مِنْكُمْ وَالصَّالِحِينَ مِنْ عِبَادِكُمْ وَإِمَائِكُمْ } [النور: 32]، وقال النبي صلى الله عليه وسلم - يأمر الزوجَ باختيار الزوجة الصالح ذات الدين: "تُنْكَحُ الْـمَرْأَةُ لأَرْبَعٍ: لِمَالِهَا، وَلِحَسَبِهَا، وَجَمَالِهَا، وَلِدِينِهَا، فَاظْفَرْ بِذَاتِ الدِّينِ تَرِبَتْ يَدَاكَ"[4]. وقال صلى الله عليه وسلم - كذلك يأمر الزوجة باختيار زوجها على نفس المعيار والأساس: "إِذَا خَطَبَ إِلَيْكُمْ مَنْ تَرْضَوْنَ دِينَهُ وَخُلُقَهُ فَزَوِّجُوهُ؛ إِلاَّ تَفْعَلُوا تَكُنْ فِتْنَةٌ فِي الأَرْضِ وَفَسَادٌ عَرِيضٌ"[5].
ولا ريب في أن هذا الاختيار وذاك الأساس من شأنه أن يَعُودَ بالنفع على المجتمع الإنساني؛ إذ من شأنه أن يُخْرِجَ جيلاً صالحًا هو ثمرة هذين الزوجين الصالحين؛ لينشأ بعد ذلك في أسرة وَدُودَةٍ متحابَّة، تعيش في ظلِّ المبادئ والقيم الأخلاقية الإسلامية.

عقد الزواج في الشريعة الإسلامية

ولمَّا كان عقد الزواج من العقود ذات الشأن الكبير؛ لَزِمَ أن تسبقه مقدِّمات تُمَهِّدُ له، وتضمن بقاءه ودوامه، بل إن الشريعة الإسلامية لم تعتنِ بمقدِّمات أي عقد من العقود سواه، فقد اعتنت بها وجعلت لها أحكامًا خاصَّة، ومقدِّمَاتُ عقد الزواج هي ما يُعْرَفُ بالخِطبة، وهي مرحلة تستهدف التفاهم والتقارب، وتُتيح للطرفين معرفة بعضهما بصورة أكبر، وعلى ضوء ذلك يتمُّ تحديد الاستمرار في مشروع الزواج أو العدول عنه.
كما تشترط الشريعة الإسلامية لصحَّة عقد النكاح: وجوب إشهاره؛ والحكمة في ذلك أن له شأنًا عظيمًا في نظر الإسلام؛ لما يُحَقِّقُهُ من المصالح الدينية والدنيوية، فهو جدير بأن يَظْهَرَ شَأْنُهُ ويُذَاعَ أَمْرُه؛ وذلك منعًا للظنون ودفعًا للشبهات.
هذا، وقد أحاط الإسلام عقد الزواج بأوثق الضمانات التي تَكْفُلُ سعادة الزوجين، وتأتي بالخير لأسرتيهما؛ فجعل الرجال قوَّامين على النساء بما أعطى كل واحد منهما من الإمكانات والقدرات، فقال تعالى: { الرِّجَالُ قَوَّامُونَ عَلَى النِّسَاءِ بِمَا فَضَّلَ اللهُ بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ وَبِمَا أَنْفَقُوا مِنْ أَمْوَالِهِمْ } [النساء: 34]. وبهذه القوامة أوجب الإسلام مهرًا على الزوج، وجعله من حقِّ الزوجة، فقال تعالى: {وَآتُوا النِّسَاءَ صَدُقَاتِهِنَّ نِحْلَةً} [النساء: 4]. كما جعل من حقوقها -أيضًا- النفقة عليها، ويُقْصَدُ به ما تحتاجه المرأة من طعام، وكسوة، وسكن، وعلاج، وغيره. وكذلك معاشرتها بالمعروف؛ لقوله تعالى: { وَعَاشِرُوهُنَّ بِالْـمَعْرُوفِ فَإِنْ كَرِهْتُمُوهُنَّ فَعَسَى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئًا وَيَجْعَلَ اللهُ فِيهِ خَيْرًا كَثِيرًا } [النساء: 19]. وفي مقابل ذلك جعل الإسلام للزوج على زوجته حقَّ الطاعة، وهو من أهم حقوقها عليه.
وهكذا جعل الإسلام لكلٍّ من الزوجين حقوقًا نحو الآخر، وواجبات يُؤَدِّيهَا له، وطالبهما بحُسْنِ العشرة والاعتدال في المعاملة، والتعاون في الحياة المشتركة بينهما، ثم رسم الطريق القويم لعلاج ما قد ينشأ بينهما من خلاف ومشكلات، وشرع الطلاق أخيرًا حين يستعصي على الزوجين إقامة حدود الله، والوقوف على ما رسمه الشارع للسير في عَلاقة الزوجية[6].

الهوامش:

[1] البخاري عن عبد الله بن مسعود: كتب النكاح، باب من لم يستطع الباءة فليصم (4779)، ومسلم: كتاب النكاح، باب استحباب النكاح لمن تاقت نفسه إليه (1400).
[2] البخاري: كتاب النكاح، باب الترغيب في النكاح (4776)، ومسلم: كتاب النكاح، باب استحباب النكاح لمن تاقت نفسه إليه (1401).
[3] انظر: محمد بن أحمد بن صالح: حقوق الإنسان في القرآن والسنة وتطبيقاتها في المملكة العربية السعودية ص134.
[4] البخاري عن أبي هريرة: كتاب النكاح، باب الأكفاء في الدين (4802)، ومسلم: كتاب الرضاع، باب استحباب نكاح ذات الدين (1466).
[5] الترمذي: كتاب النكاح عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، باب ما جاء إذا جاءكم من ترضون دينه فزوجوه (1004)، وابن ماجه (1967)، والحاكم (2695) وقال: هذا حديث صحيح الإسناد ولم يخرجاه. وحسنه الألباني، انظر: السلسلة الصحيحة (1022).
[6] انظر: محمد بن أحمد بن صالح: حقوق الإنسان في القرآن والسنة وتطبيقاتها في المملكة العربية السعودية ص135-138.

يتبع

عن قصة الإسلام






 
قديم 02-06-10, 10:54 AM   رقم المشاركة : 4
Nabil48
عضو ماسي







Nabil48 غير متصل

Nabil48 is on a distinguished road


سلسلة الحقوق في المجتمع الإسلامي/الإنسان/د.راغب السرجاني

سلسلة الحقوق في المجتمع الإسلامي

حقوق الإنسان في الحضارة الإسلامية

الدكتور راغب السرجاني

يقول نيتشه فيلسوف الغرب: "الضعفاء العجزة يجب أن يُفْنَوْا! هذا هو أول مبدأ من مبادئ حُبِّنَا للإنسانية! ويجب أيضًا أن يُساعَدوا على هذا الفناء"[1].
لكن فلسفة الإسلام وشريعته لم تكن يومًا لتَحِيد عن القيم والأخلاق، والتي تمثَّلَتْ في إقرار مجموعة من الحقوق التي شملت كل بني الإنسان، دون تمييز بين لون أو جنس أو لغة، وشملت أيضًا محيطه الذي يتعامل معه، وتمثَّلَتْ كذلك في صيانة الإسلام لهذه الحقوق بسلطان الشريعة، وكفالة تطبيقها، وفرض العقوبات على مَنْ يَعْتَدِي عليها.

نظرة الإسلام للإنسان

ينظر الإسلام إلى الإنسان نظرة راقية فيها تكريم وتعظيم، انطلاقًا من قوله تعالى: { وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِي آدَمَ وَحَمَلْنَاهُمْ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَرَزَقْنَاهُمْ مِنَ الطَّيِّبَاتِ وَفَضَّلْنَاهُمْ عَلَى كَثِيرٍ مِمَّنْ خَلَقْنَا تَفْضِيلاً } [الإسراء: 70].
وهذه النظرة جعلت لحقوق الإنسان في الإسلام خصائص ومميزات خاصَّة، مِن أهمِّها شموليَّة هذه الحقوق؛ فهي سياسية واقتصادية واجتماعية وفكرية. كما أنها عامَّة لكل الأفراد، مسلمين كانوا أو غير مسلمين، دون تمييز بين لون أو جنس أو لغة، وهي كذلك غير قابلة للإلغاء أو التبديل؛ لأنها مرتبطة بتعاليم ربِّ العالمين.
وقد قَرَّرَ ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم في خطبة الوداع، التي كانت بمنزلة تقرير شامل لحقوق الإنسان، حين قال صلى الله عليه وسلم: "... فَإِنَّ دِمَاءَكُمْ وَأَمْوَالَكُمْ عَلَيْكُمْ حَرَامٌ كَحُرْمَةِ يَوْمِكُمْ هَذَا فِي شَهْرِكُمْ هَذَا فِي بَلَدِكُمْ هَذَا إِلَى يَوْمِ تَلْقَوْنَ رَبَّكُمْ" [2]. حيث أكَّدت هذه الخطبة النبويَّة جملة من الحقوق؛ أهمُّها: حرمة الدماء، والأموال، والأعراض.. وغيرها.
وقال صلى الله عليه وسلم أيضًا يُعَظِّم من شأن النفس الإنسانيَّة عامَّة، فيحفظ لها أعظم حقوقها وهو حقُّ الحياة، فيقول صلى الله عليه وسلم عندما سُئِل عن الكبائر: "الإِشْرَاكُ بِاللهِ.. وَقَتْلُ النَّفْسِ.." [3]. فجاءت كلمة النفس عامَّة لتشمل أيَّ نَفْسٍ تُقتل دون وجه حقٍّ.
ثم ذهب الرسول صلى الله عليه وسلم إلى أكثر من ذلك حين شرع حفظ حياة الإنسان من نفسه، وذلك بتحريم الانتحار، فقال صلى الله عليه وسلم: "مَنْ تَرَدَّى مِنْ جَبَلٍ فَقَتَلَ نَفْسَهُ فَهُوَ فِي نَارِ جَهَنَّمَ، يَتَرَدَّى فِيهِ خَالِدًا مُخَلَّدًا فِيهَا أَبَدًا، وَمَنْ تَحَسَّى سُمًّا فَقَتَلَ نَفْسَهُ فَسُمُّهُ فِي يَدِهِ يَتَحَسَّاهُ فِي نَارِ جَهَنَّمَ خَالِدًا مُخَلَّدًا فِيهَا أَبَدًا، وَمَنْ قَتَلَ نَفْسَهُ بِحَدِيدَةٍ؛ فَحَدِيدَتُهُ فِي يَدِهِ يَجَأُ بِهَا فِي بَطْنِهِ فِي نَارِ جَهَنَّمَ خَالِدًا مُخَلَّدًا فِيهَا أَبَدًا"[4].
هذا، وقد حرَّم الإسلام كل عمل ينتقص من حقِّ الحياة؛ سواء أكان هذا العمل تخويفًا، أو إهانة، أو ضربًا، فعن هشام بن حكيم، قال: سمعتُ رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "إِنَّ اللهَ يُعَذِّبُ الَّذِينَ يُعَذِّبُونَ النَّاسَ فِي الدُّنْيَا"[5].

المساواة بين الناس

وبعد تكريم الإنسان بصفة عامَّة، وتقرير حرمة الدماء والأعراض والأموال، وحقِّ الحياة، أكَّد على حقِّ المساواة بين الناس جميعًا؛ بين الأفراد والجماعات، وبين الأجناس والشعوب، وبين الحُكَّام والمحكومين، وبين الولاة والرعيَّة، فلا قيود ولا استثناءات، ولا فَرْقَ في التشريع بين عربي وأعجمي، ولا بين أبيض وأسود، ولا بين حاكم ومحكوم، وإنما التفاضل بين الناس بالتقوى، فقال صلى الله عليه وسلم: "أَيُّهَا النَّاسُ، إِنَّ رَبَّكُمْ وَاحِدٌ، وَإِنَّ أَبَاكُمْ وَاحِدٌ، كُلُّكُمْ لآدَمَ[6]، وَآدَمُ مِنْ تُرَابٍ، أَكْرَمُكُمْ عِنْدَ اللهِ أَتْقَاكُمْ، وَلَيْسِ لِعَرَبِيٍّ فَضْلٌ عَلَى عَجَمِيٍّ إِلاَّ بِالتَّقْوَى"[7].
ولننظر إلى تعامله صلى الله عليه وسلم مع مبدأ المساواة؛ لندرك عظمته صلى الله عليه وسلم ، فعن أبي أُمامة أنه قال: عَيَّر أبو ذرٍّ بلالاً بأُمِّه، فقال: يابن السوداء. وأنَّ بلالاً أتى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فأخبره فغضب، فجاء أبو ذرٍّ ولم يشعر، فأَعْرَضَ عنه النبي صلى الله عليه وسلم ، فقال: ما أعرضكَ عنِّي إلاَّ شيءٌ بلغكَ يا رسول الله. قال: "أَنْتَ الَّذِي تُعَيِّرُ بِلالاً بِأُمِّهِ ؟" وقال النبي صلى الله عليه وسلم: "وَالَّذِي أَنْزَلَ الْكِتَابَ عَلَى مُحَمَّدٍ -أَوْ مَا شَاءَ اللهُ أَنْ يَحْلِفَ- مَا لأَحَدٍ عَلَيَّ فَضْلٌ إِلاَّ بِعَمَلٍ، إِنْ أَنْتُمْ إِلاَّ كَطَفِّ الصَّاعِ[8]"[9].

العدل في الإسلام

ويرتبط بحقِّ المساواة حقٌّ آخر وهو العدل، ومن روائع ما يُروى في هذا الصدد قول الرسول صلى الله عليه وسلم لأسامة بن زيد عندما ذهب ليشفع في المرأة المخزوميَّة التي سرقت: "وَالَّذِي نَفْسُ مُحَمَّدٍ بِيَدِهِ لَوْ أَنَّ فَاطِمَةَ بِنْتَ مُحَمَّدٍ سَرَقَتْ لَقَطَعْتُ يَدَهَا"[10].
وكان صلى الله عليه وسلم ينهى كذلك عن مصادرة حقِّ الفرد في الدفاع عن نفسه تحرِّيًا للعدالة، فيقول: "... فَإِنَّ لِصَاحِبِ الْـحَقِّ مَقَالاً..." [11]. ويقول لمن يتولَّى الحُكْم والقضاء بين الناس: "... فَإِذَا جَلَسَ بَيْنَ يَدَيْكَ الْـخَصْمَانِ فَلاَ تَقْضِيَنَّ حَتَّى تَسْمَعَ مِنَ الآخَرِ كَمَا سَمِعْتَ مِنَ الأَوَّلِ؛ فَإِنَّهُ أَحْرَى أَنْ يَتَبَيَّنَ لَكَ الْقَضَاءُ"[12].

حق الكفاية في الإسلام

وفي حقٍّ فريد تختصُّ به شريعة الإسلام، لم يتطرَّق إليه نظام وضعي ولا ميثاق من مواثيق حقوق الإنسان، يأتي حقُّ الكفاية، ومعناه أن يحصل كل فرد يعيش في كنف الدولة الإسلامية على كفايته من مقوِّمات الحياة؛ بحيث يحيا حياة كريمة، ويتحقَّق له المستوى اللائق للمعيشة، وهو يختلف عن حدِّ الكفاف الذي تحدَّثت عنه النُّظُم الوضعيَّة، والذي يعني الحدَّ الأدنى لمعيشة الإنسان[13].
وحقُّ الكفاية هذا يتحقَّق بالعمل، فإذا عجز الفرد فالزكاة، فإذا عجزت الزكاة عن سدِّ كفاية المحتاجين تأتى ميزانية الدولة لسداد هذه الكفاية، وقد عبَّر الرسول صلى الله عليه وسلم عن ذلك بقوله: "... مَنْ تَرَكَ دَيْنًا أَوْ ضَيَاعًا[14] فَإِلَيَّ وَعَلَيَّ"[15]. ثم قال صلى الله عليه وسلم مؤكِّدًا على هذا الحقِّ: "مَا آمَنَ بِي مَنْ بَاتَ شَبْعَانًا[16] وَجَارُهُ جَائِعٌ إِلَى جَنْبِهِ وَهُوَ يَعْلَمُ بِهِ"[17]. وقال مادحًا: "إِنَّ الأَشْعَرِيِّينَ إِذَا أَرْمَلُوا فِي الْغَزْوِ، أَوْ قَلَّ طَعَامُ عِيَالِهِمْ بِالْـمَدِينَةِ جَمَعُوا مَا كَانَ عِنْدَهُمْ فِي ثَوْبٍ وَاحِدٍ، ثُمَّ اقْتَسَمُوهُ بَيْنَهُمْ فِي إِنَاءٍ وَاحِدٍ بِالسَّوِيَّةِ، فَهُمْ مِنِّي وَأَنَا مِنْهُمْ"[18].

حقوق المدنيين والأسرى

وإن حقوق الإنسان لتَصِلُ إلى أوج عظمتها حين تتعلَّق بحقوق المدنيين والأسرى أثناء الحروب، فالشأن في الحروب أنها يغلب عليها رُوح الانتقام والتنكيل، لا رُوح الإنسانيَّة والرحمة، ولكن الإسلام كان له منهجٌ إنسانيٌّ تحكمه الرحمة، وفي ذلك يقول الرسول صلى الله عليه وسلم: "لا تَقْتُلُوا وَلِيدًا وَلا امْرَأَةً وَلا شَيْخًا"[19].
وهكذا، فهذا بعض ممَّا قَنَّنَه الإسلام ووَضَعَهُ كحقوق للإنسان على ظهر البسيطة، وهي في مجملها تعكس النظرة الإنسانية التي هي رُوح حضارة المسلمين.

الهوامش:

[1] نقلاً عن الغزالي: ركائز الإيمان بين العقل والقلب ص318.
[2] البخاري عن أبي بكرة: كتاب الحج، باب الخطبة أيام منى (1654)، ومسلم: كتاب القسامة والمحاربين والقصاص والديات، باب تغليظ تحريم الدماء والأعراض والأموال (1679).
[3] البخاري عن أنس بن مالك: كتاب الشهادات، باب ما قيل في شهادة الزور (2510)، والنسائي (4009)، وأحمد (6884).
[4] البخاري عن أبي هريرة: كتاب الطب، باب شرب السم والدواء به وبما يخاف منه والخبيث (5442)، ومسلم: كتاب الإيمان، باب غلظ تحريم قتل الإنسان نفسه... (109).
[5] مسلم: كتاب البر والصلة والآداب، باب الوعيد الشديد لمن عذب الناس بغير حق (2613)، وأبو داود (3045)، وأحمد (15366).
[6] كلكم لآدم: كل الناس جميعًا يرجعون إلى أب واحد هو آدم عليه السلام.
[7] أحمد (23536) وقال شعيب الأرناءوط: إسناده صحيح. والطبراني: المعجم الكبير (14444)، وقال الألباني: صحيح. انظر: السلسلة الصحيحة (2700).
[8] طَفُّ الصاعِ: أَي كلكم قريبٌ بعضُكم من بعض؛ فليس لأَحد فضْلٌ على أَحد إلا بالتقوى؛ لأَنَّ طَفَّ الصاع قريب من ملئه، انظر: ابن منظور: لسان العرب، مادة طفف 9/221.
[9] البيهقي: شعب الإيمان (5135).
[10] البخاري عن عائشة رضي الله عنها: كتاب الأنبياء، باب "أَمْ حَسِبْتَ أَنَّ أَصْحَابَ الْكَهْفِ وَالرَّقِيمِ"(3288)، ومسلم: كتاب الحدود، باب قطع السارق الشريف... (1688).
[11] البخاري عن أبي هريرة: كتاب الوكالة، باب الوكالة في قضاء الديون (2183)، ومسلم: كتاب المساقاة، باب من استلف شيئًا فقضى خيرًا منه... (1601).
[12] أبو داود عن عليٍّ رضي الله عنه: كتاب الأقضية، باب كيف القضاء (3582)، والترمذي (1331)، وأحمد (882) وقال شعيب الأرناءوط: حسن لغيره. وقال الألباني: صحيح. انظر: السلسلة الصحيحة (1300).
[13] انظر: خديجة النبراوي: موسوعة حقوق الإنسان في الإسلام ص505-509.
[14] ضياعًا: أي ترك أولادًا صغارًا ضائعين لا مال لهم، انظر: ابن منظور: لسان العرب، مادة ضيع 8/228.
[15] البخاري: كتاب التفسير، سورة الأحزاب (4503)، ومسلم عن جابر بن عبد الله: كتاب الجمعة، باب تخفيف الصلاة والخطبة (867)، واللفظ له.
[16] شبعانًا هكذا مصروفًا في رواية الطبراني، وهي صحيحة على لغة بني أَسد.
[17] الحاكم: كتاب البر والصلة (7307) وقال: هذا حديث صحيح الإسناد ولم يخرجاه. ووافقه الذهبي، والطبراني عن أنس بن مالك: المعجم الكبير (750) واللفظ له، والبيهقي: شعب الإيمان (3238)، وقال الألباني: صحيح. انظر: السلسلة الصحيحة (149).
[18] البخاري عن أبي موسى الأشعري: كتاب الشركة، باب الشركة في الطعام والنهد والعروض (2354)، ومسلم: كتاب فضائل الصحابة رضي الله عنهم ، باب من فضائل الأشعريين رضي الله عنهم (2500).
[19] مسلم: كتاب الجهاد والسير، باب تأمير الإمام الأمراء على البعوث... (1731)، والطبراني عن عبد الله بن عباس: المعجم الأوسط (4313) واللفظ له.

