الإنسانية والعدوانية في العقيدة اليهودية
عبد الوهاب المسيري -
- 1 -
نزعات إنسانية فى العقيدة اليهودية
في عدد هآرتس (15 سبتمبر 2004) صرحت شالوميت ألونى (عضو الكنيست السابق) إن قوانين نوح السبعة (والتى يشار إليها بشريعة نوح) قوانين عالمية تنطبق على كل شخص وعلى كل الأمم، وخاصة اليهود. ثم قارنت بين شريعة نوح وبعض مقولات الحاخامات اليهود المتطرفين الذين يطالبون بإراقة دم الفلسطينيين، وتساءلت عما حدث للعقيدة اليهودية التى تتسم بكثير من الجوانب الإنسانية، وهى محقة تماما فى هذا.
وشريعة نوح التى أشارت اليها، ورد ذكرها فى سفر التكوين(9/4-7)، ﺇذ حظر الإله على نوح وأبنائه عبادة الأوثان والهرطقة وسفك الدماء والزنى والسرقة وأكل لحم الحيوان الحي، كما فرض عليهم إقامة نظام قانوني، أي تنفيذ الشرائع السابقة. وهذه الشرائع ملزمة لليهود وغير اليهود، أما الأوامر والنواهي اليهودية (مثل قوانين الطعام وشعائرالسبت)، فهي ملزمة لليهود وحدهم. والذي ينفذ شريعة نوح من غير اليهود يسمى "جرتوشاف"، أى "مقيم غريب"، أو حتى "متهود"، وكان يعد من الأخيار. ومنذ البداية، وصفت الكتابات الدينية اليهودية المسلمين على أنهم من "النوحيين" أي من غير المشركين (ثم ضم إليهم المسيحيون فيما بعد).
ومن الجوانب الإنسانية الأخرى بعض تصورات العقيدة اليهودية للإله، فهو رب الجميع الذي يبارك كل الشعوب، ولذا فالرؤيا الخاصة بالخلاص تضم كافة الشعوب. وعندما تنبأ النبي أشعيا بالسلام، فإنه رسم صورة لسلام عالمي يشمل "جميع الأمم"، سلام "لن يرفع فيه شعب سيفا ضد شعب، ولن يتعلموا بعد الآن الحرب" (أشعيا 2 : 4). وسوف يشمل السلام الجميع لأن كافة الشعوب هم أبناء الرب: "مباركة هي مصر شعبي، وآشور صنع يدي، واسرائيل ميراثي" (أشعيا 19 / 25).
وثمة نص في التلمود لا يختلف كثيرا في إنسانيته، فقد جاء فيه أن الروح القدس تستقر على الجميعي، اليهودي وغير اليهودي، الرجل أو المرأة، العبد والجواري، كل امرئ "حسب أفعاله". كما جاء في أحد كتب التلمود أن أحد الحاخامات أوصى بإطعام فقراء الأغيار مع فقراء اليهودي، "وبزيارة مرضاهم مثلما نزور مرضانا، وأن يدفن موتاهم مع موتانا حتى ندعم سبل السلام".
ولنأخذ مفهوما محوريا فى الصهيونية وهو مفهوم العودة أو "تجميع المنفيين"، وهو مصطلح ديني يشير إلى فكرة عودة كل أعضاء الجماعات اليهودية المنفيين أو المنتشرين في أنحاء العالم إلى فلسطين، وتجميعهم هناك. لكن تجميع المنفيين (حسب التصور اليهودي الأرثوذكسي التقليدي) هو مثل أعلى ديني لا يتحقق إلا بعد عودة الماشيح (المسيح المخلص اليهودي) كما لا يتحقق إلا بإرادة الإله، وعلى المؤمن أن ينتظر بصبر وأناة إلى أن يأذن الإله بذلك. واليهودي الذي يحاول أن يعود بارادته ودون انتظار للأمر الالهي بالعودة يرتكب خطيئة "التعجيل بالنهاية" وهي ترجمة للعبارة العبرية "دحيكات هاكتس"، ومعناها "الضغط على الإله لإجبار الماشيح على المجيء".
