الحمد لله وحده، والصلاة والسلام على من لا نبيّ بعده..أما بعد فهذا – بتأييد الواحد الأحد- هو المقال الثاني ضمن سلسلة المقالات التي تعنى بشرح بعض أحاديث الحبيب الشفيع والوقوف عند فوائدها ودررها والاستمتاع بلآلئها وكنوزها، رجاءَ تحصيل الحسن والبهاء والنضارة والصفاء، ممّا دعا به خير الأنبياء –صلى الله عليه وسلم- حين قال:"نضّر الله امرءً سمع مقالتي فوعاها فأداها كما سمعها..."
نص الحديث:
عن أمير المؤمنين أبي حفص عمر بن الخطاب -رضي الله عنه- قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول:" إنما الأعمال بالنيات وإنما لكلّ امرئ ما نوى فمن كانت هجرته إلى الله ورسوله فهجرته إلى الله ورسوله ومن كانت هجرته إلى دنيا يصيبها أو امرأة ينكحها فهجرته إلى ما هاجر إليه" رواه البخاري ومسلم.
1- عمر بن الخطاب: صحابي جليل مشهور، ثاني الخلفاء الراشدين المهديين، أول من لقب بأمير المؤمنين، وزير النبي –صلى الله عليه وسلم- وصهره..عمر بن الخطاب القرشي..أدركه دعاء النبي–صلى الله عليه وسلم-:"اللهم أعز الإسلام بأحب الرجلين إليك.."..وقد كان من صناديد قريش حتى قال بعض الصحابة:"لا يسلم ابن الخطاب حتى يسلم حمار الخطاب..فلما أكرمه الله بالإسلام اعتز المسلمون.."لا زلنا أعزة منذ أسلم عمر" ابن مسعود..هو المحدّث الملهم...وموافقاته لربه مشهورة معروفة..كانت تهابه شياطين الإنس والجنّ...ومع ذلك: ارتسم على وجهه خطان أسودان من شدّة البكاء..حكم فعدل..وروي له خمسمائة وتسعة وثلاثون حديثا...استمرت خلافته عشر سنين وستة أشهر ومات كصاحبيه وعمره ثلاث وستون سنة...رضي الله عنه وأرضاه ورحمه رحمة واسعة.
2-منـزلة الحديث: قال أبو عبد الله أحمد –رحمه الله-:" ليس في أخبار النبي –صلى الله عليه وسلم- أجمع وأغنى فائدة من هذا الحديث".
- وقال الشافعي:" حديث النيّة يدخل في سبعين باباً من أبواب العلم" قال النووي: ولم يقصد الحصر في هذه الأبواب، بل هي أكثر من ذلك..
- قال عبد الرحمن بن مهدي –رحمه الله-:"من أراد أن يصنف كتابا فليبدأ بهذا الحديث" ولأهميته ابتدأ به الإمام البخاري صحيحه. والإمام المقدسي في عمدة الأحكام..وبدأ به الإمام النووي في كتبه:الأذكار، رياض الصالحين، والأربعين النوويــة..تنبيها لطالب العلم على تصحيح النية قبل البدء في الطلب.
3- مفردات الحديث:
- إنما: للحصر، وهو إثبات الحكم في المذكور ونفيه عما عداه.
-بالنيات: بتشديد الياء وتخفيفها جمع نية وهي عزم القلب. وفي الصحيح:"إنما العمل بالنية" وورد:"إنما الأعمال بالنية" والمعنى واحد، فإنه إذا أفرد العمل أو النية أريد بها الجنس، فتتفق رواية الإفراد مع رواية الجمع.
-(إنما الأعمال بالنيات، وإنما لكل امرئ ما نوى): هل هما جملتان بمعنى واحد أو مختلفتان؟ اختلف العلماء في ذلك، والرّاجح أنّ الأولى غير الثانية..ثم نظروا إلى المقصود بقوله:"إنما الأعمال بالنيات" فقال طائفة منهم: يعني: إنما الأعمال وقوعها مقبولة أو صحيحة بالنية الصالحة..و"إنما لكل امرئ ما نوى" يعني: وإنما يثاب المرء على العمل الذي عمله بما نواه..وقال آخرون: إنّ قوله -عليه الصلاة والسلام-:" إنما الأعمال بالنيات" راجع إلى أن الباء سببية أيضًا، والمقصود بها سبب العمل لا سبب قبوله، قالوا: لأننا لا نحتاج مع هذا إلى تقدير، فما من عمل يعمله أحد وهو عاقل مختار لا بد فيه من نية، ولا يمكن لأي عاقل مختار أن يعمل عملاً بغير نية...
-الهجرة معناها: الترك..والمقصود هنا:الانتقال من دار الشرك إلى دار الإسلام.
- إلى الله ورسوله: أي طاعة الله عز وجل ورسوله صلى الله عليه وسلم نية وقصدا.
- فهجرته إلى الله ورسوله: أي ثوابا وأجرا.
- لدنيا: بضم الدال وكسرها من الدنو، أي لدنوها إلى الزوال، أو لدناءتها.