يتبع

عن موقع قصة الإسلام






 
قديم 03-06-10, 10:14 AM   رقم المشاركة : 5
Nabil48
عضو ماسي







Nabil48 غير متصل

Nabil48 is on a distinguished road


سلسلة الحقوق في المجتمع الإسلامي/صلة الرحم/د.راغب السرجاني

سلسلة الحقوق في المجتمع الإسلامي

صلة الرحم في الإسلام أهميتها وحقوقها

الدكتور راغب السرجاني

من عظيم ما أتى به الإسلام أن الأسرة فيه لا تقف عند حدود الوالدين وأولادهما، بل تَتَّسع لتشمل ذوي الرحم وأُولِي القربى من الإخوة والأخوات، والأعمام والعمَّات، والأخوال والخالات، وأبنائهم وبناتهم؛ فهؤلاء جميعًا لهم حقُّ البِرِّ والصِّلَة التي يحثُّ عليها الإسلام، ويَعُدُّهَا من أصول الفضائل، ويَعِدُ عليها بأعظم المثوبة، كما يَتَوَعَّدُ قاطعي الرحم بأعظم العقوبة، فمَنْ وَصَلَ رحمه وَصَلَهُ الله، ومَنْ قَطَعَهَا قَطَعَهُ الله.
وقد وضع الإسلام من الأحكام والأنظمة ما يُوجِبُ دوام الصلة قوية بين هذه الأسرة المُوَسَّعة، بما فيها الأقارب، بحيث يَكْفُلُ بعضهم بعضًا، ويأخذ بعضهم بِيَدِ بعضٍ، كما يُوجب ذلك نظام النفقات، ونظام الميراث، ونظام (العاقلة)؛ ويُرَادُ به توزيع الدِّيَةِ في قتل الخطأ وشبه العمد على عَصَبَةِ القاتل وأقاربه[1].
صلة الرحم في الإسلام
وَصِلَةُ الرحم تعني الإحسان إلى الأقربين، وإيصال ما أمكن من الخير إليهم، ودفع ما أمكن من الشرِّ عنهم؛ فتشمل زيارتهم والسؤال عنهم، وتَفَقُّدِ أحوالهم، والإهداء إليهم، والتصدُّق على فقيرهم، وعيادة مرضاهم، وإجابة دعوتهم، واستضافتهم، وإعزازهم وإعلاء شأنهم، وتكون أيضًا بمشاركتهم في أفراحهم، ومواساتهم في أتراحهم، وغير ذلك ممَّا من شأنه أن يزيد ويُقَوِّيَ من أواصر العَلاقات بين أفراد هذا المجتمع الصغير.
فهي إذن باب خير عميم؛ فيها تتأكَّد وَحْدَة المجتمع الإسلامي وتماسكه، وتمتلئ نفوس أفراده بالشعور بالراحة والاطمئنان؛ إذ يبقى المرء دومًا بمنأى عن الوَحْدَة والعُزْلَة، ويتأكَّد أن أقاربه يُحِيطُونَه بالمودَّة والرعاية، ويمدُّونه بالعون عند الحاجة.
وقد أمر الله -سبحانه- بالإحسان إلى ذوي القربى، وهم الأرحام الذين يَجِبُ وَصْلُهم، فقال تعالى: { وَاعْبُدُوا اللهَ وَلاَ تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا وَبِذِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْـمَسَاكِينِ وَالْـجَارِ ذِي الْقُرْبَى وَالْـجَارِ الْـجُنُبِ وَالصَّاحِبِ بِالْـجَنْبِ وَابْنِ السَّبِيلِ وَمَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ إِنَّ اللهَ لاَ يُحِبُّ مَنْ كَانَ مُخْتَالاً فَخُورًا } [النساء: 36].
وجعل الله تعالى صِلَةَ الرحم توجب صِلَتَه سبحانه للواصل، وتتابع إحسانه وخيره وعطائه عليه، وذلك كما دَلَّ الحديث القدسي الذي رواه عبد الرحمن بن عوف رضي الله عنه قال: سمعتُ رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: قال الله: "أَنَا الرَّحْمَنُ وَهِيَ الرَّحِمُ، شَقَقْتُ لَهَا اسْمًا مِنَ اسْمِي، مَنْ وَصَلَهَا وَصَلْتُهُ، وَمَنْ قَطَعَهَا بَتَتُّهُ"[2].
وبَشَّرَ الرسولُ صلى الله عليه وسلم الذي يَصِلُ رحمه بسعة الرزق والبركة في العمر، فروى أنس بن مالك رضي الله عنه قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "مَنْ سَرَّهُ أَنْ يُبْسَطَ لَهُ فِي رِزْقِهِ، أَوْ يُنْسَأَ لَهُ فِي أَثَرِهِ[3]؛ فَلْيَصِلْ رَحِمَهُ"[4].
وقد فَسَّرَ العلماء ذلك بأن هذه الزيادة بالبركة في عمره، والتوفيق للطاعات، وعمارة أوقاته بما ينفعه في الآخرة، وصيانتها عن الضياع في غير ذلك[5].
وفي المقابل فقد جاءت النصوص الصريحة في التحذير من قطيعة الرحم وَعَدِّها ذنبًا عظيمًا؛ إذ إنها تفصم الروابط بين الناس، وتُشِيعُ العداوة والبغضاء، وتعمل على تَفَكُّكِ التماسُكِ الأُسَرِيِّ بين الأقارب؛ فقال الله تعالى محذرًا مِنْ حلول اللعنة، وعمَى البصرِ والبصيرة: { فَهَلْ عَسَيْتُمْ إِنْ تَوَلَّيْتُمْ أَنْ تُفْسِدُوا فِي الأَرْضِ وَتُقَطِّعُوا أَرْحَامَكُمْ * أُولَئِكَ الَّذِينَ لَعَنَهُمُ اللهُ فَأَصَمَّهُمْ وَأَعْمَى أَبْصَارَهُمْ } [محمد: 22، 23].
وعن جبير بن مطعم أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "لاَ يَدْخُلُ الْـجَنَّةَ قَاطِعُ رَحِمٍ"[6]. وقَطْعُ الرَّحِمِ هو تَرْكُ الصِّلَةِ والإحسان والْبِرِّ بالأقارب، والنصوصُ كثيرة ومتضافرة على عِظَمِ هذا الذنب، وذلك كُلُّه من شأنه أن يَخْلُقَ مجتمعًا متعاونًا متآلفًا متماسكًا، يَتَحَقَّقُ فيه قول رسول الله : "مَثَلُ الْـمُؤْمِنِينَ فِي تَوَادِّهِمْ وَتَرَاحُمِهِمْ وَتَعَاطُفِهِمْ مَثَلُ الْـجَسَدِ؛ إِذَا اشْتَكَى مِنْهُ عُضْوٌ تَدَاعَى لَهُ سَائِرُ الْـجَسَدِ بِالسَّهَرِ وَالْـحُمَّى"[7].

الهوامش:

[1] انظر: يوسف القرضاوي: الإسلام حضارة الغد ص185.
[2] أبو داود: كتاب الزكاة، باب في صلة الرحم (1694)، وأحمد (1680)، وابن حبان (443)، والحاكم (7265) وقال: هذا حديث صحيح على شرط مسلم ولم يخرجاه.
[3] يُنْسَأ: أي يُؤَخَّر له، والأثر هنا: الأجل وبقية العمر. انظر: ابن حجر العسقلاني: فتح الباري 4/302، 10/416.
[4] البخاري: كتاب البيوع، باب من أحب البسط في الرزق (1961)، وكتاب الآداب، باب من بسط له في الرزق بصلة الرحم (5639)، ومسلم: كتاب البر والصلة والآداب، باب صلة الرحم وتحريم قطيعتها (21).
[5] انظر: النووي: المنهاج في شرح صحيح مسلم بن الحجاج 16/114.
[6] البخاري: كتاب الآداب، باب إثم القاطع (5638)، ومسلم: كتاب البر والصلة والآداب، باب صلة الرحم وتحريم قطيعتها (19).
[7] البخاري: كتاب الأدب، باب رحمة الناس والبهائم (5665)، ومسلم: كتاب البر والصلة والآداب، باب تراحم المؤمنين وتعاطفهم وتعاضدهم (2586)، واللفظ له.

يتبع

عن قصة الإسلام






 
قديم 04-06-10, 01:03 PM   رقم المشاركة : 6
Nabil48
عضو ماسي







Nabil48 غير متصل

Nabil48 is on a distinguished road


سلسلة الحقوق في المجتمع الإسلامي/المؤاخاة/د.راغب السرجاني

سلسلة الحقوق في المجتمع الإسلامي

المؤاخاة في المجتمع المسلم أهميتها ومكانتها

الدكتور راغب السرجاني


المجتمع الإسلامي هو تلك الأسرة الكبيرة التي تربطها أواصر المحبَّة والتكافل والتعاون والرحمة، وهو مجتمع رباني إنساني أخلاقي متوازن؛ يتعايش أفراده بمكارم الأخلاق، ويتعاملون بالعدل والشورى، يرحم الكبيرُ فيه الصغير، ويعطف فيه الغنيُّ على الفقير، ويأخذ القويُّ بيد الضعيف، بل هو كالجسد الواحد، الذي إذا اشتكى منه عضو تألَّم له سائر الأعضاء، وكالبنيان يشدُّ بعضه بعضًا

المؤاخاة في الإسلام

يقول آتووتر[1]، وهو أحد الرموز البارزة في إدارة الرئيس ريجان[2]، في عدد فبراير (1991م) من مجلة Life: "... لقد ساعدني مرضي على أن أُدْرِكَ أن ما كان مفقودًا في المجتمع كان مفقودًا في داخلي أنا أيضًا: قليل من الحُبِّ والمودة، وقليل من الأُخُوَّة.."[3].
فالمؤاخاة أو الإخاء أو الأخوة من أروع القيم الإنسانية التي أرساها الإسلام للمحافظة على كيان المجتمع، وهي التي تجعل المجتمع وَحْدَةً متماسكة، وهي قيمة لم تُوجَدْ في أيِّ مجتمع؛ لا في القديم ولا في الحديث، وتعني: "أن يعيش الناس في المجتمع متحابَّينَ، مترابطين، متناصرين، يجمعهم شعور أبناء الأسرة الواحدة، التي يُحِبُّ بعضها بعضًا، ويشدُّ بعضها أزر بعضٍ، يحسُّ كلٌّ منها أن قوَّةَ أخيه قوَّةٌ له، وأن ضعفَه ضعفٌ له، وأنه قليل بنفسه كثيرٌ بإخوانه"[4].

مكانة المؤاخاة في المجتمع الإسلامي

وقد تضافرت النصوص على مكانة المؤاخاة في المجتمع الإسلامي وأثرها في بناء المجتمع المسلم، كما حثَّتْ على كل ما من شأنه تقويتها، ونَهَتْ عن كل ما من شأنه أن ينال منها؛ فقال تعالى مُقَرِّرًا عَلاقة الأُخُوَّة بالإيمان: { إِنَّمَا الْـمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ } [الحجرات: 10]، وذلك دون اعتبار لجنسٍ أو لون أو نسب، فاجتمع وتآخى بذلك سلمان الفارسي وبلال الحبشي وصهيب الرومي مع إخوانهم العرب.
كما وصف القرآن الكريم هذه الأُخُوَّة بأنها نعمة من الله، فقال تعالى: { وَاذْكُرُوا نِعْمَتَ اللهِ عَلَيْكُمْ إِذْ كُنْتُمْ أَعْدَاءً فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ فَأَصْبَحْتُمْ بِنِعْمَتِهِ إِخْوَانًا } [آل عمران: 103].
وها هو ذا الرسول صلى الله عليه وسلم بعد هجرته إلى المدينة -لَـمَّا كانت بداية المجتمع المسلم- بدأ بعد بناء المسجد مباشرة بالمؤاخاة بين المهاجرين والأنصار، وقد سَجَّل القرآن الكريم هذه المؤاخاة التي ضربت المثل الرائع للحُبِّ والإيثار، فقال تعالى: { وَالَّذِينَ تَبَوَّءُوا الدَّارَ وَالإِيمَانَ مِنْ قَبْلِهِمْ يُحِبُّونَ مَنْ هَاجَرَ إِلَيْهِمْ وَلاَ يَجِدُونَ فِي صُدُورِهِمْ حَاجَةً مِمَّا أُوتُوا وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ } [الحشر: 9].
وفي بيان لصورة من تلك المُثُل الرائعة في الحُبِّ والإيثار جَرَّاء هذه المؤاخاة، تلك التي يعرض فيه أخ أنصاري على أخيه المهاجر نصف ماله وإحدى زوجتيه بعد أن يُطَلِّقَهَا له! وهو ما رواه أنس بن مالك رضي الله عنه حيث قال: قَدِمَ عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ عَوْفٍ المدينة فَآخَى النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم بَيْنَهُ وَبَيْنَ سَعْدِ بْنِ الرَّبِيعِ الأَنْصَارِيِّ، فَعَرَضَ عَلَيْهِ أَنْ يُنَاصِفَهُ أَهْلَهُ وَمَالَهُ، فَقَالَ عَبْدُ الرَّحْمَنِ: بَارَكَ اللهُ لَكَ فِي أَهْلِكَ وَمَالِكَ، دُلَّنِي عَلَى السُّوقِ..."[5].
ولدورها العظيم في تماسك بنيان المجتمع كان تحذير الله تعالى واضحًا جليًّا لكل عمل يُوهِنُ الأُخُوَّة الإسلامية، فَحَرَّم التعالي والسخرية، فقال تعالى: { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لاَ يَسْخَرْ قَوْمٌ مِنْ قَوْمٍ عَسَى أَنْ يَكُونُوا خَيْرًا مِنْهُمْ وَلاَ نِسَاءٌ مِنْ نِسَاءٍ عَسَى أَنْ يَكُنَّ خَيْرًا مِنْهُنَّ } [الحجرات: 11].
كما حرَّم التعريض بالعيوب والتفاخر بالأنساب، فقال تعالى: { وَلاَ تَلْـمِزُوا أَنْفُسَكُمْ وَلاَ تَنَابَزُوا بِالأَلْقَابِ بِئْسَ الاِسْمُ الْفُسُوقُ بَعْدَ الإِيمَانِ وَمَنْ لَمْ يَتُبْ فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ } [الحجرات: 11].
وحرَّم كذلك الغيبة والنميمة وسوء الظنِّ؛ وهي من أسوأ عوامل هدم المجتمعات، فقال تعالى: { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اجْتَنِبُوا كَثِيرًا مِنَ الظَّنِّ إِنَّ بَعْضَ الظَّنِّ إِثْمٌ وَلاَ تَجَسَّسُوا وَلاَ يَغْتَبْ بَعْضُكُمْ بَعْضًا أَيُحِبُّ أَحَدُكُمْ أَنْ يَأْكُلَ لَـحْمَ أَخِيهِ مَيْتًا فَكَرِهْتُمُوهُ وَاتَّقُوا اللهَ إِنَّ اللهَ تَوَّابٌ رَحِيمٌ } [الحجرات: 12].
وإذا ما حَدَثَ خصام أو مهاجرة، فإن الإسلام راح يُرَغِّبُ في كُلِّ ما يجمع القلوب ويدعم الوَحْدَة؛ وذلك بالدعوة إلى الإصلاح بين المتخاصمين؛ حيث قال صلى الله عليه وسلم مُعَظِّمًا ومُرَغِّبًا في ذلك: "أَلاَ أُخْبِرُكُمْ بِأَفْضَلَ مِنْ دَرَجَةِ الصِّيَامِ وَالصَّلاَةِ وَالصَّدَقَةِ ؟!" قالوا: بلى يا رسول الله. قال: "إِصْلاَحُ ذَاتِ الْبَيْنِ وَفَسَادُ ذَاتِ الْبَيْنِ الْـحَالِقَةُ"[6].
بل إن الإسلام أباح الكذب للإصلاح بين المتخاصمين؛ لما في ذلك من جبر كيان المجتمع الإسلامي من أن يَتَصَدَّعَ، فقال صلى الله عليه وسلم: "لَيْسَ الْكَذَّابُ الَّذِي يُصْلِحُ بَيْنَ النَّاسِ فَيَنْمِي خَيْرًا أَوْ يَقُولُ خَيْرًا"[7].

حقوق وواجبات الأخوة

ولأهمية الاخوة وضع الإسلام مجموعة مجموعة من الحقوق والواجبات، يلتزمها كل مسلم بمقتضى تلك العَلاقة، ويُكَلَّفُ بها على أنها دَيْنٌ يُحَاسَبُ عليه، وأمانة لا بُدَّ من أدائها، فقال النبي صلى الله عليه وسلم يُوَضِّح ذلك: "لاَ تَحَاسَدُوا وَلاَ تَنَاجَشُوا وَلاَ تَبَاغَضُوا وَلاَ تَدَابَرُوا وَلاَ يَبِعْ بَعْضُكُمْ عَلَى بَيْعِ بَعْضٍ وَكُونُوا عِبَادَ اللهِ إِخْوَانًا الْـمُسْلِمُ أَخُو الْـمُسْلِمِ لاَ يَظْلِمُهُ وَلاَ يَخْذُلُهُ وَلاَ يَحْقِرُهُ... بِحَسْبِ امْرِئٍ مِنَ الشَّرِّ أَنْ يَحْقِرَ أَخَاهُ الْـمُسْلِمَ، كُلُّ الْـمُسْلِمِ عَلَى الْـمُسْلِمِ حَرَامٌ؛ دَمُهُ وَمَالُهُ وَعِرْضُهُ"[8].
ففي قوله صلى الله عليه وسلم: "وَلاَ يَخْذُلُهُ". قال العلماء: الخذل ترك الإعانة والنصر، ومعناه: إذا استعان به في دفع ظالم ونحوه لزمه إعانته إذا أمكنه، ولم يكن له عذر شرعي[9].
وعن أنس رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "انْصُرْ أَخَاكَ ظَالِمًا أَوْ مَظْلُومًا". فقال رجلٌ: يا رسول الله، أنصره إذا كان مظلومًا، أفرأيت إذا كان ظالمًا، كيف أنصره؟ قال: "تَحْجُزُهُ أَوْ تَمْنَعُهُ مِنَ الظُّلْـمِ فَإِنَّ ذَلِكَ نَصْرُهُ"[10].
فهل نرى مجتمعًا إنسانيًّا يقوى على أن يُلْزِمَ كلَّ فرد فيه بأن يسعى في حاجة أخيه، وأن ينصره مظلومًا، ويَرُدَّه عن ظلمه إن كان ظالمًا؟!
إنه فقط في المجتمع الإسلامي؛ حيث هذه الدرجة العالية من الأخوة وتَوَحُّد الإحساس، فيعمل كل فرد على تفريج ضوائق أخيه وحلِّ مشكلاته، ويقف منه موقف العون والمساندة، لا موقف التحاسد والتباغض، ويكون ملتزمًا بالإيجابية، وعلى هذا تكون المؤاخاة أساسَ وعنوانَ بناء وتماسُكِ المجتمع الإسلامي.

الهوامش:

[1] آتووتر: Lee Atwater (1951- 1991م) مستشار سياسي واستراتيجي للحزب الجمهوري الأمريكي، وكان مستشارًا سياسيًّا للرئيس ريجان وبوش الأب.
[2] رونالد ريجان: Ronald Reagan (1911 - 2004م): هو الرئيس الأربعون للولايات المتحدة الأمريكية في الفترة ما بين (1981- 1989م)، كان ممثلاً سينمائيًّا ثانويًّا فاشلاً قبل أن يدخل في الحياة السياسية، وكان رئيسًا محبوبًا وشعبيًّا، أُعِيد انتخابه بالأغلبية المطلقة للمرة الثانية عام 1984م.
[3] نقلاً عن عبد الحي زلوم: إمبراطورية الشر الجديدة ص397.
[4] يوسف القرضاوي: ملامح المجتمع المسلم الذي ننشده ص138.
[5] البخاري: كتاب فضائل الصحابة، باب كيف آخى النبي r بين أصحابه (3722)، والترمذي (1933)، والنسائي (3388)، وأحمد (12999).
[6] أبو داود: كتاب الأدب، باب في إصلاح ذات البين (4919)، والترمذي (2509)، وأحمد (27548) وقال شعيب الأرناءوط: إسناده صحيح. وابن حبان (5092)، وصححه الألباني، انظر: صحيح الجامع (2595).
[7] البخاري عن أم كلثوم بنت عقبة: كتاب الصلح، باب ليس الكاذب الذي يصلح بين الناس (2546)، ومسلم: كتاب البر والصلة والآداب، باب تحريم الكذب وبيان المباح منه (2605).
[8] مسلم عن أبي هريرة: كتاب الصلة والآداب، باب تحريم ظلم المسلم وخذله واحتقاره ودمه وعرضه وماله (2564)، وأحمد (7713)، والبيهقي: السنن الكبرى (11830).
[9] النووي: المنهاج في شرح صحيح مسلم بن الحجاج 16/120.
[10] البخاري: كتاب الإكراه، باب يمين الرجل لصاحبه أنه أخوه إذا خاف عليه القتل أو نحوه (6552)، والترمذي (2255)، وأحمد (11967)، والدارمي (2753).