ويرتبط بهذا المفهوم للعودة عدة مفاهيم خاصة بإعادة بناء الهيكل. فالرأي الفقهي الغالب هو أن اليهود يتعين عليهم أن ينتظروا إلى أن يحل العصر الشيحاني، أى بعد عودة الماشيح بمشيئة الإله فى آخر الأيام، أي أن إعادة بناء الهيكل مرتبطة بالرؤى الأخروية لا بالتاريخ الإنساني. ولهذا فقد تم تدوين شعائر العبادة القربانية التي تقام في الهيكل في التلمود. كل هذا يعني ألا يتعجل اليهود الأمور ويقوموا بإعادة بنائه. بل ويذهب موسى ابن ميمون إلى أن الهيكل لن يبنى بأيد بشرية، كما يذهب راشي، أهم فقيه يهودي أشكنازي في العصور الوسطى، إلى أن الهيكل الثالث سينزل كاملا من السماء.
ولنأخذ مفهوما آخر وهو أن اليهود شعب مختلف، "شعب مختار" لايمكنه التعايش مع الشعوب الأخرى. ولكن كلمة "شعب" كما وردت فى النصوص الدينية اليهودية لا تعني شعبي بالمعنى العرقي أو الاثني الحديث. "فالشعب اليهودي" فى اليهودية تعبير ديني يشير إلى طائفة المؤمنين المخلصين الذين يتوجهون بايمانهم الى رب حقيقي واحد، والذين يتوقف انتماؤهم إلى هذه المجموعة البشرية على شرط طاعتهم لأوامر الرب. والمفهوم الحاخامي للشعب هو طائفة المؤمنين الذين يقوم ايمانهم على الميثاق أو العهد الديني بين الرب وشعبه. فهذا الشعب قد ظهر الى الوجود نتيجة الالتقاء مع الرب الذى لا اسم له، وهو ما يزال باقيا نتيجة لسبب واحد فقط، وهو استمراره في الإخلاص لهذا اللقاء (على حد قول ايميل فاكنهايم، عالم اللاهوت اليهودى المعاصر).
وتأسيسا على الحقيقة القائلة بأن اليهود هم شعب التوراة وليسوا شعبا ينتمي لأرض معينة، يصبح مطلوبا من اليهودي – في أقوال حكمائه وأنبيائه – أن يحيا في سلام مع "مدينة الأرض"، أي في أي مجتمع توجد فيه الجماعة اليهودية، مثله في هذا مثل جميع البشر. ومنذ أكثر من 2500 سنة، قال النبي أرميا: "لنسع الى مافيه خير المدينة، ولنصل للرب من أجلها، لأنه في خيرها ستحيا أنت حياة طيبة.
وقد طور الحاخامات مفهوم "شريعة الدولة هي الشريعة" وهي الترجمة العربية للعبارة الأرامية "دينا دي ملكوتا دينا"، وهي من أهم المبادئ في تاريخ الشريعة اليهودية. وقد ظهر هذا المفهوم, أول ما ظهر، خارج فلسطين في صفوف الجماعة اليهودية في بابل أثناء حكم الأسرة الساسانية الفارسية، إذ أن وضع الجماعة اليهودية تطلب توضيح قضية نطاق الشريعة اليهودية مقابل نطاق قانون أو شريعة الدولة. وقد قلصت عبارة "شريعة الدولة هي الشريعة" نطاق تطبيق شريعة التوراة، إذ تتضمن اعترافا بالقانون المدني غير اليهودي، كما تعترف بأنه يحل محل الشريعة الدينية فى الأمور الدنيوية. ولم يكن هذا المبدأ ينطبق بطبيعة الحال على الطقوس والشعائر الدينية. وينم تبني هذا المبدأ عن مقدرة أعضاء الجماعات اليهودية على التكيف مع محيطهم الحضاري والاندماج فيه، وهو الأمر الذي هيأ البقاء لليهود والاستمرار لليهودية.