- يصيبها: يحصلها.
- ينكحها: يتزوجها.
- فهجرته إلى ما هاجر إليه: كائنا ما كان، فالأول تاجر والثاني خاطب.
4-قصة مهاجر أمّ قيس ثابتة عند الطبراني عن ابن مسعود، ولكن ليس عندنا ما يثبت أنها سبب لورود هذا الحديث..
5- النية قسمان:
نية متعلقة بالعبادة:وهي التي ترد في عبارات الفقهاء في الأحكام حين يتحدّثون عن الشروط..
ونية متوجهة للمعبود، وهذه هي التي يُتحدث عنها باسم الإخلاص..وهذا الحديث شمل نوعي النية، وقد عني هذا المقال بالحديث عن القسم الأول، بينما يختص المقال الثاني بالقسم الآخر.
6- أهمية النية الصالحة: إنّ مدار الثواب في الأعمال عند الله سبحانه مرتبط بالنية الصالحة وليس مجرّد الفعل، ومن هنا أُتي المنافقون ومن كان على شاكلتهم.
7- خطورة النية: "من مات ولم يغز ولم يحدث نفسه بالغزو مات على شعبة من نفاق" أبو داود وهو صحيح...وفي المقابل:"من سأل الشهادة بصدق بلغه الله منازل الشهداء وإن مات على فراشه" رواه مسلم.
8- من فوائد النية بالنسبة للأعمال:
أ- تمييز العبادة عن العادة: مثل تمييز غسل الجنابة عن غسل التبرد والتنظّف..
ب- تمييز العبادات بعضها من بعض: مثل تمييز صلاة الظهر عن صلاة العصر..وكذا التمييز بين الفرائض والنوافل.
ج- تمييز المقصود بالعمل أهو الله وحده أم لا؟...الخ.
9- بالنية الصالحة تتحول المباحات إلى مستحبات، والعادات إلى عبادات:قال معاذ بن جبل –رضي الله عنه:"إني لأحتسب نومتي كما أحتسب قومتي"قال –صلى الله عليه وسلم- لسعد بن أبي وقاص -رضي الله عنه:"...وأنك لن تنفق نفقة تبتغي بها وجه الله إلا أجرت عليها حتى ما تجعل في في امرأتك" رواه البخاري ومسلم.وفي صحيح مسلم:"..وفي بضع أحدكم صدقة.."الحديث.
10- بالنية الصالحة يؤجر المرء من غير عمل وقد يأثم من غير اقتراف:"...وعبد رزقه الله علما ولم يرزقه مالا فهو صادق النية يقول لو أن لي مالا لعملت بعمل فلان فهو بنيته فأجرهما سواء...وعبد لم يرزقه الله مالا ولا علما فهو يقول لو أن لي مالا لعملت فيه بعمل فلان فهو بنيته فوزرهما سواء" صحيح كما في صحيح الترغيب والترهيب.
11- النية عزم القلب وقصده، فلا ينبغي التلفظ بها.قال ابن تيمية:"التلفظ بالنية بدعــة لم يفعله الرسول ولا أصحابــه".
12-قال ابن المبارك: "ربّ عمل كبير تصغره النية"، وهذا ينطبق انطباقا تاما على الجهاد والهجرة ونحوهما من العبادات الجليلة إذا افتقدت الإخلاص.
13- الوساوس والخواطر والواردات التي ترد على النية لا تؤثر عليها مالم تغير أصلها "ومن كانت هجرته لدنيا يصيبها" فأصل نيته إرادة الدنيا..ومن عرف هذا الأصل سلم من شبهات الوساوس وخواطر النفس بإذن الله سبحانه.
14- لا بدّ لكلّ عمل من نية، وهذا يفيد الموسوسين الذين يعيدون الصلاة مرات والوضوء كرات زعما أنهم لم ينووا..أفاده الشيخ ابن عثيمين-رحمه الله-..
15-دلّ الحديث على أن إخلاص النية لله أمر سهل المنال بإذن الله، لأنّ النبي صلى الله عليه وسلم خاطب بهذا الحديث الأعرابي في باديته، والعامي والأميّ والجاهل ولم يخص أناساً دون غيرهم.
16-يدخل في قوله:" إنما الأعمال بالنيات" كلّ ما يتعلق بالإيمان؛ لأن الإيمان قول وعمل، قول القلب واللسان، وعمل القلب والجوارح، والذي يصدر عن الإنسان إما قول وإما عمل..وكلّ ذلك مفتقر إلى الإخلاص..ولذا خرّج البخاري الحديث ضمن كتاب الإيمان.
17- ليس في الحديث حجة لمن يعملون بالبدع والمحرّمات ويزعمون أنّ نيتهم حسنة، لأنّ معنى الحديث:"إنما تقبل الأعمال الصالحة بالنيات الصالحة..
18- حقارة من قصد غير وجه الله: ولذا لم يتكرر سبب الهجرة في قوله:"فهجرته إلى ما هاجر إليه" تحقيرا لهذا الشأن.