يتبع

عن موقع قصة الإسلام






 
قديم 05-06-10, 08:08 PM   رقم المشاركة : 7
Nabil48
عضو ماسي







Nabil48 غير متصل

Nabil48 is on a distinguished road


سلسلة الحقوق في المجتمع الإسلامي/المرأة/د.راغب السرجاني

سلسلة الحقوق في المجتمع الإسلامي

حقوق المرأة في الحضارة الإسلامية

الدكتور راغب السرجاني

أحاط الإسلام المرأة بسياج من الرعاية والعناية، وارتفع بها وقدَّرها، وخصَّها بالتكريم وحُسْن المعاملة ابنةً وزوجةً وأختًا وأُمًّا، فقرَّر الإسلام أوَّلاً أنَّ المرأة والرجل خُلِقَا من أصل واحد؛ ولهذا فالنساء والرجال في الإنسانيَّة سَوَاء، قال تعالى: { يَأَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالاً كَثِيرًا وَنِسَاءً } [النساء: 1]. وهناك آيات أخرى كثيرة تُبَيِّن قضاء الإسلام على مبدأ التَّفْرِقَة بين الرجل والمرأة في القيمة الإنسانيَّة المشترَكة.

مكانة المرأة في الإسلام

وانطلاقًا من هذه المبادئ، وإنكارًا لعادات الجاهليَّة والأمم السابقة فيما يخصُّ وضع المرأة، جاء الإسلام يدافع عن المرأة ويُنزلها المكانة التي لم تبلغها في ملَّة ماضية، ولم تُدْرِكْها في أُمَّة تالية؛ حيث شرع لها -كأمٍّ وأخت وزوجة وابنة- من الحقوق منذ أربعةَ عَشَرَ قرنًا، ما تزال المرأة الغربيَّة تُصارِع الآن للحصول عليه، ولكن هيهات!
فَقَرَّرَ الإسلام بدايةً أن النساء يُماثِلن الرجال في القَدْر والمكانة، ولا يَنْتَقِصُ منهنَّ أبدًا كونُهنَّ نساء، وفي ذلك قال الرسول صلى الله عليه وسلم يؤصِّل لقاعدة مهمَّة: "إِنَّ النِّسَاءَ شَقَائِقُ الرِّجَالِ"[1]. كما ثبت عنه صلى الله عليه وسلم أنه كان دائم الوصيَّة بالنساء، وكان يقول لأصحابه: "... اسْتَوْصُوا بِالنِّسَاءِ خَيْرًا"[2]. وتكرَّرت منه هذه النصيحة في حجَّة الوداع وهو يخاطب الآلاف من أُمَّته.

مكانة المرأة في الجاهلية

وإذا ما أردنا أن نتبيَّن ما أصَّله الإسلام وما جاء به من دعائم لرفعة المرأة وتكريمها، فيهمُّنا أن ندرك أوَّلاً مكانة المرأة في الجاهليَّات القديمة والمعاصرة[3]؛ لنرى الظلام الحقيقي الذي عاشته، والذي ما زالت تعيشه، ومن ثَمَّ يتبيَّن لنا حقيقة وضع ومكانة المرأة في ظلِّ تعاليم الإسلام والحضارة الإسلامية.

فإذا كان العرب -كما مرَّ بنا في الباب الأول- يَئِدُون بناتهم فيحرمونهن حقَّ الحياة، إذا بالقرآن الكريم يتنزل يُجَرِّم ويُحَرِّم ذلك الفعل؛ حيث قال الله تعالى: { وَإِذَا الْـمَوْءُودَةُ سُئِلَتْ * بِأَيِّ ذَنْبٍ قُتِلَتْ } [التكوير: 8، 9]، بل وجعله النبي صلى الله عليه وسلم من أعظم الذنوب؛ فعن ابن مسعودٍ رضي الله عنه أنه قال: سألتُ رسول الله صلى الله عليه وسلم: أَيُّ الذَّنْبِ أَعْظَمُ؟ قال: "أَنْ تَجْعَلَ لِلَّهِ نِدًّا وَهُوَ خَلَقَكَ". قلت: ثُمَّ أَيُّ؟ قال: "أَنْ تَقْتُلَ وَلَدَكَ خَشْيَةَ أَنْ يَأْكُلَ مَعَكَ". قال: ثُمَّ أَيُّ؟ قَالَ: "أَنْ تُزَانِيَ حَلِيلَةَ جَارِكَ"[4].

حقوق المرأة في الإسلام

فالأمر في الإسلام لم يقف عند الحفاظ على حقِّ المرأة في الحياة فقط، وإنما رغَّب الإسلام في الإحسان إليها صغيرة؛ فقال الرسول صلى الله عليه وسلم: "مَنْ يَلِي مِنْ هَذِهِ الْبَنَاتِ شَيْئًا فَأَحْسَنَ إِلَيْهِنَّ؛ كُنَّ لَهُ سِتْرًا مِنَ النَّارِ"[5].
ثم أمر الرسول صلى الله عليه وسلم بتعليمها فقال: "أَيُّمَا رَجُلٍ كَانَتْ عِنْدَهُ وَلِيدَةٌ فَعَلَّمَهَا فَأَحْسَنَ تَعْلِيمَهَا، وَأَدَّبَهَا فَأَحْسَنَ تَأْدِيبَهَا.. فَلَهُ أَجْرَانِ"[6]. وكان صلى الله عليه وسلم يجعل للنساء يومًا ليعظَهُنَّ، ويذكِّرَهُنَّ، ويأمرَهُنَّ بطاعة الله تعالى[7].
وما أن تشِبَّ البنت وتصير فتاة بالغة؛ حتى يُعْطِيَها الإسلام الحقَّ في الموافقة على الخاطب أو رفضه، ولا يجوِّز إجبارها على الاقتران برجل لا تريده، وقد قال في ذلك الرسول صلى الله عليه وسلم: "الأَيِّمُ أَحَقُّ بِنَفْسِهَا مِنْ وَلِيِّهَا وَالْبِكْرُ تُسْتَأْذَنُ فِي نَفْسِهَا وَإِذْنُهَا صُمَاتُهَا"[8]. وقال أيضًا: "لا تُنْكَحُ الأَيِّمُ حَتَّى تُسْتَأْمَرَ وَلا تُنْكَحُ الْبِكْرُ حَتَّى تُسْتَأْذَنَ". قالوا: يا رسول الله، وكيف إذنها؟ قال: "أَنْ تَسْكُتَ"[9].
ثم لمَّا تصير زوجةً يحثُّ الشرع الحنيف على حُسْن معاملتها وعشرتها؛ مبيِّنًا أن حُسْن عِشْرَة النساء دليل على نُبْل نفس الرجل وكريم طباعه، فيقول الرسول صلى الله عليه وسلم -مثلاً- مرغِّبًا: "إِنَّ الرَّجُلَ إِذَا سَقَى امْرَأَتَهُ مِنَ الْـمَاءِ أُجِرَ" [10]. ويقول مرهبًا: "اللَّهُمَّ، إِنِّي أُحَرِّجُ[11]حَقَّ الضَّعِيفَيْنِ: الْيَتِيمِ وَالْـمَرْأَةِ"[12].
وقد كان الرسول صلى الله عليه وسلم قدوة عملية في ذلك؛ فكان في غاية الرقَّة واللُّطف مع أهله، يروي في ذلك الأسود بن يزيد النخعي، فيقول: سألتُ عائشة رضي الله عنها: ما كان النبي صلى الله عليه وسلم يصنع في أهله؟ قالت: "كَانَ فِي مِهْنَةِ أَهْلِهِ[13]، فَإِذَا حَضَرَتِ الصَّلاةُ، قَامَ إِلَى الصَّلاةِ"[14].
وإذا ما كرهت الزوجة زوجها ولم تُطِق الحياة معه، فقد سنَّ لها الإسلام حقَّ مفارَقة الزوج، وذلك عن طريق الخُلْعِ؛ فعن ابن عباس رضي الله عنهما قال: جاءت امرأة ثابت بن قيس إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقالت: يا رسول الله، ما أَنْقِم على ثابت في دِينٍ ولا خُلُق، إلاَّ أنِّي أخاف الكفر. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "فَتَرُدِّينَ عَلَيْهِ حَدِيقَتَهُ؟" فقالت: نعم. فردَّتْ عليه حديقته، وأمره ففارقها[15].

وإضافةً إلى ما سبق، فقد أثبت الإسلام للمرأة ذِمَّة ماليَّة مستقلَّة تمامًا كالرجل؛ فلها أن تبيع وتشتري، وتستأجر وتؤجِّر، وتوكل وتهب، ولا حِجْر عليها في ذلك ما دامت عاقلة رشيدة، وذلك انطلاقًا من قوله تعالى: { فَإِنْ آنَسْتُمْ مِنْهُمْ رُشْدًا فَادْفَعُوا إِلَيْهِمْ أَمْوَالَهُمْ } [النساء: 6].
ولما أَجَارَتْ أُمُّ هانئ بنت أبي طالب رجلاً من المشركين، وأبى أخوها عليٌّ رضي الله عنه إلاَّ أنْ يقتله، كان قضاء الرسول صلى الله عليه وسلم في هذه الحادثة قوله: "أَجَرْنَا مَنْ أَجَرْتِ يَا أُمَّ هَانِئٍ"[16]. فأعطاها الحقَّ في أن تُعْطِيَ الأمان والجوار في الحرب أو السلم لغير المسلمين.
وهكذا تعيش المرأة المسلمة عزيزة أبيَّة كريمة مصونة في ظِلِّ تعاليم الإسلام، وفي ظِلِّ الحضارة الإسلامية السامية.

الهوامش:

[1] الترمذي: أبواب الطهارة، باب ما جاء فيمن يستيقظ فيرى بللاً... (113)، وأبو داود (236)، وأحمد (26238)، وأبو يعلى (4694)، وصححه الألباني، انظر: صحيح الجامع (1983).
[2] البخاري عن أبي هريرة: كتاب النكاح، باب الوصاة بالنساء (4890)، ومسلم: كتاب الرضاع، باب الوصية بالنساء (1468).
[3] أشرنا إلى ذلك في الحديث عن الحضارات السابقة في المقالات السابقة..
[4] البخاري: كتاب الأدب، باب قتل الولد خشية أن يأكل معه (5655)، والترمذي (3182)، وأحمد (4131).
[5] البخاري عن عائشة رضي الله عنها: كتاب الأدب، باب رحمة الولد وتقبيله ومعانقته (5649)، ومسلم: كتاب البر والصلة والآداب، باب فضل الإحسان إلى البنات (2629).
[6] البخاري عن أبي موسى الأشعري: كتاب النكاح، باب اتخاذ السراري ومن أعتق جاريته ثم تزوجها (4795).
[7] عن أبي سعيد الخدري: قالت النساء للنبي صلى الله عليه وسلم غلبنا عليك الرجال، فاجعل لنا يومًا من نفسك. فوعدهن يومًا لقيهن فيه فوعظهن وأمرهن. رواه البخاري: كتاب العلم، باب هل يجعل للنساء يوم على حده في العلم (101)، ومسلم: كتاب البر والصلة والآداب، باب فضل من يموت له ولد فيحتسبه (2633).
[8] مسلم عن عبد الله بن عباس: كتاب النكاح، باب استئذان الثيب في النكاح بالنطق والبكر بالسكوت (1421).
[9] البخاري عن أبي هريرة: كتاب النكاح، باب لا ينكح الأب وغيره البكر والثيب إلا برضاها (4843).
[10] أحمد عن العرباض بن سارية (17195) وقال شعيب الأرناءوط: صحيح بشواهده..، وقال الألباني: حسن لغيره. انظر: صحيح الترغيب والترهيب (1963).
[11] أحرِّج: أي ألحق الحرج والإثم بمن ضيعهما، فأحذره من ذلك تحذيرًا بليغًا، وأزجره زجرًا أكيدًا، انظر: المناوي: فيض القدير 3/27.
[12] ابن ماجه عن أبي هريرة (3678)، وأحمد (9664) وقال شعيب الأرناءوط: إسناده قوي، والحاكم (211) وقال: هذا حديث صحيح على شرط مسلم ولم يخرجاه. وقال الذهبي في التلخيص: على شرط مسلم. والبيهقي (20239)، وقال الألباني: صحيح. انظر: السلسلة الصحيحة (1015).
[13] أي يساعدها في مهنتها.
[14] البخاري: كتاب الجماعة والإمامة، باب من كان في حاجة أهله فأقيمت الصلاة فخرج (644)، وأحمد (24272)، والترمذي (2489).
[15] البخاري: كتاب الطلاق، باب الخلع وكيفية الطلاق فيه (4973)، وأحمد (16139).
[16] البخاري عن أم هانئ بنت أبي طالب: أبواب الجزية والموادعة، باب أمان النساء وجوارهن (3000)، ومسلم: كتاب صلاة المسافرين وقصرها، باب استحباب صلاة الضحى (336).

يتبع

عن موقع قصة الإسلام

</b></i>






 
قديم 06-06-10, 10:54 PM   رقم المشاركة : 8
Nabil48
عضو ماسي







Nabil48 غير متصل

Nabil48 is on a distinguished road


سلسلة الحقوق في المجتمع الإسلامي/الخدم والعمال/د.راغب السرجاني

سلسلة الحقوق في المجتمع الإسلامي

حقوق الخدم والعمال في الحضارة الإسلامية

الدكتور راغب السرجاني

نماذج من حقوق الخدم والعمال في الإسلام

أعزَّ الإسلام الخدم والعمَّال ورعاهم وكرَّمهم، واعترف بحقوقهم لأوَّل مرَّة في التاريخ -بعد أن كان العمل في بعض الشرائع القديمة معناه الرقُّ والتبعية، وفي البعض الآخر معناه المذلَّة والهوان- قاصدًا بذلك إقامة العدالة الاجتماعيَّة، وتوفير الحياة الكريمة لهم؛ وقد كانت سيرة الرسول صلى الله عليه وسلم خيرَ شاهد على عظمة نظرة الحضارة الإسلامية للخدم والعمال، وكانت إقرارًا منه صلى الله عليه وسلم بحقوقهم.
فقد دعا صلى الله عليه وسلم أصحاب الأعمال إلى معاملة خدمهم معاملة إنسانيَّة كريمة، وإلى الشفقة عليهم، والبرِّ بهم وعدم تكليفهم ما لا يطيقون من الأعمال، فقال صلى الله عليه وسلم: "... إِخْوَانُكُمْ خَوَلُكُمْ[1]، جَعَلَهُمُ اللهُ تَحْتَ أَيْدِيكُمْ، فَمَنْ كَانَ أَخُوهُ تَحْتَ يَدِهِ فَلْيُطْعِمْهُ مِمَّا يَأْكُلُ، وَلْيُلْبِسْهُ مِمَّا يَلْبَسُ، وَلاَ تُكَلِّفُوهُمْ مَا يَغْلِبُهُمْ، فَإِنْ كَلَّفْتُمُوهُمْ فَأَعِينُوهُمْ"[2]. فجاء تصريح رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إِخْوَانُكُمْ خَوَلُكُمْ". ليرتفع بدرجة العامل الخادم إلى درجة الأخ! وهذا ما لم يسبق أبدًا في حضارة من الحضارات.

وألزم الرسول صلى الله عليه وسلم كذلك صاحب العمل أن يُوَفِّيَ للعامل والخادم أجره المكافئ لجُهده دون ظلم أو مماطلة، فقال: "أَعْطُوا الأَجِيرَ أَجْرَهُ قَبْلَ أَنْ يَجِفَّ عَرَقُهُ"[3].
وحَذَّر الإسلام من ظلم العمال، فقال الرسول صلى الله عليه وسلم في الحديث القدسي عن ربِّ العزَّة سبحانه وتعالى : "قَالَ اللهُ تَعَالَى: ثَلاَثَةٌ أَنَا خَصْمُهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ... وَرَجُلٌ اسْتَأْجَرَ أَجِيرًا فَاسْتَوْفَى مِنْهُ وَلَمْ يُعْطِ أَجْرَهُ"[4]. ليعلم كل مَنْ ظلم عاملاً أو خادمًا أن الله رقيب عليه وخصم له يوم القيامة.
كما يجب على صاحب العمل عدم إرهاق العامل إرهاقًا يضرُّ بصحَّته، ويجعله عاجزًا عن العمل، ولقد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم في ذلك: "مَا خَفَّفْتَ عَنْ خَادِمِكَ مِنْ عَمَلِهِ كَانَ لَكَ أَجْرًا فِي مَوَازِينِكَ"[5].

ومن الحقوق التي تُعتبر علامة مضيئة في الشريعة الإسلاميَّة حقُّ الخادم في التواضع معه، وفي ذلك يُرَغِّب الرسول صلى الله عليه وسلم أُمَّته قائلاً: "مَا اسْتَكْبَرَ مَنْ أَكَلَ مَعَهُ خَادِمُهُ، وَرَكِبَ الْحِمَارَ بِالأَسْوَاقِ، وَاعْتَقَلَ الشَّاةَ فَحَلَبَهَا"[6].
ولأن حياته صلى الله عليه وسلم كانت تطبيقًا لكل أقواله، فإن السيدة عائشة – رضي الله عنها- تروي فتقول:"«مَا ضَرَبَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم شَيْئًا قَطُّ بِيَدِهِ وَلاَ امْرَأَةً وَلاَ خَادِمًا...» [7].

كما نجده صلى الله عليه وسلم يقول لأبي مسعود الأنصاري رضي الله عنه عندما ضرب غلامًا له فيقول: "اعْلَمْ أَبَا مَسْعُودٍ، لَلَّهُ أَقْدَرُ عَلَيْكَ مِنْكَ عَلَيْهِ". قال: فَالْتَفَتُّ فإذا هو رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فقلتُ: يا رسول الله، هو حُرٌّ لِوَجْهِ اللهِ. فَقَالَ: "أَمَا لَوْ لَمْ تَفْعَلْ لَلَفَحَتْكَ النَّارُ"، أَو "لَمَسَّتْكَ النَّارُ"[8].
فالضرب أو الصفع أو اللطم أو الركل هو إهانة للخادم يأباها الله ورسوله؛ ولهذا فإن أفضل عقاب للسيِّد القاسي القلب هو أن يُحْرَم فورًا من مِلْكِيَّتِهِ، وهذه هي عظمة الإسلام وعظمة الحضارة الإسلامية.

وهذا أنس بن مالك رضي الله عنه خادم رسول الله صلى الله عليه وسلم يشهد شهادة حقٍّ وصدق فيقول: «كَانَ رَسُولُ الله صلى الله عليه وسلم مِنْ أَحْسَنِ النَّاسِ خُلُقًا، فَأَرْسَلَنِي يَوْمًا لِحَاجَةٍ، فَقُلْتُ: وَاللهِ لاَ أَذْهَبُ - وَفِي نَفْسِي أَنْ أَذْهَبَ لِمَا أَمَرَنِي بِهِ نَبِيُّ اللهِ صلى الله عليه وسلم - قَالَ: فَخَرَجْتُ حَتَّى أَمُرَّ عَلَى صِبْيَانٍ وَهُمْ يَلْعَبُونَ فِي السُّوقِ، فَإِذَا رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم قَابِضٌ بِقَفَايَ مِنْ وَرَائِي، فَنَظَرْتُ إِلَيْهِ وَهُوَ يَضْحَكُ، فَقَالَ: "يَا أُنَيْسُ، اذْهَبْ حَيْثُ أَمَرْتُكَ". قُلْتُ: نَعَمْ، أَنَا أَذْهَبُ يَا رَسُولَ اللهِ. قَالَ أَنَسٌ: وَاللهِ! لَقَدْ خَدَمْتُهُ سَبْعَ سِنِينَ أَوْ تِسْعَ سِنِينَ مَا عَلِمْتُ قَالَ لِشَيْءٍ صَنَعْتُ: لِمَ فَعَلْتَ كَذَا وَكَذَا. وَلاَ لِشَيْءٍ تَرَكْتُ: هَلاَّ فَعَلْتَ كَذَا وَكَذَا[9].