ومعظم هذه المفاهيم تشكل الإطار المرجعي لجماعة الناطوراي كارتا (نواطير المدينة) وهي جماعة يهودية أرثوذكسية معادية للصهيونية. وقد تساءلت شالوميت ألوني، أين ذهبت هذه المفاهيم الإنسانية، ولماذا سيطرت النزعة الانعزالية غير الإنسانية على المؤسسة اليهودية الأرثوذكسية؟ وهو سؤال مهم سنجيب عليه فى المقال القادم بإذن الله.
والله أعلم.
- 2 -
العقيدة اليهودية: الجوانب العدوانية
ذكرنا في المقال السابق بعض الجوانب الإنسانية في العقيدة اليهودية وهي موجودة بالفعل ولكن لابد من الاعتراف بأنها قليلة. ويوجد على العكس من هذا جوانب عدوانية كثيرة. خذ على سبيل المثال مفهوماً أساسياً في اليهودية وهو تصور الإله. في بعض أجزاء العهد القديم تصور للإله يقترب كثيرا من التصور الإسلامي. فهو إله واحد لا يتجسد ولا تدركه الأبصار، خالق الطبيعة المادية والتاريخ الإنساني، ولكنه يتجاوزهما. وقد وصل التيار التوحيدي إلى قمته في كتب الأنبياء (خاصة كتاب أشعياء) الذين طهروا التصور اليهودي للإله من كل الشوائب الوثنية، فصار أكثر إنسانية وشمولا وسموا، فهو إله عادل لا يفرق بين الشعوب ولا يتبنى مقاييس أخلاقية، بل يحكم على اليهود وعلى كل الشعوب بمقياس واحد.
لكن إلى جانب هذا يوجد تصور آخر للإله داخل الإطار الحلولي ووحدة الوجود أبعد ما يكون عن التوحيد. والحلولية ووحدة الوجود تعنيان أن الإله الخالق يحل في مخلوقاته ويتوحد بها، بحيث يصبح العالم مكونا من جوهر واحد. وفي حالة وحدة الوجود اليهودية يحل الإله في الشعب اليهودي فيتأله الشعب ويصبح في منزلة الإله كما يحل في فلسطين (أرتس إسرائيل في المصطلح الديني اليهودي) فتصبح أرضا مقدسة. والإله في هذا الإطار الحلولي يتصف بصفات البشر فهو يأكل ويشرب ويتعب ويستريح ويضحك ويبكي ويحب ويبغض، بل يحس بالندم ووخز الضمير (خروج 32 /10 – 14). وإذا كان من أهم صفات الإله في الإطار التوحيدي أنه يعرف كل شيء ففي الإطار الحلولي الإله نجده لا يعرف كل شيء، ولذا يطلب من اليهود أن يرشدوه بأن يصبغوا أبواب بيوتهم بالدم حتى لا يهلكهم مع أعدائهم من المصريين عن طريق الخطأ (خروج 12 / 13 – 14).
وهو إله يتجسد في أشكال مادية محسوسة فهو يسكن في وسط اليهود ويحملونه في خيمة العهد (خروج 25/8)، كما يسير أمام اليهود على شكل عمود دخان في النهار كي يهديهم الطريق، أما في الليل فكان يتحول إلى عمود نار كي يضيء لهم. وهو إله الحروب يعلم يدي داود القتال. وهو إله قاس يأمر شعبه المختار بقتل جميع الذكور في المدن البعيدة عن أرض الميعاد. أما سكان هذه الأرض نفسها فمصيرهم الإبادة ذكورا كانوا أم إناثا أم أطفالا. ومقاييس هذا الإله تختلف باختلاف الزمان والمكان ولذا فهي تتغير بتغير الاعتبارات العملية، ولذا يأمر اليهود بالسرقة ويطلب من كل امرأة يهودية في مصر أن تطلب من جارتها "أمتعة فضة وأمتعة ذهب وثيابا حتى يسلبوا المصريين (خروج 3 / 22). وهو في نهاية الأمر يعد إلهاً قوميا خاصا مقصورا على الشعب اليهودي، بينما نجد أن للشعوب الأخرى آلهتها (خروج 6 / 7).