19- فضل الهجرة إلى الله ورسوله:"ومن يهاجر في سبيل الله يجد في الأرض مراغما كثيرا وسعة..."
20- الهجرة باقية إلى قيام الساعــة:قال –صلى الله عليه وسلم-لا تنقطع الهجرة حتى تنقطع التوبـة، ولا تنقطع التوبة حتى تطلع الشمس من مغربها ) رواه أبو داود وهو صحيح كما في الإرواء.
21- وقعت الهجرة في الإسلام على وجهين: الأول:_الانتقال من دار الخوف إلى دار الأمن، كما في هجرتي الحبشة، وابتداء الهجرة من مكة إلى المدينة، الثاني: _الهجرة من دار الكفر إلى دار الإيمان، وذلك بعد أن استقر النبي صلى الله عليه وسلم بالمدينة وهاجر إليه من أمكنه ذلك من المسلمين. وكانت الهجرة إذ ذاك تختص بالانتقال إلى المدينة، إلى أن فتحت مكة فانقطع الاختصاص، وبقي عموم الانتقال من دار الكفر إلى دار الإسلام لمن قدر عليه واجبا...
22- ومن أنواع الهجرة التي يقرّها الشرع: الهجرة من أرض البدعة إلى أرض السنّة..والهجرة من بلد المعصية إلى بلد الطاعةكقصة قاتل المائة..
23- من لم يكن قادرا على الهجرة أو كان في بلد لا تجب فيه الهجرة فعليه التزام الطاعة وهجر المعصية:"العبادة في الهرج كهجرة إليّ" رواه مسلم.."المهاجر من هجر ما نهى الله عنه" رواه البخاري..
24- التحذير من الدنيا وفتـنـتهـا، والزجر عن التماس الدنيا بعمل الآخرة:"..وما الحياة الدنيا إلا متاع الغرور".وروى الدارمي وغيره بسند صحيح موقوفا عن ابن مسعود –رضي الله عنه-:"كيف أنتم إذا لبستكم فتنة يهرم فيها الكبير ويربو فيها الصغير ويتخذها الناس سنة فإذا غيرت قالوا: غيرت السنة! قيل: متى ذلك يا أبا عبد الرحمن؟ قال: إذا كثرت قراؤكم وقلّت فقهاؤكم وكثرت أمراؤكم وقلّت أمناؤكم والتمست الدنيا بعمل الآخرة وتفقه لغير الدين"..
25- التحذير من فتنة النساء: وإنما خصت بالذكر لشدة الافتتان بها كما في صحيح مسلم:"..فاتقوا الدنيا واتقوا النساء فإنّ أول فتنة بني إسرائيل كانت في النساء".وفي هذا دليل على أنّ من أشد ملهيات الدنيا ومنقصات الدين الشهوة، ولذلك خصت بالذكر " أو امرأة ينكحها " مع أنها داخلة في قوله-صلى الله عليه وسلم:"ومن كانت هجرته لدنيا يصيبها.." فصدق رسول الله:" ما تركت بعدي فتنة أضر على الرجال من النساء". متفق عليه.
26- التحذير من الإقامة في بلاد الكفر.."إنّ الذين توفاهم الملائكة ظالمي أنفسهم قالوا فيم كنتم قالوا كنا مستضعفين في الأرض قالوا ألم تكن أرض الله واسعة فتهاجروا فيها فأولائك مأواهم جهنم وساءت مصيرا."..وفي الحديث :"لا يقبل الله من مشرك بعد ما أسلم عملا أو يفارق المشركين إلى المسلمين" حسن كما في السلسلة الصحيحة..ومعناه: إلا أن يفارق المشركين ويلحق بالمسلمين.
27- لا يجوز للمسلم العيش في كنف المشركين إلا لضرورة أو حاجة يقرّها الشرع، كعلاج لا يوجد عند المسلمين أو علم تحتاجه الأمة المسلمة ولا يوجد من يقوم على تعليمه في بلاد المسلمين، أو لغرض الدعوة وتبليغ الدين...ويشترط في مثل هذه الحالات أن يكون المبتعث متمتعا بعلم شرعي يحصنه من الشبهات وإيمان يحصنه من الشهوات..
28- من أساليب التعليم الناجحة: ذكر القاعدة ثم ذكر مثال يوضحها. ففي هذا الحديث ذكر النبي صلى الله عليه وسلم قاعدة وهي:"إنما الأعمال بالنيات " ثم ذكر لها مثالاً يوضّحها وهو "الهجرة" و"بالمثال يتضح المقال" -كما يقال-. والعلم عند الله الكبير المتعال..
-ختاماً، هذا آخر ما أردنا تدوينه في هذا المقال الذي حوى بعض التوجيهات البهية المستقاة من حديث النية، وسيكون المقال الثاني بحول رب البرية مكملا لما قصدنا إيصاله إلى القراء الكرام من الفوائد والتوجيهات، أسأل ربي العظيم التوفيق والسداد والهداية والرشاد، إنه خير مسؤول، والحمد لله الذي بنعمته تتم الصالحات.
يتبع ان شاء الله