بل إن الرسول صلى الله عليه وسلم كان يهتمُّ برعاية خَدَمِه إلى الدرجة التي يحرص فيها على زواجهم، فعن ربيعة بن كعب الأسلمي، قال: كنتُ أخدم النبي صلى الله عليه وسلم فقال لي النبي صلى الله عليه وسلم:"يَا رَبِيعَةُ، أَلاَ تَتَزَوَّجُ ؟" قال: فقلتُ: لا والله يا رسول الله، ما أريد أن أتزوَّج؛ ما عندي ما يُقيم المرأة، وما أحبُّ أن يشغلني عنك شيء. قال: فأعرض عنِّي، ثم قال لي بعد ذلك: "يَا رَبِيعَةُ، أَلاَ تَتَزَوَّجُ ؟" قال: فقلتُ: لا والله يا رسول الله، ما أريد أن أتزوَّج، وما عندي ما يُقيم المرأة، وما أحبُّ أن يشغلني عنك شيء. فأعرض عنِّي. وقال: ثم راجعتُ نفسي، فقلتُ: والله يا رسول الله أنت أعلم بما يُصلحني في الدنيا والآخرة. قال: وأنا أقول في نفسي: لئن قال لي الثالثة لأقولن: نعم. قال: فقال لي الثالثة: "يَا رَبِيعَةُ، أَلاَ تَتَزَوَّجُ ؟" قال: فقلتُ: بلى يا رسول الله، مُرْنِي بما شئتَ، أو بما أحببت. قال: "انْطَلِقْ إِلَى آلِ فُلانٍ". إِلى حيٍّ من الأنصار...[10].

وتتجلَّى عظمة الحضارة الإسلامية في معاملة الخدم والعمال حين نرى امتداد رحمته صلى الله عليه وسلم بخدمه لتشمل غير المؤمنين به أصلاً، وذلك كما فعل مع الغلام اليهودي الذي كان يعمل عنده خادمًا، فقد مرض الغلام مرضًا شديدًا، فظلَّ النبي صلى الله عليه وسلم يزوره ويتعهَّده، حتى إذا شارف على الموت عاده وجلس عند رأسه، ثم دعاه إلى الإسلام، فنظر الغلام إلى أبيه متسائلاً، فقال له أبوه: أطِعْ أبا القاسم. فَأَسْلَمَ، ثم فاضت رُوحه، فخرج النبي صلى الله عليه وسلم وهو يقول: "الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَنْقَذَهُ مِنَ النَّارِ"[11].

وهذه -بعدُ- بعض حقوق الخدم والعمال التي أصَّلها الإسلام الحنيف، والتي طَبَّقَهَا رسول الإسلام الكريم بالقول والعمل، في زمنٍ لم يكن يعرف غير الظلم والقهر والاستبداد؛ لتُعَبِّرَ بصدق عَمَّا وصلت إليه حضارة الإسلام والمسلمين من سموٍّ وعظمةٍ وإنسانية.

الهوامش:

[1] خولكم: خدمكم. انظر: ابن حجر العسقلاني: فتح الباري 1/115.
[2] البخاري: كتاب الإيمان، باب المعاصي من أمر الجاهلية، ولا يكفر صاحبها بارتكابها إلا بالشرك (30)، ومسلم: كتاب الأيمان والنذور، باب إطعام المملوك مما يأكل (1661).
[3] ابن ماجه عن عبد الله بن عمر (2443)، وقال الألباني: صحيح. انظر: مشكاة المصابيح (2987).
[4] البخاري عن أبي هريرة: كتاب البيوع، باب إثم من باع حُرًّا (2114)، وابن ماجه (2442)، وأبو يعلى (6436).
[5] صحيح ابن حبان عن عمرو بن حريث (4314)، وأبو يعلى (1472)، وقال حسين سليم أسد: رجاله ثقات.
[6] البخاري: الأدب المفرد 2/321 (568)، والبيهقي: شعب الإيمان (8188)، وقال الألباني: حسن. انظر: صحيح الجامع (5527).
[7] مسلم: كتاب الفضائل، باب مباعدته r للآثام... (2328)، وأبو داود (4786)، وابن ماجه (1984).
[8] مسلم: كتاب الأيمان، باب صحبة المماليك وكفارة من لطم عبده (1659)، وأبو داود (5159)، والترمذي (1948)، وأحمد (22404)، والبخاري: الأدب المفرد 1/264 (173)، والطبراني: المعجم الكبير (683).
[9] مسلم: كتاب الفضائل، باب كان رسول الله صلى الله عليه وسلم أحسن الناس خُلُقًا (2310)، وأبو داود (4773).
[10] أحمد (16627)، والحاكم (2718) وقال: هذا حديث صحيح على شرط مسلم ولم يخرجاه. والطيالسي (1173).
[11] البخاري عن أنس بن مالك: كتاب الجنائز، إذا أسلم الصبي فمات؛ هل يُصَلَّى عليه، وهل يُعْرَض على الصبي الإسلام (1290).

يتبع

عن موقع قصة الإسلام






 
قديم 07-06-10, 05:56 PM   رقم المشاركة : 9
Nabil48
عضو ماسي







Nabil48 غير متصل

Nabil48 is on a distinguished road


سلسلة الحقوق في المجتمع الإسلامي/حرية النفس/د.راغب السرجاني

سلسلة الحقوق في المجتمع الإسلامي

حرية النفس وعتق العبيد في الإسلام

الدكتور راغب السرجاني

جاء الإسلام ليرُدَّ للبشر -على اختلاف أجناسهم وألوانهم- كرامتهم، فساوى بين بني البشر جميعًا، وجعل مبدأ التقوى هو عِلَّة المفاضلة بينهم، وحَطَّمَ الرسول صلى الله عليه وسلم بعد فتح مكة فوارق اللون والجنس، وقضى على التمييز العنصري قضاءً تامًّا؛ عندما رفع بلالَ بن رباح على ظهر الكعبة صادحًا بكلمة التوحيد، وآخى قبل ذلك بين عَمِّه حمزة ومولاه زَيْدٍ.

حجة الوداع ومبدأ المساواة

وفي حجَّة الوداع أعلن رسول الله صلى الله عليه وسلم مبدأ المساواة، فقال: "أَنْتُمْ بَنُو آدَمَ وَآدَمُ مِنْ تُرَابٍ، وَأَنَّهُ لا فَضْلَ لِعَرَبِيٍّ عَلَى أَعْجَمِيٍّ، وَلا أَسْوَدَ عَلَى أَحْمَرَ، وَلا أَحْمَرَ عَلَى أَسْوَدَ إِلاَّ بِالتَّقْوَى"[1]. فكانت الدعوة إلى حرية النفس، وإلى القضاء على العبودية.
فالأصل في الإسلام أن الناس أحرار وليسوا عبيدًا، وذلك بحكم انتمائهم لأبٍ واحد، وبطبيعة ولادتهم هم أحرار.. وقد جاء الإسلام بإقرار هذا الأصل في زمنٍ كان الناس فيه مُسْتَعْبَدِينَ، وقد ذاقوا من أصناف الذُّلِّ والاستعباد ألوانًا!

الإسلام وعتق العبيد

عاشت البشريَّة قبل ظهور الإسلام في ظِلِّ مجتمعات وحضارات تشوبها نُظُمُ المواطنة الباغية، المستندة إلى النظرة القبليَّة الضيِّقة الأفق، والتباين الطبقي الصارخ الذي يُقَسِّم الجماعات الإنسانية إلى طبقات مُتَعَدِّدَة، يَتَرَبَّع على قِمَّتِهَا الأحرار المتمتِّعون بكافَّة حقوق السيادة والسلطان، ويُسْحَقُ العبيدُ -مسلوبو حقِّ الحرية والعيش الكريم- تحتها دون رحمة أو شفقة.
وجاء الإسلام يحضُّ المؤمنين على عتق العبيد، ويحسِّن إطلاقهم، ويُسَمِّيه منًّا وعفوًا، ويعتبر العتق من أَجَلِّ الأعمال، ويدعو المؤمنين إلى تحرير الأرقَّاءِ بأموالهم الخاصَّة، وجَعَلَ كَفَّارة ظلم المملوك أو ضربه إعتاقه، وندب عتق المملوك، وجعل تحريره كفَّارة لجناية القتل الخطأ، والظهار، والحنث في اليمين، والإفطار في رمضان، وأمر بمساعدة من طلب المكاتبة من الأرقَّاء، وجَعَلَ في الرقاب أَحَدَ مصارف الزكاة، وحرَّر أُمَّ الولد بعد وفاة سيِّدِهَا.

خطة الإسلام في معالجة مشكلة الرق

ويمكن تلخيص خُطَّة الإسلام الحكيمة في معالجة مشكلة الرق -هذه المشكلة الإنسانيَّة- في نقاط ثلاث؛
أوَّلها: أنه سَدَّ منابع الرقِّ وحَرَّمه سوى رِقِّ الحرب.
وثانيها: أنه وسَّع مصارف العتق.
وثالثها: أنه صان حقوق الرقيق بعد الإعتاق.

فقد جاء التشريع الإسلامي بحثِّ المجتمع المسلم الناشئ على عتق العبيد وتحريرهم، واعدًا إيَّاهم بالجزاء العظيم في الآخرة؛ فعن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "مَنْ أَعْتَقَ رَقَبَةً أَعْتَقَ اللهُ بِكُلِّ عُضْوٍ مِنْهَا عُضْوًا مِنْ أَعْضَائِهِ مِنَ النَّارِ حَتَّى فَرْجَهُ بِفَرْجِهِ"[2].

وقد رغَّب النبي صلى الله عليه وسلم في عِتق الأَمَةِ وتزوُّجها، فيُروى عن أبي موسى الأشعري رضي الله عنه أنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "أَيُّمَا رَجُلٍ كَانَتْ عِنْدَهُ وَلِيدَةٌ فَعَلَّمَهَا فَأَحْسَنَ تَعْلِيمَهَا، وَأَدَّبَهَا فَأَحْسَنَ تَأْدِيبَهَا، ثُمَّ أَعْتَقَهَا وَتَزَوَّجَهَا فَلَهُ أَجْرَانِ..." [3]. وقد أعتق الرسول صلى الله عليه وسلم السيدة صفيَّة بنت حُيَيِّ بن أخطب، وجعل عتقها صداقها[4].

وقد كانت وصايا الرسول صلى الله عليه وسلم بالعبيد مِفتاحًا من مفاتيح تأهيل المجتمع لتقَبُّل تحريرهم وعتقهم، فقد حضَّ الرسول صلى الله عليه وسلم على المعاملة الحسنة لهم، حتى لو كان ذلك في الألفاظ والتعبيرات فقال: "لاَ يَقُولَنَّ أَحَدُكُمْ: عَبْدِي وَأَمَتِي. كُلُّكُمْ عَبِيدُ اللهِ، وَكُلُّ نِسَائِكُمْ إِمَاءُ اللهِ، وَلَكِنْ لِيَقُلْ: غُلاَمِي وَجَارِيَتِي، وَفَتَايَ وَفَتَاتِي"[5].

كما أوجب الإسلام إطعام العبيد وإلباسهم من نفس طعام ولباس أهل البيت، وألاَّ يُكَلَّفوا ما لا يطيقون؛ فيَرْوِي جابرُ بن عبد الله فيقول: كان النبي صلى الله عليه وسلم يوصي بالمملوكين خيرًا، ويقول: "... أَطْعِمُوهُمْ مِمَّا تَأْكُلُونَ، وَأَلْبِسُوهُمْ مِنْ لَبُوسِكُمْ، وَلا تُعَذِّبُوا خَلْقَ اللهِ تعالى..."[6]. وغير ذلك من الحقوق التي جَعَلَتْ من العبد كائنًا إنسانيًّا له كرامة لا يجوز الاعتداء عليها.

وفي مرحلة أخرى مهمَّة جعل الإسلام عقوبة تعذيب العبيد وضربهم العتق والتحرُّر؛ لينتقل بالمجتمع إلى مرحلة التحرُّر الواقعي، فيُرْوَى أن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما كان قد ضرب غلامًا له، فدعاه فرأى بظهره أثرًا، فقال له: أوجعتُك؟ قال: لا. قال: فأنت عتيق. قال: ثمَّ أخذ شيئًا من الأرض، فقال: ما لي فيه من الأجر ما يزن هذا، إنِّي سمعتُ رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "مَنْ ضَرَبَ غُلاَمًا لَهُ حَدًّا لَمْ يَأْتِهِ، أَوْ لَطَمَهُ؛ فَإِنَّ كَفَّارَتَهُ أَنْ يُعْتِقَهُ"[7].

وجعل الإسلامُ أيضًا التلفُّظَ بالعتق من العبارات التي لا تحتمل إلاَّ التنفيذ الفوري، فقال الرسول صلى الله عليه وسلم في ذلك: "ثَلاثٌ جَدُّهُنَّ جَدٌّ وَهَزْلُهُنَّ جَدٌّ: الطَّلاقُ وَالنِّكَاحُ وَالْعِتَاقُ"[8].

كما جعل الإسلام عتق العبيد وسيلة من وسائل التكفير عن الخطايا والآثام؛ وذلك للعمل على تحرير أكبر عدد ممكن منهم، فالذنوب لا تنقطع، وكُلُّ ابن آدم خطَّاء، وفي ذلك يقول الرسول صلى الله عليه وسلم: "أَيُّمَا امْرِئٍ مُسْلِمٍ أَعْتَقَ امْرَأً مُسْلِمًا كَانَ فَكَاكَهُ مِنَ النَّارِ؛ يُجْزِئُ كُلُّ عُضْوٍ مِنْهُ عُضْوًا مِنْهُ، وَأَيُّمَا امْرِئٍ مُسْلِمٍ أَعْتَقَ امْرَأَتَيْنِ مُسْلِمَتَيْنِ كَانَتَا فَكَاكَهُ مِنَ النَّارِ؛ يُجْزِئُ كُلُّ عُضْوٍ مِنْهُمَا عُضْوًا مِنْهُ، وَأَيُّمَا امْرَأَةٍ مُسْلِمَةٍ أَعْتَقَتِ امْرَأَةً مُسْلِمَةً كَانَتْ فَكَاكَهَا مِنَ النَّارِ؛ يُجْزِئُ كُلُّ عُضْوٍ مِنْهَا عُضْوًا مِنْهَا"[9].

وقد مكَّن الإسلامُ العبيد من استعادة حُرِّيَّتهم بالمكاتبة، وهي أن يُمْنَح العبدُ حُرِّيَّته مقابل مبلغ من المال يتَّفق عليه مع سيِّده، وأوجب أيضًا إعانته؛ لأن الأصل هو الحرِّيَّة، أمَّا العبوديَّة فطارئة، فكان الرسول صلى الله عليه وسلم القدوة في ذلك؛ حيث أدَّى عن جُوَيْرِيَة بنت الحارث ما كُوتبت عليه وتزوَّجها، فلمَّا سمع المسلمون بزواجه منها أَعْتَقُوا ما بأيديهم من السبي، وقالوا: أصهار رسول الله صلى الله عليه وسلم. فأُعتق بسببها مائة أهل بيت من بني المصطلق[10].
وأكثر من ذلك، حيث شرع الإسلام عتق العبيد من مصارف الزكاة؛ فقال الله تعالى: { إِنَّمَا الصَّدَقَاتُ لِلْفُقَرَاءِ وَالْمَسَاكِينِ وَالْعَامِلِينَ عَلَيْهَا وَالْمُؤَلَّفَةِ قُلُوبُهُمْ وَفِي الرِّقَابِ } [التوبة: 60].

وقد ورد أن الرسول صلى الله عليه وسلم أعتق 63 نسمة، وأعتقت عائشة -رضي الله عنها- 69 نسمة، وأعتق أبو بكر رضي الله عنه كثيرًا، وأعتق العباس رضي الله عنه سبعين عبدًا، وأعتق عثمان رضي الله عنه عشرين، وأعتق حكيم بن حزام رضي الله عنه مائة، وأعتق عبد الله بن عمر -رضي الله عنهما- ألفًا، وأعتق عبد الرحمن بن عوف رضي الله عنه ثلاثين ألف نسمة[11].

وقد نجحت هذه السياسة الإسلامية في تقليل تجارة الرق كثيرًا، حتى توقفت تمامًا بعد ذلك، بل إنه في العهود الإسلامية المتأخرة ارتقى الإسلام بالأرقاء من العبودية إلى قمة السلطة السياسية والعسكرية. ولعلَّ خير مثال على ذلك هو حكم دولة المماليك لقطاع كبير من الأمة الإسلامية لمدة قاربت الثلاثمائة عام! وليس لهذا -دون شك- مثيل في تاريخ الدنيا.

الهوامش:

[1] أحمد (23536) وقال شعيب الأرناءوط: إسناده صحيح. والطبراني: المعجم الكبير (14444)، والبيهقي: شعب الإيمان (4921)، وقال الألباني: صحيح. انظر: السلسلة الصحيحة (2700).
[2] البخاري: كتاب كفارات الأيمان، باب قول الله تعالى: "أَوْ تَحْرِيرُ رَقَبَةٍ" وأي الرقاب أزكى (6337)، ومسلم: كتاب العتق، باب فضل العتق (1509).
[3] البخاري: كتاب النكاح، باب اتخاذ السراري... (4795).
[4] البخاري: كتاب المغازي، باب غزوة خيبر (3965)، ومسلم: كتاب النكاح، باب فضيلة إعتاق أمة ثم يتزوجها (1365).
[5] البخاري عن أبي هريرة: كتاب العتق، باب كراهية التطاول على الرقيق وقوله: عبدي وأَمَتي (2414)، ومسلم: كتاب الألفاظ من الأدب وغيرها، باب حكم إطلاق لفظ العبد والأَمَة (2249).
[6] مسلم: كتاب الأيمان، باب إطعام المملوك مما يأكل... (1661)، وأحمد (21521)، والبخاري: الأدب المفرد 1/76 واللفظ له.
[7] مسلم: كتاب الأيمان، باب صحبة المماليك، وكفارة من لطم عبده (1657)، وأبو داود (5168)، وأحمد (5051).
[8] مسند الحارث (503)، رواه البيهقي عن عمر بن الخطاب موقوفًا 7/341.
[9] مسلم: كتاب العتق، باب فضل العتق (1509)، والترمذي عن أبي أمامة (1547)، واللفظ له، وابن ماجه (2522).
[10] الصالحي الشامي: سبل الهدى والرشاد 11/210، والسهيلي: الروض الأنف 4/18، وابن كثير: السيرة النبوية 3/303.
[11] أحصى ذلك الكتاني في كتابه: التراتيب الإدارية ص94، 95.

يتبع

عن موقع قصة الإسلام






 
قديم 13-06-10, 06:51 PM   رقم المشاركة : 10
Nabil48
عضو ماسي







Nabil48 غير متصل

Nabil48 is on a distinguished road


سلسلة الحقوق في المجتمع الإسلامي/المرضى/د.راغب السرجاني

سلسلة الحقوق في المجتمع الإسلامي

المرضى والبعد الإنساني في الحضارة الإسلامية

الدكتور راغب السرجاني


هناك بعد رائع تميز به الأداء الطبي عند المسلمين في زمن حضارتهم، ذلكم هو البعد الإنساني، والذي يكمن في احترام الإنسان بصفة عامَّة, والسعي الحثيث لرفع المعاناة والألم والحرج عنه، أيًّا كان هذا الإنسان, وأيًّا كانت معاناته.

المنهج الأخلاقي في التشريع الإسلامي

ولم يكن غريبًا على أطباء المسلمين أن يهتموا بالبُعْدِ الإنساني في تعاملهم مع المريض؛ لأن قوانين التشريع الإسلامي تنطق بهذا النهج الأخلاقي الفريد؛ فالإسلام ينظر إلى المريض على أنه إنسان في أزمة، ومن ثَمَّ يحتاج إلى مَنْ يقف إلى جواره، ويأخذ بيده، ويرفع من معنوياته، ويهدِّئُ من روعه، ويخفِّفُ عن آلامه الجسديَّة، فضلاً عن المعنوية.
فالتشريع الإسلامي يسعى إلى رفع الحرج عن المريض بكل وسيلة، ويخفِّفُ عنه الأعباء إلى أقصى درجة؛ فجعل للمريض رخصة الإفطار في رمضان، وإنْ عَاقَهُ اعتلال صحَّته عن الحجِّ فلا حجَّ عليه، وليس عليه إثم، كما أن المريض الذي لا يستطيع الصلاة على صورتها الطبيعية يُعطى رخصة الصلاة في أوضاع تناسبه جالسًا أو نائمًا، أو حتى بِعَيْنَيْهِ! والمريض الذي يضرُّه الماء في الوضوء يتيَمَّمُ، والذي لا يستطيع الوضوء ولا التيمُّم لسبب ما يُصَلِّي دون أيٍّ منهما، ويُسَمَّى فَاقِدَ الطَّهُورَيْنِ!
بل إن التشريع الإسلامي لم يكتفِ برفع بعض التكاليف، والترخيص في بعض العبادات والفروض، وإنما يحضُّ وبشدَّة على الوقوف إلى جوار المريض، ورفع رُوحه المعنوية إلى أقصى درجة؛ فجعل رسول الله صلى الله عليه وسلم زيارة المريض وعيادته في بيته، أو في المستشفى حقًّا له على المسلمين، فقال فيما رواه أبو هريرة رضي الله عنه : "حَقُّ الْـمُسْلِمِ عَلَى الْـمُسْلِمِ سِتٌّ...". وذكر منها: "وَإِذَا مَرِضَ فَعُدْهُ"[1]. ثم بَشَّر بالجنة نصيبًا لمن عاد مريضًا، فقال فيما رواه أبو هريرة رضي الله عنه: "مَنْ عَادَ مَرِيضًا نَادَى مُنَادٍ مِنَ السَّمَاءِ: طِبْتَ وَطَابَ مَمْشَاكَ، وَتَبَوَّأْتَ مِنَ الْـجَنَّةِ مَنْزِلاً"[2].
وأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم أن تذكر الخير عند المريض، وأن ترفع من روحه المعنوية، وتُطْمِعَهُ في الشفاء وفي طول العمر، فقد روى أبو سعيد الخدري رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "إِذَا دَخَلْتُمْ عَلَى الْـمَرِيضِ فَنَفِّسُوا لَهُ فِي الأَجَلِ[3]؛ فَإِنَّ ذَلِكَ لاَ يَرُدُّ شَيْئًا، وَهُوَ يَطِيبُ بِنَفْسِ الْـمَرِيضِ"[4].
بل إن رسول الله صلى الله عليه وسلم يرتفع برُوح المريض المعنوية إلى السماء عندما يخبره أن هذا المرض هو كفارة لذنوبه، وهو مدعاة لنجاته في الآخرة إن صبر، فقد روى أبو هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "مَا يُصِيبُ الْـمُسْلِمَ مِنْ نَصَبٍ وَلاَ وَصَبٍ، وَلاَ هَمٍّ وَلاَ حُزْنٍ، وَلاَ أَذًى وَلاَ غَمٍّ، حَتَّى الشَّوْكَةِ يُشَاكُهَا إِلاَّ كَفَّرَ اللهُ بِهَا مِنْ خَطَايَاهُ"[5]. ويقول فيما رواه أنس رضي الله عنه: "إِنَّ اللهَ قَالَ: إِذَا ابْتَلَيْتُ عَبْدِي بِحَبِيبَتَيْهِ[6] فَصَبَرَ، عَوَّضْتُهُ مِنْهُمَا الْـجَنَّةَ"[7].
وهكذا ترتفع معنويات المريض المؤمن إلى السماء، ولا يشعر بأنه أصبح كمًّا عاجزًا مهملاً في المجتمع، بل إن الجميع يهتم به ويرعاه.

تعامل الرسول صلى الله عليه وسلم مع المرضى

فنجد النبي صلى الله عليه وسلم كان إذا سمع بمريض أسرع لعيادته في بيته؛ مع كثرة همومه ومشاغله، ولم تكن زيارته هذه مُتكَلَّفة أو اضطراريَّة، وإنما كان يَشعر بواجبه ناحية هذا المريض.. كيف لا وهو الذي جعل زيارة المريض حقًّا من حقوقه؟! فقال صلى الله عليه وسلم: "حَقُّ الْـمُسْلِمِ عَلَى الْـمُسْلِمِ خَمْسٌ... وَعِيَادَةُ الْـمَرِيضِ..."[8].
فكان صلى الله عليه وسلم -وهو المُرَبِّي والقدوة- يُهَوِّن على المريض أزمته ومرضه، ويُظهِر له - دون تَكَلُّف - مُوَاساته له، وحرصه عليه، وحبَّه له، فيُسعد ذلك المريضَ وأهلَه، وفي ذلك يروي عبد الله بن عمر رضي الله عنهما فيقول: اشتكى سعد بن عبادة رضي الله عنه شكوى له، فأتاه النبي صلى الله عليه وسلم يعوده مع عبد الرحمن بن عوف، وسعد بن أبي وقاص، وعبد الله بن مسعود رضي الله عنهم، فلما دخل عليه فوجده في غاشية أهله[9]، فقال: "قَدْ قَضَى ؟". قالوا: لا يا رسول الله. فبكى النبي صلى الله عليه وسلم ، فلما رأى القوم بكاء النبي صلى الله عليه وسلم بَكَوْا، فقال: "أَلاَ تَسْمَعُونَ ؟! إِنَّ اللهَ لاَ يُعَذِّبُ بِدَمْعِ الْعَيْنِ وَلاَ بِحُزْنِ الْقَلْبِ؛ وَلَكِنْ يُعَذِّبُ بِهَذَا -وَأَشَارَ إِلَى لِسَانِهِ- أَوْ يَرْحَمُ[10]"[11].
كما كان يدعو للمريض ويُبشِّره بالأجر والمثوبة نتيجة المرض الذي لحق به؛ فيُهَوِّن بذلك عليه الأمر، ويُرْضيه به؛ تروي أُمُّ العلاء[12] فتقول: عادني رسول الله وأنا مريضة، فقال: "أَبْشِرِي يَا أُمَّ الْعَلاَءِ، فَإِنَّ مَرَضَ الْـمُسْلِمِ يُذْهِبُ اللهُ بِهِ خَطَايَاهُ كَمَا تُذْهِبُ النَّارُ خَبَثَ الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ"[13].
وكان الرسول صلى الله عليه وسلم حريصًا على أن يُخَفِّف عن المريض وألاَّ يشقَّ عليه، وقد روى في ذلك جابر بن عبد الله رضي الله عنه فقال: خرجنا في سفر فأصاب رجلاً منا حجرٌ، فشجَّه في رأسه، ثم احتلم، فسأل أصحابه، فقال: هل تجدون لي رخصة في التَّيَمُّم؟ فقالوا: ما نجد لك رخصة وأنت تقدر على الماء. فاغتسل فمات؛ فلمَّا قدمنا على النبي صلى الله عليه وسلم أُخبِرَ بذلك، فقال: "قَتَلُوهُ قَتَلَهُمُ اللهُ، أَلاَ سَأَلُوا إِذْ لَمْ يَعْلَمُوا؛ فَإِنَّمَا شِفَاءُ الْعِيِّ السُّؤَالُ[14]، إِنَّمَا كَانَ يَكْفِيهِ أَنْ يَتَيَمَّمَ وَيَعْصِرَ أَوْ يَعْصِبَ -شَكَّ أحد رُوَاة الحديث- عَلَى جُرْحِهِ خِرْقَةً، ثُمَّ يَمْسَحَ عَلَيْهَا وَيَغْسِلَ سَائِرَ جَسَدِهِ"[15].
بل إنه صلى الله عليه وسلم كان يُلَبِّي حاجة المريض، ويسير معه حتى يقضي حاجته، ولقد جاءته ذات مرَّة امرأة في عقلها شيء، فقالت: يا رسول الله، إن لي إليك حاجة. فقال: "يَا أُمَّ فُلانٍ، انْظُرِي أَيَّ السِّكَكِ شِئْتِ؛ حَتَّى أَقْضِيَ لَكِ حَاجَتَكِ". فخلا معها[16] في بعض الطرق حتى فرغت من حاجتها[17].
كما جعل النبي صلى الله عليه وسلم للمرضى وذوي الاحتياجات الخاصَّة الحقَّ في التداوي؛ لأن سلامةَ البدن ظاهرًا وباطنًا مقصدٌ من مقاصد الإسلام؛ لذلك قال صلى الله عليه وسلم للأعراب عندما سألوه عن التداوي: "تَدَاوَوْا عِبَادَ اللهِ، فَإِنَّ اللهَ تعالى لَمْ يَضَعْ دَاءً إِلا وَضَعَ لَهُ دَوَاءً إِلا الْهَرَمَ"[18].
كذلك لم يكن يمانع أن تعالِج المرأةُ المسلمة رجلاً من المسلمين؛ حيث جَعَلَ صلى الله عليه وسلم رُفَيْدة رضي الله عنها -وهي امرأة من قبيلة أسلم- تعالِج سعد بن معاذ رضي الله عنه حين أصابه سهم بالخندق، وكانت -رضي الله عنها- تُداوي الجرحى، وتحتسب بنفسها على خدمة من كانت به ضيعة من المسلمين[19].
وفي صورة تطبيقية، كان الرسول صلى الله عليه وسلم يتعامل مع عمرو بن الجموح رضي الله عنه رضي الله عنه تعاملاً راقيًا، وكان عمرو من ذوي الاحتياجات الخاصَّة، إذ كان أَعْرَج شديد العَرَج، وقد حدث أن بنيه الأربعة الذين كانوا يشهدون المشاهد مع رسول الله صلى الله عليه وسلم ، أرادوا حبسه يوم أُحُدٍ، فأتى عمرو بن الجموح رضي الله عنه رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: إن بنيَّ يريدون أن يحبسوني عن هذا الوجه، والخروج معك فيه، فوالله إني لأرجو أن أطأ بعرجتي هذه في الجنة. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم مخاطبًا عَمْرًا: "أَمَّا أَنْتَ فَقَدْ عَذرَكَ اللهُ فَلا جِهَادَ عَلَيْكَ". وقال لبنيه: "مَا عَلَيْكُمْ أَلاَّ تَمْنَعُوهُ، لَعَلَّ اللهُ يَرْزُقُهُ شَهَادَةً". فخرج مع النبي صلى الله عليه وسلم فقُتِلَ يوم أُحُدٍ، ثم قال صلى الله عليه وسلم عنه: "وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ! إِنَّ مِنْكُمْ مَنْ لَوْ أَقْسَمَ عَلَى اللهِ لأَبَرَّهُ، مِنْهُمْ: عَمْرُو بْنُ الْـجَمُوحِ، وَلَقَدْ رَأَيْتُهُ يَطَأُ فِي الْـجَنَّة بِعَرْجَتِهِ"[20].

البعد الإنساني الراقي في الإسلام

لم يكن البعد الإنساني الراقي في تعامل الإسلام مع المرضي مقتصرا على المرضى المسلمين فقط، بل كانت لأي إنسان مريض مهما كانت ديانته، وذلك انطلاقًا من الآية الكريمة: { وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِي آدَمَ } [الإسراء: 70]. فالإنسان بصفة عامة مُكرَّم؛ ولذلك نهتمُّ برعايته حين مرضه، وبعلاجه إذا اشتكى ولو لم يكن مسلمًا، وقد زار رسول الله صلى الله عليه وسلم غلامًا يهوديًّا عندما مرض[21]، وأفرد البخاري لذلك بابًا خاصًّا في صحيحه فقال: "باب عيادة المشرك".
هذا البُعْدُ الإنساني العميق الذي زرعه فينا الشرع الإسلامي الحنيف جعل الأطباء المسلمين في كل عصور الحضارة الإسلامية يتعاملون مع المريض على أنه إنسان، وليس على أنه (شيء لا إحساس له)، ولا على أساس أنه مصدر للرزق عن طريق أخذ الأجر منه، بل كان التعامل معه دائمًا على أنه إنسان في أزمة، ويحتاج إلى من يقف إلى جواره، وليست المساعدة طبية فقط، ولكن تتعدَّى ذلك إلى المساعدة النفسية والاجتماعية والاقتصادية، وغير ذلك.
وبهذه الروح النبيلة تعامل الأطباء المسلمون مع مرضاهم، فكانت الخدمة الطبية الراقية تُقَدَّم للمرضى في الدولة الإسلامية دون تفرقة بين غني أو فقير، ولا بين عربي أو غير عربي، ولا بين أبيض أو أسود، ولا بين حاكم ولا محكوم، ولا بين مسلم أو غير مسلم، ففي معظم الأحيان كان العلاج مجانيًّا للجميع، وكان المرضى ينعمون في نفس المستوى من الخدمة أيًّا كان مستواهم.

ولنطلع معًا على طرف من نظام المستشفيات في الحضارة الإسلامية، والذي يعطي انطباعًا عن البعد الإنساني الذي نقصده:

فبمجرَّدِ دخول المريض للمستشفى يُفحص أوَّلاً بالقاعة الخارجية، فإن كان به مرض خفيف يُكتب له العلاج، ويُصرف من صيدلية المستشفى، وإن كانت حالته المرضية تستوجب دخوله المستشفى كان يُقَيِّد اسمه، ويُدخل إلى الحمام للاغتسال، وتُخلع عنه ثيابه التي دخل بها فتوضع في مخزن خاصٍّ، ثم يُعْطَى ثيابًا جديدة خاصة للمستشفى، ويُدخل إلى القاعة المخصَّصَة لأمثاله من المرضى، ويخصَّص له سرير مفروش بأثاث جيد، ولا يُسمح بوجود مريض آخر معه في نفس السرير مراعاة لنفسيته.
وبعد دخول المريض للمستشفى الإسلامي يُعطى الدواء الذي يُعَيِّنُه الطبيب، كما يُوصَف له الغذاء الموافق لصحَّتِه، وبالمقدار المفروض له، ولم يكن يُضَيَّقُ أبدًا على المرضى في نوع الطعام الذي يأكلونه، بل كان يُقَدَّمُ لهم أطايب الطعام؛ فقد كان غذاء المرضى يحتوي على لحوم الأغنام، والأبقار، والطيور، والدجاج، كذلك لا يُضَيَّقُ عليهم أبدًا في كَمِّيَّات الطعام، بل كانت من علامات الشفاء أن يأكل المريض رغيفًا كاملاً ودجاجة كاملة في الوجبة الواحدة.
فإذا أصبح المريض في دَوْرِ النقاهة أُدْخِل القاعة المخصَّصة للناقهين، حتى إذا تمَّ شفاؤه أُعطِيَ ثيابًا جديدة دون أجر، وليس هذا فقط بل كان يُعْطَى مبلغًا من المال يكفيه إلى أن يصبح قادرًا على العمل! وذلك حتى لا يضطر إلى العمل في فترة النقاهة فتَحْدُث له انتكاسة[22]!
ولا تَسَلْ بَعْدُ عن مدى الطمأنينة التي ينعم بها الفقير في المجتمع الإسلامي عندما يعلم أنه إذا مَرِض فسيجد مثل هذا المستوى من الرعاية المجانية دون أن يحتاج إلى إراقة ماء وجهه، أو البحث عن وساطات، أو شفاعات لينال ما يستحقُّ من الاهتمام والعلاج، فضلاً عن مدِّ يده متسوِّلاً ليتمَّ علاجه!
وما أروع توجيه أَبي بكر الرازي لتلاميذه أن يكون هدفهم الأول إبراء مرضاهم أكثر من نيل أجورهم منهم، وأن يُعَالِجُوا الفقراء بمثل الاهتمام والعناية التي يُعَالِجُونَ بها الأمراء والأغنياء، وأن يُوهموا المرضى بالشفاء حتى لو كانوا هم أنفسهم لا يعتقدون بذلك؛ فمزاج الجسم تابع لأخلاق النفس[23].
ولم يكن هذا المستوى العالي من الرعاية الصحية مقصورًا على المدن والحواضر الكبرى, بل حظيت كل بقاع الدولة الإسلامية بذات الاهتمام؛ وذلك من خلال المستشفيات المتنقِّلَة التي أشرنا إليها سابقًا، والتي كانت تجوب القرى، والنجوع، والجبال، والمناطق النائية بصفة عامَّة، والشاهد هنا أنه كان يُنظر إلى رعايا الدولة المسلمة -في مجال الرعاية الطبية- نظرة متساوية بغضِّ النظر عن بيئاتهم، ومستوياتهم الاجتماعية أو الاقتصادية.
بل إن النظرة الإسلامية الرحيمة للمريض تعدَّتْ كل طبقات المجتمع السوية لتشمل نزلاء السجون ممن أساءوا لمجتمعهم! فهؤلاء أيضًا كانوا يَجِدُون الرعاية الطبية الكافية؛ فهم بَشَرٌ, ومن أبناء المجتمع على أي حال، وما يَنْزِلُ بهم من الحبس والعقاب إنما هو لإعادة إصلاحهم، لا للقضاء عليهم بالموت البطيء الذي يتعرَّض له نزلاء كثير من السجون في عالم اليوم.
وقد كتب الوزير علي بن عيسى بن الجراح إلى سنان بن ثابت رئيس أطباء بغداد: "... فكَّرْتُ في أمرِ مَنْ في الحبوس (السجون), وأنه لا يخلو مع كثرة عددهم وجفاء أماكنهم أن تنالهم الأمراض؛ فينبغي أن تُفرد لهم أطباء يدخلون إليهم كل يوم, وتُحمل إليهم الأدوية والأشربة, ويطوفون في سائر الحبوس، ويعالجون فيها المرضى"[24].
وما كان لهذا الفيض الإنساني أن يستمرَّ على مرِّ عصور الحضارة الإسلامية لولا ينابيع العطاء المتدَفِّقَة من قلوب أبناء الأُمَّة المسلمة والموازية لدعم الدولة نفسها، ونقصد هنا نظام الأوقاف الخيرية, وما كان يقوم به من دَوْرٍ في حُسن رعاية المرضى وإكرامهم؛ فقد كانت مستشفيات راقية بأكملها تعتمد على ريع وقف يرصده أحد المسلمين -بمن فيهم الحاكم نفسه- لتغطية كل احتياجات المستشفى بمرضاه، وأطبائه، ومفروشاته، وأغذيته، ونباتاته الطبية، وأدويته، إلى حدِّ الإنفاق على طلاب الطبِّ المتدرِّبِينَ في هذا المستشفى!
ولعلَّ من أشهر الأمثلة على ذلك المستشفى المنصوري الكبير الذي أسسه في القاهرة الملك المنصور سيف الدين قلاوون سنة (683هـ/ 1284م)، وأوقف عليه ما يغطي نفقاته سنويًّا، وقد سبقت الإشارة إليه.
وفي صدد ذِكر الأوقاف الخيرية وأثرها في تغطية الجانب الإنساني في الطبِّ عند المسلمين لا بُدَّ أن نشير هنا إلى بعض الصور المبتكَرَة وغير المسبوقة في التعامل الإنساني مع نفسية المريض؛ فقد كان رِيع بعض الأوقاف يُخَصَّص لتوظيف اثنين يمرَّان بالمستشفيات يوميًّا, فيتحدَّثَان بجانب المرضى حديثًا خافتًا يَسْمَعُه المريض دون أن يراهما؛ يُوحِيَان إليه من خلال حديثهما بتحسُّن حاله! فيما كان يُعْرَف (بوقف خداع المريض)! وذلك لترتفع معنوياته، وبالتالي يتماثل للشفاء بصورة أسرع[25]!
ولم يكن ذلك البُعْدُ الإنساني الراقي في التعامل مع المرضى سلوكًا فرديًّا يمارسه بعض الأطباء, ولا كان مجرَّد حُبٍّ شعبي للخير والرحمة ينبع من قلوب العامَّة، بل كان سلوكًا عامًّا تتبنَّاه سياسات الدولة, وينتهجه أفراد الأُمَّة حُكَّامًا ومحكومين؛ فكثيرًا ما كان الخليفة أو الأمير يتفقَّد بنفسه المرضى ويُشْرِفُ على حُسْنِ معاملتهم، ويُذكر هنا أن المنصُور الموحدي (ملك دولة الموحدين بالمغرب) كانت له زيارة أسبوعية للمستشفى (المنصوري) بمَرَّاكش بعد صـلاة الجمعة من كل أسبوع؛ يطمئن فيها بنفسه على أحوال المرضى[26].

ومن الجوانب الإنسانية في تعامل الطب الإسلامي مع المرضى ما اشتملت عليه شريعة الإسلام من آداب تحفظ كرامة المريض، وتصون حياءه, وتضمن سير مراحل الفحص والعلاج دون انتهاك لخصوصياته.

ففي الشريعة الإسلامية لا يجوز -مثلاً- كشف عورة المريض إلاَّ لضرورة, وبالقَدْرِ المطلوب فقط في الفحص أو الجراحة، وما إلى ذلك، كما لا يجوز أن يَشْهَدَ فحص المريض أو المريضة شخص غير ذي صفة -وخاصة إذا كان من جنس مختلف- إلى جانب عدم جواز خلوة الطبيب بمريضة من النساء، إلاَّ مع وجود ذي مَحْرم لها, أو وجود امرأة أخرى كالممرضة مثلاً، كذلك راعت المستشفيات في الحضارة الإسلامية الفصل في أقسامها الداخلية بين الرجال والنساء.

وكان من الجوانب الإنسانية في تعامل الطبِّ الإسلامي مع المرضى كذلك، أن الشرع راعى حقوق المريض في العلاج؛ بأن سمح للطبيب الرجل أن يعالج المرأة، والعكس كذلك؛ وذلك إن لم يوجد البديل الكفء من نفس الجنس، والذي يستطيع أن يقوم بالمهمة على الوجه الأكمل؛ وذلك حتى لا يفوت على المريض -رجلاً كان أو امرأة- فرصة العلاج الصحيح، بل إن الشرع أجاز كذلك أن يبحث المريض المسلم عن العلاج عند الأطباء غير المسلمين إن تعذَّر وجود من يستطيع علاجه من المسلمين، وذلك حفاظًا على صحة المريض وحياته.

الهوامش:

[1] البخاري: كتاب الجنائز، باب الأمر باتباع الجنائز (1183)، ومسلم: كتاب السلام، باب حق المسلم للمسلم (2162) واللفظ له.
[2] الترمذي: كتاب البر والصلة، باب زيارة الإخوان (2008) وقال: هذا حديث حسن غريب، وابن ماجه (1443)، وأحمد (8517)، وابن حبان (2961)، وحسنه الألباني. انظر: صحيح الجامع (6387).
[3] نَفِّسُوا لَهُ فِي الأَجَلِ: أي ارفعوا من أمله في الشفاء وطول الأجل. انظر: ابن حجر العسقلاني: فتح الباري 10/121، 122، والمباركفوري: تحفة الأحوذي بشرح جامع الترمذي 6/263.
[4] الترمذي: كتاب الطب (2087) وقال: حديث غريب، وابن ماجه (1438)، وابن أبي شيبة (10851)، والبيهقي في شعب الإيمان (9213)، وأبو نعيم في الحلية 2/208.
[5] البخاري: كتاب المرضى، باب ما جاء في ثواب المرض (5318)، ومسلم: كتاب البر والصلة والآداب، باب ثواب المؤمن فيما يصيبه من مرض أو حزن (2573).
[6] بحبيبتيه: أي بعينيه. انظر: ابن حجر العسقلاني: فتح الباري 10/116.
[7] البخاري: كتاب المرضى باب فضل من ذهب بصره (5329)، وأحمد (12490)، وأبو يعلى (3711)، والطبراني الأوسط (250)، والبيهقي: شعب الإيمان (9958).
[8] البخاري عن أبي هريرة: كتاب الجنائز، باب الأمر باتباع الجنائز (1183)، ومسلم في السلام، باب من حق المسلم للمسلم رد السلام (2162).
[9] غاشية أهله: أي الذين يغشونه للخدمة وغيرها. انظر: ابن حجر العسقلاني: فتح الباري 3/175.
[10] يُعَذِّبُ بهذا: أي إن قال سوءًا. أو يرحم: أي إن قال خيرًا. انظر: المصدر السابق.
[11] البخاري: كتاب الجنائز، باب البكاء عند المريض (1242)، ومسلم في الجنائز، باب البكاء على الميت (924).
[12] أم العلاء: أسلمت وبايعت النبي صلى الله عليه وسلم ، عمة حزام بن حكيم. انظر: ابن الأثير: أسد الغابة 7/405، وابن حجر العسقلاني: الإصابة الترجمة 8/265 (12176).
[13] أبو داود: كتاب الجنائز، باب عيادة النساء (3092)، وصححه الألباني، انظر: صحيح الجامع (7851).
[14] شفاء العي أي: يسألوا حين لم يعلموا؛ لأن شفاء الجهل السؤال. انظر: العظيم آبادي: عون المعبود 1/368.
[15] أبو داود: كتاب الطهارة، باب في المجروح يتيمم (336)، وابن ماجه (572)، وأحمد (3057)، والدارمي (752)، والدارقطني (3)، والبيهقي في سننه الكبرى (1016)، وصححه الألباني، انظر: صحيح الجامع (4362).
[16] أي وقف معها في طريق مسلوك ليقضي حاجتها ويفتيها في الخلوة، ولم يكن ذلك من الخلوة بالأجنبية؛ فإن هذا كان في ممرِّ الناس ومشاهدتهم إيَّاه وإيَّاها، لكن لا يسمعون كلامها؛ لأن مسألتها ممَّا لا يظهره. انظر: النووي: المنهاج في شرح صحيح مسلم 15/83.
[17] مسلم عن أنس بن مالك: كتاب الفضائل، باب قرب النبي صلى الله عليه وسلم من الناس وتبركهم به (2326)، وأحمد (14078)، وابن حبان (4527).
[18] أبو داود: كتاب الطب، باب في الرجل يتداوى (3855)، والترمذي (2038) وقال: هذا حديث حسن صحيح. وابن ماجه (3436)، وأحمد (18477)، وقال شعيب الأرناءوط: إسناده صحيح رجاله ثقات رجال الشيخين..، وصححه الألباني، انظر: غاية المرام (292).
[19] البخاري: الأدب المفرد 1/385 (1129)، وابن هشام: السيرة النبوية 2/239، وابن كثير: السيرة النبوية 3/233، وقال الألباني: إسناده صحيح رجاله كلهم ثقات. انظر: السلسلة الصحيحة (1158).
[20] ابن حبان عن جابر بن عبد الله: كتاب إخباره صلى الله عليه وسلم عن مناقب الصحابة (7024)، وقال شعيب الأرناءوط: إسناده جيد. وابن سيد الناس: عيون الأثر 1/423، والصالحي الشامي: سبل الهدى والرشاد في سيرة خير العباد 4/214.
[21]انظر: البخاري عن أنس بن مالك: كتاب المرضى، باب عيادة المشرك (5333).
[22] مصطفى السباعي: من روائع حضارتنا ص110.
[23] عبد المنعم صفو: تعليم الطب عند العرب، أبحاث الندوة العلمية للجمعية السورية لتاريخ العلوم ص279.
[24] ابن القفطي: تاريخ الحكماء ص148.
[25] مصطفى السباعي: من روائع حضارتنا ص112.
[26] المصدر السابق ص116.

يتبع

بتصرف عن موقع قصة الإسلام


سلسلة الحقوق في المجتمع الإسلامي

المرضى والبعد الإنساني في الحضارة الإسلامية

الدكتور راغب السرجاني


هناك بعد رائع تميز به الأداء الطبي عند المسلمين في زمن حضارتهم، ذلكم هو البعد الإنساني، والذي يكمن في احترام الإنسان بصفة عامَّة, والسعي الحثيث لرفع المعاناة والألم والحرج عنه، أيًّا كان هذا الإنسان, وأيًّا كانت معاناته.

المنهج الأخلاقي في التشريع الإسلامي

ولم يكن غريبًا على أطباء المسلمين أن يهتموا بالبُعْدِ الإنساني في تعاملهم مع المريض؛ لأن قوانين التشريع الإسلامي تنطق بهذا النهج الأخلاقي الفريد؛ فالإسلام ينظر إلى المريض على أنه إنسان في أزمة، ومن ثَمَّ يحتاج إلى مَنْ يقف إلى جواره، ويأخذ بيده، ويرفع من معنوياته، ويهدِّئُ من روعه، ويخفِّفُ عن آلامه الجسديَّة، فضلاً عن المعنوية.
فالتشريع الإسلامي يسعى إلى رفع الحرج عن المريض بكل وسيلة، ويخفِّفُ عنه الأعباء إلى أقصى درجة؛ فجعل للمريض رخصة الإفطار في رمضان، وإنْ عَاقَهُ اعتلال صحَّته عن الحجِّ فلا حجَّ عليه، وليس عليه إثم، كما أن المريض الذي لا يستطيع الصلاة على صورتها الطبيعية يُعطى رخصة الصلاة في أوضاع تناسبه جالسًا أو نائمًا، أو حتى بِعَيْنَيْهِ! والمريض الذي يضرُّه الماء في الوضوء يتيَمَّمُ، والذي لا يستطيع الوضوء ولا التيمُّم لسبب ما يُصَلِّي دون أيٍّ منهما، ويُسَمَّى فَاقِدَ الطَّهُورَيْنِ!
بل إن التشريع الإسلامي لم يكتفِ برفع بعض التكاليف، والترخيص في بعض العبادات والفروض، وإنما يحضُّ وبشدَّة على الوقوف إلى جوار المريض، ورفع رُوحه المعنوية إلى أقصى درجة؛ فجعل رسول الله صلى الله عليه وسلم زيارة المريض وعيادته في بيته، أو في المستشفى حقًّا له على المسلمين، فقال فيما رواه أبو هريرة رضي الله عنه : "حَقُّ الْـمُسْلِمِ عَلَى الْـمُسْلِمِ سِتٌّ...". وذكر منها: "وَإِذَا مَرِضَ فَعُدْهُ"[1]. ثم بَشَّر بالجنة نصيبًا لمن عاد مريضًا، فقال فيما رواه أبو هريرة رضي الله عنه: "مَنْ عَادَ مَرِيضًا نَادَى مُنَادٍ مِنَ السَّمَاءِ: طِبْتَ وَطَابَ مَمْشَاكَ، وَتَبَوَّأْتَ مِنَ الْـجَنَّةِ مَنْزِلاً"[2].
وأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم أن تذكر الخير عند المريض، وأن ترفع من روحه المعنوية، وتُطْمِعَهُ في الشفاء وفي طول العمر، فقد روى أبو سعيد الخدري رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "إِذَا دَخَلْتُمْ عَلَى الْـمَرِيضِ فَنَفِّسُوا لَهُ فِي الأَجَلِ[3]؛ فَإِنَّ ذَلِكَ لاَ يَرُدُّ شَيْئًا، وَهُوَ يَطِيبُ بِنَفْسِ الْـمَرِيضِ"[4].
بل إن رسول الله صلى الله عليه وسلم يرتفع برُوح المريض المعنوية إلى السماء عندما يخبره أن هذا المرض هو كفارة لذنوبه، وهو مدعاة لنجاته في الآخرة إن صبر، فقد روى أبو هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "مَا يُصِيبُ الْـمُسْلِمَ مِنْ نَصَبٍ وَلاَ وَصَبٍ، وَلاَ هَمٍّ وَلاَ حُزْنٍ، وَلاَ أَذًى وَلاَ غَمٍّ، حَتَّى الشَّوْكَةِ يُشَاكُهَا إِلاَّ كَفَّرَ اللهُ بِهَا مِنْ خَطَايَاهُ"[5]. ويقول فيما رواه أنس رضي الله عنه: "إِنَّ اللهَ قَالَ: إِذَا ابْتَلَيْتُ عَبْدِي بِحَبِيبَتَيْهِ[6] فَصَبَرَ، عَوَّضْتُهُ مِنْهُمَا الْـجَنَّةَ"[7].
وهكذا ترتفع معنويات المريض المؤمن إلى السماء، ولا يشعر بأنه أصبح كمًّا عاجزًا مهملاً في المجتمع، بل إن الجميع يهتم به ويرعاه.

تعامل الرسول صلى الله عليه وسلم مع المرضى

فنجد النبي صلى الله عليه وسلم كان إذا سمع بمريض أسرع لعيادته في بيته؛ مع كثرة همومه ومشاغله، ولم تكن زيارته هذه مُتكَلَّفة أو اضطراريَّة، وإنما كان يَشعر بواجبه ناحية هذا المريض.. كيف لا وهو الذي جعل زيارة المريض حقًّا من حقوقه؟! فقال صلى الله عليه وسلم: "حَقُّ الْـمُسْلِمِ عَلَى الْـمُسْلِمِ خَمْسٌ... وَعِيَادَةُ الْـمَرِيضِ..."[8].
فكان صلى الله عليه وسلم -وهو المُرَبِّي والقدوة- يُهَوِّن على المريض أزمته ومرضه، ويُظهِر له - دون تَكَلُّف - مُوَاساته له، وحرصه عليه، وحبَّه له، فيُسعد ذلك المريضَ وأهلَه، وفي ذلك يروي عبد الله بن عمر رضي الله عنهما فيقول: اشتكى سعد بن عبادة رضي الله عنه شكوى له، فأتاه النبي صلى الله عليه وسلم يعوده مع عبد الرحمن بن عوف، وسعد بن أبي وقاص، وعبد الله بن مسعود رضي الله عنهم، فلما دخل عليه فوجده في غاشية أهله[9]، فقال: "قَدْ قَضَى ؟". قالوا: لا يا رسول الله. فبكى النبي صلى الله عليه وسلم ، فلما رأى القوم بكاء النبي صلى الله عليه وسلم بَكَوْا، فقال: "أَلاَ تَسْمَعُونَ ؟! إِنَّ اللهَ لاَ يُعَذِّبُ بِدَمْعِ الْعَيْنِ وَلاَ بِحُزْنِ الْقَلْبِ؛ وَلَكِنْ يُعَذِّبُ بِهَذَا -وَأَشَارَ إِلَى لِسَانِهِ- أَوْ يَرْحَمُ[10]"[11].
كما كان يدعو للمريض ويُبشِّره بالأجر والمثوبة نتيجة المرض الذي لحق به؛ فيُهَوِّن بذلك عليه الأمر، ويُرْضيه به؛ تروي أُمُّ العلاء[12] فتقول: عادني رسول الله وأنا مريضة، فقال: "أَبْشِرِي يَا أُمَّ الْعَلاَءِ، فَإِنَّ مَرَضَ الْـمُسْلِمِ يُذْهِبُ اللهُ بِهِ خَطَايَاهُ كَمَا تُذْهِبُ النَّارُ خَبَثَ الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ"[13].
وكان الرسول صلى الله عليه وسلم حريصًا على أن يُخَفِّف عن المريض وألاَّ يشقَّ عليه، وقد روى في ذلك جابر بن عبد الله رضي الله عنه فقال: خرجنا في سفر فأصاب رجلاً منا حجرٌ، فشجَّه في رأسه، ثم احتلم، فسأل أصحابه، فقال: هل تجدون لي رخصة في التَّيَمُّم؟ فقالوا: ما نجد لك رخصة وأنت تقدر على الماء. فاغتسل فمات؛ فلمَّا قدمنا على النبي صلى الله عليه وسلم أُخبِرَ بذلك، فقال: "قَتَلُوهُ قَتَلَهُمُ اللهُ، أَلاَ سَأَلُوا إِذْ لَمْ يَعْلَمُوا؛ فَإِنَّمَا شِفَاءُ الْعِيِّ السُّؤَالُ[14]، إِنَّمَا كَانَ يَكْفِيهِ أَنْ يَتَيَمَّمَ وَيَعْصِرَ أَوْ يَعْصِبَ -شَكَّ أحد رُوَاة الحديث- عَلَى جُرْحِهِ خِرْقَةً، ثُمَّ يَمْسَحَ عَلَيْهَا وَيَغْسِلَ سَائِرَ جَسَدِهِ"[15].
بل إنه صلى الله عليه وسلم كان يُلَبِّي حاجة المريض، ويسير معه حتى يقضي حاجته، ولقد جاءته ذات مرَّة امرأة في عقلها شيء، فقالت: يا رسول الله، إن لي إليك حاجة. فقال: "يَا أُمَّ فُلانٍ، انْظُرِي أَيَّ السِّكَكِ شِئْتِ؛ حَتَّى أَقْضِيَ لَكِ حَاجَتَكِ". فخلا معها[16] في بعض الطرق حتى فرغت من حاجتها[17].
كما جعل النبي صلى الله عليه وسلم للمرضى وذوي الاحتياجات الخاصَّة الحقَّ في التداوي؛ لأن سلامةَ البدن ظاهرًا وباطنًا مقصدٌ من مقاصد الإسلام؛ لذلك قال صلى الله عليه وسلم للأعراب عندما سألوه عن التداوي: "تَدَاوَوْا عِبَادَ اللهِ، فَإِنَّ اللهَ تعالى لَمْ يَضَعْ دَاءً إِلا وَضَعَ لَهُ دَوَاءً إِلا الْهَرَمَ"[18].
كذلك لم يكن يمانع أن تعالِج المرأةُ المسلمة رجلاً من المسلمين؛ حيث جَعَلَ صلى الله عليه وسلم رُفَيْدة رضي الله عنها -وهي امرأة من قبيلة أسلم- تعالِج سعد بن معاذ رضي الله عنه حين أصابه سهم بالخندق، وكانت -رضي الله عنها- تُداوي الجرحى، وتحتسب بنفسها على خدمة من كانت به ضيعة من المسلمين[19].
وفي صورة تطبيقية، كان الرسول صلى الله عليه وسلم يتعامل مع عمرو بن الجموح رضي الله عنه رضي الله عنه تعاملاً راقيًا، وكان عمرو من ذوي الاحتياجات الخاصَّة، إذ كان أَعْرَج شديد العَرَج، وقد حدث أن بنيه الأربعة الذين كانوا يشهدون المشاهد مع رسول الله صلى الله عليه وسلم ، أرادوا حبسه يوم أُحُدٍ، فأتى عمرو بن الجموح رضي الله عنه رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: إن بنيَّ يريدون أن يحبسوني عن هذا الوجه، والخروج معك فيه، فوالله إني لأرجو أن أطأ بعرجتي هذه في الجنة. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم مخاطبًا عَمْرًا: "أَمَّا أَنْتَ فَقَدْ عَذرَكَ اللهُ فَلا جِهَادَ عَلَيْكَ". وقال لبنيه: "مَا عَلَيْكُمْ أَلاَّ تَمْنَعُوهُ، لَعَلَّ اللهُ يَرْزُقُهُ شَهَادَةً". فخرج مع النبي صلى الله عليه وسلم فقُتِلَ يوم أُحُدٍ، ثم قال صلى الله عليه وسلم عنه: "وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ! إِنَّ مِنْكُمْ مَنْ لَوْ أَقْسَمَ عَلَى اللهِ لأَبَرَّهُ، مِنْهُمْ: عَمْرُو بْنُ الْـجَمُوحِ، وَلَقَدْ رَأَيْتُهُ يَطَأُ فِي الْـجَنَّة بِعَرْجَتِهِ"[20].

البعد الإنساني الراقي في الإسلام

لم يكن البعد الإنساني الراقي في تعامل الإسلام مع المرضي مقتصرا على المرضى المسلمين فقط، بل كانت لأي إنسان مريض مهما كانت ديانته، وذلك انطلاقًا من الآية الكريمة: { وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِي آدَمَ } [الإسراء: 70]. فالإنسان بصفة عامة مُكرَّم؛ ولذلك نهتمُّ برعايته حين مرضه، وبعلاجه إذا اشتكى ولو لم يكن مسلمًا، وقد زار رسول الله صلى الله عليه وسلم غلامًا يهوديًّا عندما مرض[21]، وأفرد البخاري لذلك بابًا خاصًّا في صحيحه فقال: "باب عيادة المشرك".
هذا البُعْدُ الإنساني العميق الذي زرعه فينا الشرع الإسلامي الحنيف جعل الأطباء المسلمين في كل عصور الحضارة الإسلامية يتعاملون مع المريض على أنه إنسان، وليس على أنه (شيء لا إحساس له)، ولا على أساس أنه مصدر للرزق عن طريق أخذ الأجر منه، بل كان التعامل معه دائمًا على أنه إنسان في أزمة، ويحتاج إلى من يقف إلى جواره، وليست المساعدة طبية فقط، ولكن تتعدَّى ذلك إلى المساعدة النفسية والاجتماعية والاقتصادية، وغير ذلك.
وبهذه الروح النبيلة تعامل الأطباء المسلمون مع مرضاهم، فكانت الخدمة الطبية الراقية تُقَدَّم للمرضى في الدولة الإسلامية دون تفرقة بين غني أو فقير، ولا بين عربي أو غير عربي، ولا بين أبيض أو أسود، ولا بين حاكم ولا محكوم، ولا بين مسلم أو غير مسلم، ففي معظم الأحيان كان العلاج مجانيًّا للجميع، وكان المرضى ينعمون في نفس المستوى من الخدمة أيًّا كان مستواهم.

ولنطلع معًا على طرف من نظام المستشفيات في الحضارة الإسلامية، والذي يعطي انطباعًا عن البعد الإنساني الذي نقصده:

فبمجرَّدِ دخول المريض للمستشفى يُفحص أوَّلاً بالقاعة الخارجية، فإن كان به مرض خفيف يُكتب له العلاج، ويُصرف من صيدلية المستشفى، وإن كانت حالته المرضية تستوجب دخوله المستشفى كان يُقَيِّد اسمه، ويُدخل إلى الحمام للاغتسال، وتُخلع عنه ثيابه التي دخل بها فتوضع في مخزن خاصٍّ، ثم يُعْطَى ثيابًا جديدة خاصة للمستشفى، ويُدخل إلى القاعة المخصَّصَة لأمثاله من المرضى، ويخصَّص له سرير مفروش بأثاث جيد، ولا يُسمح بوجود مريض آخر معه في نفس السرير مراعاة لنفسيته.
وبعد دخول المريض للمستشفى الإسلامي يُعطى الدواء الذي يُعَيِّنُه الطبيب، كما يُوصَف له الغذاء الموافق لصحَّتِه، وبالمقدار المفروض له، ولم يكن يُضَيَّقُ أبدًا على المرضى في نوع الطعام الذي يأكلونه، بل كان يُقَدَّمُ لهم أطايب الطعام؛ فقد كان غذاء المرضى يحتوي على لحوم الأغنام، والأبقار، والطيور، والدجاج، كذلك لا يُضَيَّقُ عليهم أبدًا في كَمِّيَّات الطعام، بل كانت من علامات الشفاء أن يأكل المريض رغيفًا كاملاً ودجاجة كاملة في الوجبة الواحدة.
فإذا أصبح المريض في دَوْرِ النقاهة أُدْخِل القاعة المخصَّصة للناقهين، حتى إذا تمَّ شفاؤه أُعطِيَ ثيابًا جديدة دون أجر، وليس هذا فقط بل كان يُعْطَى مبلغًا من المال يكفيه إلى أن يصبح قادرًا على العمل! وذلك حتى لا يضطر إلى العمل في فترة النقاهة فتَحْدُث له انتكاسة[22]!
ولا تَسَلْ بَعْدُ عن مدى الطمأنينة التي ينعم بها الفقير في المجتمع الإسلامي عندما يعلم أنه إذا مَرِض فسيجد مثل هذا المستوى من الرعاية المجانية دون أن يحتاج إلى إراقة ماء وجهه، أو البحث عن وساطات، أو شفاعات لينال ما يستحقُّ من الاهتمام والعلاج، فضلاً عن مدِّ يده متسوِّلاً ليتمَّ علاجه!
وما أروع توجيه أَبي بكر الرازي لتلاميذه أن يكون هدفهم الأول إبراء مرضاهم أكثر من نيل أجورهم منهم، وأن يُعَالِجُوا الفقراء بمثل الاهتمام والعناية التي يُعَالِجُونَ بها الأمراء والأغنياء، وأن يُوهموا المرضى بالشفاء حتى لو كانوا هم أنفسهم لا يعتقدون بذلك؛ فمزاج الجسم تابع لأخلاق النفس[23].
ولم يكن هذا المستوى العالي من الرعاية الصحية مقصورًا على المدن والحواضر الكبرى, بل حظيت كل بقاع الدولة الإسلامية بذات الاهتمام؛ وذلك من خلال المستشفيات المتنقِّلَة التي أشرنا إليها سابقًا، والتي كانت تجوب القرى، والنجوع، والجبال، والمناطق النائية بصفة عامَّة، والشاهد هنا أنه كان يُنظر إلى رعايا الدولة المسلمة -في مجال الرعاية الطبية- نظرة متساوية بغضِّ النظر عن بيئاتهم، ومستوياتهم الاجتماعية أو الاقتصادية.
بل إن النظرة الإسلامية الرحيمة للمريض تعدَّتْ كل طبقات المجتمع السوية لتشمل نزلاء السجون ممن أساءوا لمجتمعهم! فهؤلاء أيضًا كانوا يَجِدُون الرعاية الطبية الكافية؛ فهم بَشَرٌ, ومن أبناء المجتمع على أي حال، وما يَنْزِلُ بهم من الحبس والعقاب إنما هو لإعادة إصلاحهم، لا للقضاء عليهم بالموت البطيء الذي يتعرَّض له نزلاء كثير من السجون في عالم اليوم.
وقد كتب الوزير علي بن عيسى بن الجراح إلى سنان بن ثابت رئيس أطباء بغداد: "... فكَّرْتُ في أمرِ مَنْ في الحبوس (السجون), وأنه لا يخلو مع كثرة عددهم وجفاء أماكنهم أن تنالهم الأمراض؛ فينبغي أن تُفرد لهم أطباء يدخلون إليهم كل يوم, وتُحمل إليهم الأدوية والأشربة, ويطوفون في سائر الحبوس، ويعالجون فيها المرضى"[24].
وما كان لهذا الفيض الإنساني أن يستمرَّ على مرِّ عصور الحضارة الإسلامية لولا ينابيع العطاء المتدَفِّقَة من قلوب أبناء الأُمَّة المسلمة والموازية لدعم الدولة نفسها، ونقصد هنا نظام الأوقاف الخيرية, وما كان يقوم به من دَوْرٍ في حُسن رعاية المرضى وإكرامهم؛ فقد كانت مستشفيات راقية بأكملها تعتمد على ريع وقف يرصده أحد المسلمين -بمن فيهم الحاكم نفسه- لتغطية كل احتياجات المستشفى بمرضاه، وأطبائه، ومفروشاته، وأغذيته، ونباتاته الطبية، وأدويته، إلى حدِّ الإنفاق على طلاب الطبِّ المتدرِّبِينَ في هذا المستشفى!
ولعلَّ من أشهر الأمثلة على ذلك المستشفى المنصوري الكبير الذي أسسه في القاهرة الملك المنصور سيف الدين قلاوون سنة (683هـ/ 1284م)، وأوقف عليه ما يغطي نفقاته سنويًّا، وقد سبقت الإشارة إليه.
وفي صدد ذِكر الأوقاف الخيرية وأثرها في تغطية الجانب الإنساني في الطبِّ عند المسلمين لا بُدَّ أن نشير هنا إلى بعض الصور المبتكَرَة وغير المسبوقة في التعامل الإنساني مع نفسية المريض؛ فقد كان رِيع بعض الأوقاف يُخَصَّص لتوظيف اثنين يمرَّان بالمستشفيات يوميًّا, فيتحدَّثَان بجانب المرضى حديثًا خافتًا يَسْمَعُه المريض دون أن يراهما؛ يُوحِيَان إليه من خلال حديثهما بتحسُّن حاله! فيما كان يُعْرَف (بوقف خداع المريض)! وذلك لترتفع معنوياته، وبالتالي يتماثل للشفاء بصورة أسرع[25]!
ولم يكن ذلك البُعْدُ الإنساني الراقي في التعامل مع المرضى سلوكًا فرديًّا يمارسه بعض الأطباء, ولا كان مجرَّد حُبٍّ شعبي للخير والرحمة ينبع من قلوب العامَّة، بل كان سلوكًا عامًّا تتبنَّاه سياسات الدولة, وينتهجه أفراد الأُمَّة حُكَّامًا ومحكومين؛ فكثيرًا ما كان الخليفة أو الأمير يتفقَّد بنفسه المرضى ويُشْرِفُ على حُسْنِ معاملتهم، ويُذكر هنا أن المنصُور الموحدي (ملك دولة الموحدين بالمغرب) كانت له زيارة أسبوعية للمستشفى (المنصوري) بمَرَّاكش بعد صـلاة الجمعة من كل أسبوع؛ يطمئن فيها بنفسه على أحوال المرضى[26].

ومن الجوانب الإنسانية في تعامل الطب الإسلامي مع المرضى ما اشتملت عليه شريعة الإسلام من آداب تحفظ كرامة المريض، وتصون حياءه, وتضمن سير مراحل الفحص والعلاج دون انتهاك لخصوصياته.

ففي الشريعة الإسلامية لا يجوز -مثلاً- كشف عورة المريض إلاَّ لضرورة, وبالقَدْرِ المطلوب فقط في الفحص أو الجراحة، وما إلى ذلك، كما لا يجوز أن يَشْهَدَ فحص المريض أو المريضة شخص غير ذي صفة -وخاصة إذا كان من جنس مختلف- إلى جانب عدم جواز خلوة الطبيب بمريضة من النساء، إلاَّ مع وجود ذي مَحْرم لها, أو وجود امرأة أخرى كالممرضة مثلاً، كذلك راعت المستشفيات في الحضارة الإسلامية الفصل في أقسامها الداخلية بين الرجال والنساء.

وكان من الجوانب الإنسانية في تعامل الطبِّ الإسلامي مع المرضى كذلك، أن الشرع راعى حقوق المريض في العلاج؛ بأن سمح للطبيب الرجل أن يعالج المرأة، والعكس كذلك؛ وذلك إن لم يوجد البديل الكفء من نفس الجنس، والذي يستطيع أن يقوم بالمهمة على الوجه الأكمل؛ وذلك حتى لا يفوت على المريض -رجلاً كان أو امرأة- فرصة العلاج الصحيح، بل إن الشرع أجاز كذلك أن يبحث المريض المسلم عن العلاج عند الأطباء غير المسلمين إن تعذَّر وجود من يستطيع علاجه من المسلمين، وذلك حفاظًا على صحة المريض وحياته.

الهوامش:

[1] البخاري: كتاب الجنائز، باب الأمر باتباع الجنائز (1183)، ومسلم: كتاب السلام، باب حق المسلم للمسلم (2162) واللفظ له.
[2] الترمذي: كتاب البر والصلة، باب زيارة الإخوان (2008) وقال: هذا حديث حسن غريب، وابن ماجه (1443)، وأحمد (8517)، وابن حبان (2961)، وحسنه الألباني. انظر: صحيح الجامع (6387).
[3] نَفِّسُوا لَهُ فِي الأَجَلِ: أي ارفعوا من أمله في الشفاء وطول الأجل. انظر: ابن حجر العسقلاني: فتح الباري 10/121، 122، والمباركفوري: تحفة الأحوذي بشرح جامع الترمذي 6/263.
[4] الترمذي: كتاب الطب (2087) وقال: حديث غريب، وابن ماجه (1438)، وابن أبي شيبة (10851)، والبيهقي في شعب الإيمان (9213)، وأبو نعيم في الحلية 2/208.
[5] البخاري: كتاب المرضى، باب ما جاء في ثواب المرض (5318)، ومسلم: كتاب البر والصلة والآداب، باب ثواب المؤمن فيما يصيبه من مرض أو حزن (2573).
[6] بحبيبتيه: أي بعينيه. انظر: ابن حجر العسقلاني: فتح الباري 10/116.
[7] البخاري: كتاب المرضى باب فضل من ذهب بصره (5329)، وأحمد (12490)، وأبو يعلى (3711)، والطبراني الأوسط (250)، والبيهقي: شعب الإيمان (9958).
[8] البخاري عن أبي هريرة: كتاب الجنائز، باب الأمر باتباع الجنائز (1183)، ومسلم في السلام، باب من حق المسلم للمسلم رد السلام (2162).
[9] غاشية أهله: أي الذين يغشونه للخدمة وغيرها. انظر: ابن حجر العسقلاني: فتح الباري 3/175.
[10] يُعَذِّبُ بهذا: أي إن قال سوءًا. أو يرحم: أي إن قال خيرًا. انظر: المصدر السابق.
[11] البخاري: كتاب الجنائز، باب البكاء عند المريض (1242)، ومسلم في الجنائز، باب البكاء على الميت (924).
[12] أم العلاء: أسلمت وبايعت النبي صلى الله عليه وسلم ، عمة حزام بن حكيم. انظر: ابن الأثير: أسد الغابة 7/405، وابن حجر العسقلاني: الإصابة الترجمة 8/265 (12176).
[13] أبو داود: كتاب الجنائز، باب عيادة النساء (3092)، وصححه الألباني، انظر: صحيح الجامع (7851).
[14] شفاء العي أي: يسألوا حين لم يعلموا؛ لأن شفاء الجهل السؤال. انظر: العظيم آبادي: عون المعبود 1/368.
[15] أبو داود: كتاب الطهارة، باب في المجروح يتيمم (336)، وابن ماجه (572)، وأحمد (3057)، والدارمي (752)، والدارقطني (3)، والبيهقي في سننه الكبرى (1016)، وصححه الألباني، انظر: صحيح الجامع (4362).
[16] أي وقف معها في طريق مسلوك ليقضي حاجتها ويفتيها في الخلوة، ولم يكن ذلك من الخلوة بالأجنبية؛ فإن هذا كان في ممرِّ الناس ومشاهدتهم إيَّاه وإيَّاها، لكن لا يسمعون كلامها؛ لأن مسألتها ممَّا لا يظهره. انظر: النووي: المنهاج في شرح صحيح مسلم 15/83.
[17] مسلم عن أنس بن مالك: كتاب الفضائل، باب قرب النبي صلى الله عليه وسلم من الناس وتبركهم به (2326)، وأحمد (14078)، وابن حبان (4527).
[18] أبو داود: كتاب الطب، باب في الرجل يتداوى (3855)، والترمذي (2038) وقال: هذا حديث حسن صحيح. وابن ماجه (3436)، وأحمد (18477)، وقال شعيب الأرناءوط: إسناده صحيح رجاله ثقات رجال الشيخين..، وصححه الألباني، انظر: غاية المرام (292).
[19] البخاري: الأدب المفرد 1/385 (1129)، وابن هشام: السيرة النبوية 2/239، وابن كثير: السيرة النبوية 3/233، وقال الألباني: إسناده صحيح رجاله كلهم ثقات. انظر: السلسلة الصحيحة (1158).
[20] ابن حبان عن جابر بن عبد الله: كتاب إخباره صلى الله عليه وسلم عن مناقب الصحابة (7024)، وقال شعيب الأرناءوط: إسناده جيد. وابن سيد الناس: عيون الأثر 1/423، والصالحي الشامي: سبل الهدى والرشاد في سيرة خير العباد 4/214.
[21]انظر: البخاري عن أنس بن مالك: كتاب المرضى، باب عيادة المشرك (5333).
[22] مصطفى السباعي: من روائع حضارتنا ص110.
[23] عبد المنعم صفو: تعليم الطب عند العرب، أبحاث الندوة العلمية للجمعية السورية لتاريخ العلوم ص279.
[24] ابن القفطي: تاريخ الحكماء ص148.
[25] مصطفى السباعي: من روائع حضارتنا ص112.
[26] المصدر السابق ص116.

يتبع

بتصرف عن موقع قصة الإسلام


سلسلة الحقوق في المجتمع الإسلامي

المرضى والبعد الإنساني في الحضارة الإسلامية

الدكتور راغب السرجاني


هناك بعد رائع تميز به الأداء الطبي عند المسلمين في زمن حضارتهم، ذلكم هو البعد الإنساني، والذي يكمن في احترام الإنسان بصفة عامَّة, والسعي الحثيث لرفع المعاناة والألم والحرج عنه، أيًّا كان هذا الإنسان, وأيًّا كانت معاناته.

المنهج الأخلاقي في التشريع الإسلامي

ولم يكن غريبًا على أطباء المسلمين أن يهتموا بالبُعْدِ الإنساني في تعاملهم مع المريض؛ لأن قوانين التشريع الإسلامي تنطق بهذا النهج الأخلاقي الفريد؛ فالإسلام ينظر إلى المريض على أنه إنسان في أزمة، ومن ثَمَّ يحتاج إلى مَنْ يقف إلى جواره، ويأخذ بيده، ويرفع من معنوياته، ويهدِّئُ من روعه، ويخفِّفُ عن آلامه الجسديَّة، فضلاً عن المعنوية.
فالتشريع الإسلامي يسعى إلى رفع الحرج عن المريض بكل وسيلة، ويخفِّفُ عنه الأعباء إلى أقصى درجة؛ فجعل للمريض رخصة الإفطار في رمضان، وإنْ عَاقَهُ اعتلال صحَّته عن الحجِّ فلا حجَّ عليه، وليس عليه إثم، كما أن المريض الذي لا يستطيع الصلاة على صورتها الطبيعية يُعطى رخصة الصلاة في أوضاع تناسبه جالسًا أو نائمًا، أو حتى بِعَيْنَيْهِ! والمريض الذي يضرُّه الماء في الوضوء يتيَمَّمُ، والذي لا يستطيع الوضوء ولا التيمُّم لسبب ما يُصَلِّي دون أيٍّ منهما، ويُسَمَّى فَاقِدَ الطَّهُورَيْنِ!
بل إن التشريع الإسلامي لم يكتفِ برفع بعض التكاليف، والترخيص في بعض العبادات والفروض، وإنما يحضُّ وبشدَّة على الوقوف إلى جوار المريض، ورفع رُوحه المعنوية إلى أقصى درجة؛ فجعل رسول الله صلى الله عليه وسلم زيارة المريض وعيادته في بيته، أو في المستشفى حقًّا له على المسلمين، فقال فيما رواه أبو هريرة رضي الله عنه : "حَقُّ الْـمُسْلِمِ عَلَى الْـمُسْلِمِ سِتٌّ...". وذكر منها: "وَإِذَا مَرِضَ فَعُدْهُ"[1]. ثم بَشَّر بالجنة نصيبًا لمن عاد مريضًا، فقال فيما رواه أبو هريرة رضي الله عنه: "مَنْ عَادَ مَرِيضًا نَادَى مُنَادٍ مِنَ السَّمَاءِ: طِبْتَ وَطَابَ مَمْشَاكَ، وَتَبَوَّأْتَ مِنَ الْـجَنَّةِ مَنْزِلاً"[2].
وأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم أن تذكر الخير عند المريض، وأن ترفع من روحه المعنوية، وتُطْمِعَهُ في الشفاء وفي طول العمر، فقد روى أبو سعيد الخدري رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "إِذَا دَخَلْتُمْ عَلَى الْـمَرِيضِ فَنَفِّسُوا لَهُ فِي الأَجَلِ[3]؛ فَإِنَّ ذَلِكَ لاَ يَرُدُّ شَيْئًا، وَهُوَ يَطِيبُ بِنَفْسِ الْـمَرِيضِ"[4].
بل إن رسول الله صلى الله عليه وسلم يرتفع برُوح المريض المعنوية إلى السماء عندما يخبره أن هذا المرض هو كفارة لذنوبه، وهو مدعاة لنجاته في الآخرة إن صبر، فقد روى أبو هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "مَا يُصِيبُ الْـمُسْلِمَ مِنْ نَصَبٍ وَلاَ وَصَبٍ، وَلاَ هَمٍّ وَلاَ حُزْنٍ، وَلاَ أَذًى وَلاَ غَمٍّ، حَتَّى الشَّوْكَةِ يُشَاكُهَا إِلاَّ كَفَّرَ اللهُ بِهَا مِنْ خَطَايَاهُ"[5]. ويقول فيما رواه أنس رضي الله عنه: "إِنَّ اللهَ قَالَ: إِذَا ابْتَلَيْتُ عَبْدِي بِحَبِيبَتَيْهِ[6] فَصَبَرَ، عَوَّضْتُهُ مِنْهُمَا الْـجَنَّةَ"[7].
وهكذا ترتفع معنويات المريض المؤمن إلى السماء، ولا يشعر بأنه أصبح كمًّا عاجزًا مهملاً في المجتمع، بل إن الجميع يهتم به ويرعاه.

تعامل الرسول صلى الله عليه وسلم مع المرضى

فنجد النبي صلى الله عليه وسلم كان إذا سمع بمريض أسرع لعيادته في بيته؛ مع كثرة همومه ومشاغله، ولم تكن زيارته هذه مُتكَلَّفة أو اضطراريَّة، وإنما كان يَشعر بواجبه ناحية هذا المريض.. كيف لا وهو الذي جعل زيارة المريض حقًّا من حقوقه؟! فقال صلى الله عليه وسلم: "حَقُّ الْـمُسْلِمِ عَلَى الْـمُسْلِمِ خَمْسٌ... وَعِيَادَةُ الْـمَرِيضِ..."[8].
فكان صلى الله عليه وسلم -وهو المُرَبِّي والقدوة- يُهَوِّن على المريض أزمته ومرضه، ويُظهِر له - دون تَكَلُّف - مُوَاساته له، وحرصه عليه، وحبَّه له، فيُسعد ذلك المريضَ وأهلَه، وفي ذلك يروي عبد الله بن عمر رضي الله عنهما فيقول: اشتكى سعد بن عبادة رضي الله عنه شكوى له، فأتاه النبي صلى الله عليه وسلم يعوده مع عبد الرحمن بن عوف، وسعد بن أبي وقاص، وعبد الله بن مسعود رضي الله عنهم، فلما دخل عليه فوجده في غاشية أهله[9]، فقال: "قَدْ قَضَى ؟". قالوا: لا يا رسول الله. فبكى النبي صلى الله عليه وسلم ، فلما رأى القوم بكاء النبي صلى الله عليه وسلم بَكَوْا، فقال: "أَلاَ تَسْمَعُونَ ؟! إِنَّ اللهَ لاَ يُعَذِّبُ بِدَمْعِ الْعَيْنِ وَلاَ بِحُزْنِ الْقَلْبِ؛ وَلَكِنْ يُعَذِّبُ بِهَذَا -وَأَشَارَ إِلَى لِسَانِهِ- أَوْ يَرْحَمُ[10]"[11].
كما كان يدعو للمريض ويُبشِّره بالأجر والمثوبة نتيجة المرض الذي لحق به؛ فيُهَوِّن بذلك عليه الأمر، ويُرْضيه به؛ تروي أُمُّ العلاء[12] فتقول: عادني رسول الله وأنا مريضة، فقال: "أَبْشِرِي يَا أُمَّ الْعَلاَءِ، فَإِنَّ مَرَضَ الْـمُسْلِمِ يُذْهِبُ اللهُ بِهِ خَطَايَاهُ كَمَا تُذْهِبُ النَّارُ خَبَثَ الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ"[13].
وكان الرسول صلى الله عليه وسلم حريصًا على أن يُخَفِّف عن المريض وألاَّ يشقَّ عليه، وقد روى في ذلك جابر بن عبد الله رضي الله عنه فقال: خرجنا في سفر فأصاب رجلاً منا حجرٌ، فشجَّه في رأسه، ثم احتلم، فسأل أصحابه، فقال: هل تجدون لي رخصة في التَّيَمُّم؟ فقالوا: ما نجد لك رخصة وأنت تقدر على الماء. فاغتسل فمات؛ فلمَّا قدمنا على النبي صلى الله عليه وسلم أُخبِرَ بذلك، فقال: "قَتَلُوهُ قَتَلَهُمُ اللهُ، أَلاَ سَأَلُوا إِذْ لَمْ يَعْلَمُوا؛ فَإِنَّمَا شِفَاءُ الْعِيِّ السُّؤَالُ[14]، إِنَّمَا كَانَ يَكْفِيهِ أَنْ يَتَيَمَّمَ وَيَعْصِرَ أَوْ يَعْصِبَ -شَكَّ أحد رُوَاة الحديث- عَلَى جُرْحِهِ خِرْقَةً، ثُمَّ يَمْسَحَ عَلَيْهَا وَيَغْسِلَ سَائِرَ جَسَدِهِ"[15].
بل إنه صلى الله عليه وسلم كان يُلَبِّي حاجة المريض، ويسير معه حتى يقضي حاجته، ولقد جاءته ذات مرَّة امرأة في عقلها شيء، فقالت: يا رسول الله، إن لي إليك حاجة. فقال: "يَا أُمَّ فُلانٍ، انْظُرِي أَيَّ السِّكَكِ شِئْتِ؛ حَتَّى أَقْضِيَ لَكِ حَاجَتَكِ". فخلا معها[16] في بعض الطرق حتى فرغت من حاجتها[17].
كما جعل النبي صلى الله عليه وسلم للمرضى وذوي الاحتياجات الخاصَّة الحقَّ في التداوي؛ لأن سلامةَ البدن ظاهرًا وباطنًا مقصدٌ من مقاصد الإسلام؛ لذلك قال صلى الله عليه وسلم للأعراب عندما سألوه عن التداوي: "تَدَاوَوْا عِبَادَ اللهِ، فَإِنَّ اللهَ تعالى لَمْ يَضَعْ دَاءً إِلا وَضَعَ لَهُ دَوَاءً إِلا الْهَرَمَ"[18].
كذلك لم يكن يمانع أن تعالِج المرأةُ المسلمة رجلاً من المسلمين؛ حيث جَعَلَ صلى الله عليه وسلم رُفَيْدة رضي الله عنها -وهي امرأة من قبيلة أسلم- تعالِج سعد بن معاذ رضي الله عنه حين أصابه سهم بالخندق، وكانت -رضي الله عنها- تُداوي الجرحى، وتحتسب بنفسها على خدمة من كانت به ضيعة من المسلمين[19].
وفي صورة تطبيقية، كان الرسول صلى الله عليه وسلم يتعامل مع عمرو بن الجموح رضي الله عنه رضي الله عنه تعاملاً راقيًا، وكان عمرو من ذوي الاحتياجات الخاصَّة، إذ كان أَعْرَج شديد العَرَج، وقد حدث أن بنيه الأربعة الذين كانوا يشهدون المشاهد مع رسول الله صلى الله عليه وسلم ، أرادوا حبسه يوم أُحُدٍ، فأتى عمرو بن الجموح رضي الله عنه رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: إن بنيَّ يريدون أن يحبسوني عن هذا الوجه، والخروج معك فيه، فوالله إني لأرجو أن أطأ بعرجتي هذه في الجنة. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم مخاطبًا عَمْرًا: "أَمَّا أَنْتَ فَقَدْ عَذرَكَ اللهُ فَلا جِهَادَ عَلَيْكَ". وقال لبنيه: "مَا عَلَيْكُمْ أَلاَّ تَمْنَعُوهُ، لَعَلَّ اللهُ يَرْزُقُهُ شَهَادَةً". فخرج مع النبي صلى الله عليه وسلم فقُتِلَ يوم أُحُدٍ، ثم قال صلى الله عليه وسلم عنه: "وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ! إِنَّ مِنْكُمْ مَنْ لَوْ أَقْسَمَ عَلَى اللهِ لأَبَرَّهُ، مِنْهُمْ: عَمْرُو بْنُ الْـجَمُوحِ، وَلَقَدْ رَأَيْتُهُ يَطَأُ فِي الْـجَنَّة بِعَرْجَتِهِ"[20].

البعد الإنساني الراقي في الإسلام

لم يكن البعد الإنساني الراقي في تعامل الإسلام مع المرضي مقتصرا على المرضى المسلمين فقط، بل كانت لأي إنسان مريض مهما كانت ديانته، وذلك انطلاقًا من الآية الكريمة: { وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِي آدَمَ } [الإسراء: 70]. فالإنسان بصفة عامة مُكرَّم؛ ولذلك نهتمُّ برعايته حين مرضه، وبعلاجه إذا اشتكى ولو لم يكن مسلمًا، وقد زار رسول الله صلى الله عليه وسلم غلامًا يهوديًّا عندما مرض[21]، وأفرد البخاري لذلك بابًا خاصًّا في صحيحه فقال: "باب عيادة المشرك".
هذا البُعْدُ الإنساني العميق الذي زرعه فينا الشرع الإسلامي الحنيف جعل الأطباء المسلمين في كل عصور الحضارة الإسلامية يتعاملون مع المريض على أنه إنسان، وليس على أنه (شيء لا إحساس له)، ولا على أساس أنه مصدر للرزق عن طريق أخذ الأجر منه، بل كان التعامل معه دائمًا على أنه إنسان في أزمة، ويحتاج إلى من يقف إلى جواره، وليست المساعدة طبية فقط، ولكن تتعدَّى ذلك إلى المساعدة النفسية والاجتماعية والاقتصادية، وغير ذلك.
وبهذه الروح النبيلة تعامل الأطباء المسلمون مع مرضاهم، فكانت الخدمة الطبية الراقية تُقَدَّم للمرضى في الدولة الإسلامية دون تفرقة بين غني أو فقير، ولا بين عربي أو غير عربي، ولا بين أبيض أو أسود، ولا بين حاكم ولا محكوم، ولا بين مسلم أو غير مسلم، ففي معظم الأحيان كان العلاج مجانيًّا للجميع، وكان المرضى ينعمون في نفس المستوى من الخدمة أيًّا كان مستواهم.

ولنطلع معًا على طرف من نظام المستشفيات في الحضارة الإسلامية، والذي يعطي انطباعًا عن البعد الإنساني الذي نقصده:

فبمجرَّدِ دخول المريض للمستشفى يُفحص أوَّلاً بالقاعة الخارجية، فإن كان به مرض خفيف يُكتب له العلاج، ويُصرف من صيدلية المستشفى، وإن كانت حالته المرضية تستوجب دخوله المستشفى كان يُقَيِّد اسمه، ويُدخل إلى الحمام للاغتسال، وتُخلع عنه ثيابه التي دخل بها فتوضع في مخزن خاصٍّ، ثم يُعْطَى ثيابًا جديدة خاصة للمستشفى، ويُدخل إلى القاعة المخصَّصَة لأمثاله من المرضى، ويخصَّص له سرير مفروش بأثاث جيد، ولا يُسمح بوجود مريض آخر معه في نفس السرير مراعاة لنفسيته.
وبعد دخول المريض للمستشفى الإسلامي يُعطى الدواء الذي يُعَيِّنُه الطبيب، كما يُوصَف له الغذاء الموافق لصحَّتِه، وبالمقدار المفروض له، ولم يكن يُضَيَّقُ أبدًا على المرضى في نوع الطعام الذي يأكلونه، بل كان يُقَدَّمُ لهم أطايب الطعام؛ فقد كان غذاء المرضى يحتوي على لحوم الأغنام، والأبقار، والطيور، والدجاج، كذلك لا يُضَيَّقُ عليهم أبدًا في كَمِّيَّات الطعام، بل كانت من علامات الشفاء أن يأكل المريض رغيفًا كاملاً ودجاجة كاملة في الوجبة الواحدة.
فإذا أصبح المريض في دَوْرِ النقاهة أُدْخِل القاعة المخصَّصة للناقهين، حتى إذا تمَّ شفاؤه أُعطِيَ ثيابًا جديدة دون أجر، وليس هذا فقط بل كان يُعْطَى مبلغًا من المال يكفيه إلى أن يصبح قادرًا على العمل! وذلك حتى لا يضطر إلى العمل في فترة النقاهة فتَحْدُث له انتكاسة[22]!
ولا تَسَلْ بَعْدُ عن مدى الطمأنينة التي ينعم بها الفقير في المجتمع الإسلامي عندما يعلم أنه إذا مَرِض فسيجد مثل هذا المستوى من الرعاية المجانية دون أن يحتاج إلى إراقة ماء وجهه، أو البحث عن وساطات، أو شفاعات لينال ما يستحقُّ من الاهتمام والعلاج، فضلاً عن مدِّ يده متسوِّلاً ليتمَّ علاجه!
وما أروع توجيه أَبي بكر الرازي لتلاميذه أن يكون هدفهم الأول إبراء مرضاهم أكثر من نيل أجورهم منهم، وأن يُعَالِجُوا الفقراء بمثل الاهتمام والعناية التي يُعَالِجُونَ بها الأمراء والأغنياء، وأن يُوهموا المرضى بالشفاء حتى لو كانوا هم أنفسهم لا يعتقدون بذلك؛ فمزاج الجسم تابع لأخلاق النفس[23].
ولم يكن هذا المستوى العالي من الرعاية الصحية مقصورًا على المدن والحواضر الكبرى, بل حظيت كل بقاع الدولة الإسلامية بذات الاهتمام؛ وذلك من خلال المستشفيات المتنقِّلَة التي أشرنا إليها سابقًا، والتي كانت تجوب القرى، والنجوع، والجبال، والمناطق النائية بصفة عامَّة، والشاهد هنا أنه كان يُنظر إلى رعايا الدولة المسلمة -في مجال الرعاية الطبية- نظرة متساوية بغضِّ النظر عن بيئاتهم، ومستوياتهم الاجتماعية أو الاقتصادية.
بل إن النظرة الإسلامية الرحيمة للمريض تعدَّتْ كل طبقات المجتمع السوية لتشمل نزلاء السجون ممن أساءوا لمجتمعهم! فهؤلاء أيضًا كانوا يَجِدُون الرعاية الطبية الكافية؛ فهم بَشَرٌ, ومن أبناء المجتمع على أي حال، وما يَنْزِلُ بهم من الحبس والعقاب إنما هو لإعادة إصلاحهم، لا للقضاء عليهم بالموت البطيء الذي يتعرَّض له نزلاء كثير من السجون في عالم اليوم.
وقد كتب الوزير علي بن عيسى بن الجراح إلى سنان بن ثابت رئيس أطباء بغداد: "... فكَّرْتُ في أمرِ مَنْ في الحبوس (السجون), وأنه لا يخلو مع كثرة عددهم وجفاء أماكنهم أن تنالهم الأمراض؛ فينبغي أن تُفرد لهم أطباء يدخلون إليهم كل يوم, وتُحمل إليهم الأدوية والأشربة, ويطوفون في سائر الحبوس، ويعالجون فيها المرضى"[24].
وما كان لهذا الفيض الإنساني أن يستمرَّ على مرِّ عصور الحضارة الإسلامية لولا ينابيع العطاء المتدَفِّقَة من قلوب أبناء الأُمَّة المسلمة والموازية لدعم الدولة نفسها، ونقصد هنا نظام الأوقاف الخيرية, وما كان يقوم به من دَوْرٍ في حُسن رعاية المرضى وإكرامهم؛ فقد كانت مستشفيات راقية بأكملها تعتمد على ريع وقف يرصده أحد المسلمين -بمن فيهم الحاكم نفسه- لتغطية كل احتياجات المستشفى بمرضاه، وأطبائه، ومفروشاته، وأغذيته، ونباتاته الطبية، وأدويته، إلى حدِّ الإنفاق على طلاب الطبِّ المتدرِّبِينَ في هذا المستشفى!
ولعلَّ من أشهر الأمثلة على ذلك المستشفى المنصوري الكبير الذي أسسه في القاهرة الملك المنصور سيف الدين قلاوون سنة (683هـ/ 1284م)، وأوقف عليه ما يغطي نفقاته سنويًّا، وقد سبقت الإشارة إليه.
وفي صدد ذِكر الأوقاف الخيرية وأثرها في تغطية الجانب الإنساني في الطبِّ عند المسلمين لا بُدَّ أن نشير هنا إلى بعض الصور المبتكَرَة وغير المسبوقة في التعامل الإنساني مع نفسية المريض؛ فقد كان رِيع بعض الأوقاف يُخَصَّص لتوظيف اثنين يمرَّان بالمستشفيات يوميًّا, فيتحدَّثَان بجانب المرضى حديثًا خافتًا يَسْمَعُه المريض دون أن يراهما؛ يُوحِيَان إليه من خلال حديثهما بتحسُّن حاله! فيما كان يُعْرَف (بوقف خداع المريض)! وذلك لترتفع معنوياته، وبالتالي يتماثل للشفاء بصورة أسرع[25]!
ولم يكن ذلك البُعْدُ الإنساني الراقي في التعامل مع المرضى سلوكًا فرديًّا يمارسه بعض الأطباء, ولا كان مجرَّد حُبٍّ شعبي للخير والرحمة ينبع من قلوب العامَّة، بل كان سلوكًا عامًّا تتبنَّاه سياسات الدولة, وينتهجه أفراد الأُمَّة حُكَّامًا ومحكومين؛ فكثيرًا ما كان الخليفة أو الأمير يتفقَّد بنفسه المرضى ويُشْرِفُ على حُسْنِ معاملتهم، ويُذكر هنا أن المنصُور الموحدي (ملك دولة الموحدين بالمغرب) كانت له زيارة أسبوعية للمستشفى (المنصوري) بمَرَّاكش بعد صـلاة الجمعة من كل أسبوع؛ يطمئن فيها بنفسه على أحوال المرضى[26].

ومن الجوانب الإنسانية في تعامل الطب الإسلامي مع المرضى ما اشتملت عليه شريعة الإسلام من آداب تحفظ كرامة المريض، وتصون حياءه, وتضمن سير مراحل الفحص والعلاج دون انتهاك لخصوصياته.

ففي الشريعة الإسلامية لا يجوز -مثلاً- كشف عورة المريض إلاَّ لضرورة, وبالقَدْرِ المطلوب فقط في الفحص أو الجراحة، وما إلى ذلك، كما لا يجوز أن يَشْهَدَ فحص المريض أو المريضة شخص غير ذي صفة -وخاصة إذا كان من جنس مختلف- إلى جانب عدم جواز خلوة الطبيب بمريضة من النساء، إلاَّ مع وجود ذي مَحْرم لها, أو وجود امرأة أخرى كالممرضة مثلاً، كذلك راعت المستشفيات في الحضارة الإسلامية الفصل في أقسامها الداخلية بين الرجال والنساء.

وكان من الجوانب الإنسانية في تعامل الطبِّ الإسلامي مع المرضى كذلك، أن الشرع راعى حقوق المريض في العلاج؛ بأن سمح للطبيب الرجل أن يعالج المرأة، والعكس كذلك؛ وذلك إن لم يوجد البديل الكفء من نفس الجنس، والذي يستطيع أن يقوم بالمهمة على الوجه الأكمل؛ وذلك حتى لا يفوت على المريض -رجلاً كان أو امرأة- فرصة العلاج الصحيح، بل إن الشرع أجاز كذلك أن يبحث المريض المسلم عن العلاج عند الأطباء غير المسلمين إن تعذَّر وجود من يستطيع علاجه من المسلمين، وذلك حفاظًا على صحة المريض وحياته.

الهوامش:

[1] البخاري: كتاب الجنائز، باب الأمر باتباع الجنائز (1183)، ومسلم: كتاب السلام، باب حق المسلم للمسلم (2162) واللفظ له.
[2] الترمذي: كتاب البر والصلة، باب زيارة الإخوان (2008) وقال: هذا حديث حسن غريب، وابن ماجه (1443)، وأحمد (8517)، وابن حبان (2961)، وحسنه الألباني. انظر: صحيح الجامع (6387).
[3] نَفِّسُوا لَهُ فِي الأَجَلِ: أي ارفعوا من أمله في الشفاء وطول الأجل. انظر: ابن حجر العسقلاني: فتح الباري 10/121، 122، والمباركفوري: تحفة الأحوذي بشرح جامع الترمذي 6/263.
[4] الترمذي: كتاب الطب (2087) وقال: حديث غريب، وابن ماجه (1438)، وابن أبي شيبة (10851)، والبيهقي في شعب الإيمان (9213)، وأبو نعيم في الحلية 2/208.
[5] البخاري: كتاب المرضى، باب ما جاء في ثواب المرض (5318)، ومسلم: كتاب البر والصلة والآداب، باب ثواب المؤمن فيما يصيبه من مرض أو حزن (2573).
[6] بحبيبتيه: أي بعينيه. انظر: ابن حجر العسقلاني: فتح الباري 10/116.
[7] البخاري: كتاب المرضى باب فضل من ذهب بصره (5329)، وأحمد (12490)، وأبو يعلى (3711)، والطبراني الأوسط (250)، والبيهقي: شعب الإيمان (9958).
[8] البخاري عن أبي هريرة: كتاب الجنائز، باب الأمر باتباع الجنائز (1183)، ومسلم في السلام، باب من حق المسلم للمسلم رد السلام (2162).
[9] غاشية أهله: أي الذين يغشونه للخدمة وغيرها. انظر: ابن حجر العسقلاني: فتح الباري 3/175.
[10] يُعَذِّبُ بهذا: أي إن قال سوءًا. أو يرحم: أي إن قال خيرًا. انظر: المصدر السابق.
[11] البخاري: كتاب الجنائز، باب البكاء عند المريض (1242)، ومسلم في الجنائز، باب البكاء على الميت (924).
[12] أم العلاء: أسلمت وبايعت النبي صلى الله عليه وسلم ، عمة حزام بن حكيم. انظر: ابن الأثير: أسد الغابة 7/405، وابن حجر العسقلاني: الإصابة الترجمة 8/265 (12176).
[13] أبو داود: كتاب الجنائز، باب عيادة النساء (3092)، وصححه الألباني، انظر: صحيح الجامع (7851).
[14] شفاء العي أي: يسألوا حين لم يعلموا؛ لأن شفاء الجهل السؤال. انظر: العظيم آبادي: عون المعبود 1/368.
[15] أبو داود: كتاب الطهارة، باب في المجروح يتيمم (336)، وابن ماجه (572)، وأحمد (3057)، والدارمي (752)، والدارقطني (3)، والبيهقي في سننه الكبرى (1016)، وصححه الألباني، انظر: صحيح الجامع (4362).
[16] أي وقف معها في طريق مسلوك ليقضي حاجتها ويفتيها في الخلوة، ولم يكن ذلك من الخلوة بالأجنبية؛ فإن هذا كان في ممرِّ الناس ومشاهدتهم إيَّاه وإيَّاها، لكن لا يسمعون كلامها؛ لأن مسألتها ممَّا لا يظهره. انظر: النووي: المنهاج في شرح صحيح مسلم 15/83.
[17] مسلم عن أنس بن مالك: كتاب الفضائل، باب قرب النبي صلى الله عليه وسلم من الناس وتبركهم به (2326)، وأحمد (14078)، وابن حبان (4527).
[18] أبو داود: كتاب الطب، باب في الرجل يتداوى (3855)، والترمذي (2038) وقال: هذا حديث حسن صحيح. وابن ماجه (3436)، وأحمد (18477)، وقال شعيب الأرناءوط: إسناده صحيح رجاله ثقات رجال الشيخين..، وصححه الألباني، انظر: غاية المرام (292).
[19] البخاري: الأدب المفرد 1/385 (1129)، وابن هشام: السيرة النبوية 2/239، وابن كثير: السيرة النبوية 3/233، وقال الألباني: إسناده صحيح رجاله كلهم ثقات. انظر: السلسلة الصحيحة (1158).
[20] ابن حبان عن جابر بن عبد الله: كتاب إخباره صلى الله عليه وسلم عن مناقب الصحابة (7024)، وقال شعيب الأرناءوط: إسناده جيد. وابن سيد الناس: عيون الأثر 1/423، والصالحي الشامي: سبل الهدى والرشاد في سيرة خير العباد 4/214.
[21]انظر: البخاري عن أنس بن مالك: كتاب المرضى، باب عيادة المشرك (5333).
[22] مصطفى السباعي: من روائع حضارتنا ص110.
[23] عبد المنعم صفو: تعليم الطب عند العرب، أبحاث الندوة العلمية للجمعية السورية لتاريخ العلوم ص279.
[24] ابن القفطي: تاريخ الحكماء ص148.
[25] مصطفى السباعي: من روائع حضارتنا ص112.
[26] المصدر السابق ص116.

يتبع

بتصرف عن موقع قصة الإسلام








 
 

أدوات الموضوع
انواع عرض الموضوع

تعليمات المشاركة
لا تستطيع إضافة مواضيع جديدة
لا تستطيع الرد على المواضيع
لا تستطيع إرفاق ملفات
لا تستطيع تعديل مشاركاتك

BB code is متاحة
كود [IMG] متاحة
كود HTML معطلة

الانتقال السريع


الساعة الآن 04:37 PM.


Powered by vBulletin® , Copyright ©2000 - 2024, Jelsoft Enterprises Ltd. TranZ By Almuhajir
" ما ينشر في المنتديات يعبر عن رأي كاتبه "