والحلولية تيار مهم في العهد القديم، ولكنها تضخمت واتسعت في التلمود. فالإله في التلمود، متعصب بشكل كامل لشعبه المختار، ولذا فهو يعبر عن ندمه على تركه اليهود في حالة تعاسة وشقاء حتى أنه يلطم ويبكي. ومنذ أن أمر بهدم الهيكل وهو في حالة حزن وندم، توقف عن اللعب مع التنين الذي كان يسليه، وأصبح يمضي وقتا طويلا مع الليل يزأر كالأسد.
وورد في التلمود أن خلافا وقع بين الإله وعلماء اليهود حول أمر ما. وبعد أن طال الجدل، تقرر إحالة الأمر موضع الخلاف إلى أحد الحاخامات الذي حكم بخطأ الإله الذي اضطر إلى الاعتراف بخطئه. وهكذا اختل التوازن الحلولي، كما هو الحال دائما، لصالح المخلوقات من الحاخامات على حساب الإله.
ويظهر ارتباط الانعزالية بالحلولية في فكرة الاختيار، فقد جاء في التلمود أن الإله اختار اليهود لأنهم اختاروه، وهي عبارة تفترض المساواة بين الإله والشعب، (وكان يرددها بن جوريون برضا شديد، وهي تشكل أساس فلسفة بوبر الحوارية، ونقطة انطلاق لكثير من النزعات الحلولية المعاصرة في اليهودية ولصهيونية جوش ايمونيم الحلولية).
وتزداد الحلولية تطرفا في تراث القبالة (التراث الصوفي الحلولى اليهودي) فقد جاء في إحدى فقرات سفر أشعياء
(23 /12) "أنتم شهودي، يقول الرب، وأنا الله" وهي فقرة تؤكد وحدانية الإله. تفسر القبالاه هذه العبارة كما يلي:"حينما تكونون شهودي أكون أنا الإله، وحينما لا تكونون شهودي فكأننى لست الإله"، فكأن وجود الإله من وجود الشعب وليس العكس. بل إن كمال الإله يتوقف على الشعب. وقد استمر هذا التيار الحلولي حتى العصر الحديث فنجد حاخاما مثل ايوجين بوروفيتز يتحدث عن حرب 1967 أنها لم تكن تهدد دولة إسرائيل فحسب، وإنما تهدد الإله نفسه، فكأن الإله قد تجسد في دولة إسرائيل، فمن يصيب الدولة الصهيونية بأذى فكأنه يصيب الإله نفسه بأذى.
وفي كل المنظومات الحلولية كما أسلفت ثمة ثالوث أساسي هو الإله والشعب والأرض، فيحل الإله في الشعب فيصبح شعبا مقدسا وأزليا (وهذه من صفات الإله) ويحل في الأرض فتصبح أرضا مقدسة.
ولنبدأ بمفهوم الشعب. يشار إلى اليهود في العهد القديم بأنهم "الشعب المقدس" و"الشعب الأزلي". وقد جاء في سفر التثينة (20/ 24،26) "أنا الرب إلهكم الذي ميزكم من الشعوب... " وكما جاء في نفس السفر (14/2) "وقد اختارك الرب لكي تكون شعبا خاصا فوق جميع الشعوب الذين على وجه الأرض". ونفس التيار الانعزالي يوجد في التلمود الذي جاء فيه أن اليهود شبهوا بحبة الزيتون لأن زيت الزيتون لا يمكن خلطه مع المواد الأخرى. وكذلك جماعة إسرائيل، لا يمكن أن تختلط مع الشعوب الأخرى. ويدعي التلمود أن روح الإله من روح الشعب كما أن الابن جزء من أمه، ولذا فمن يعتدي على يهودي فهو كمن يعتدي على العزة الإلهية، ومن يعادي جماعة إسرائيل أو يكرهها فإنه يعادي الإله ويكرهه.
ويتناسى التلمود الفرق بين الأخيار والأشرار من الأغيار، رغم أنه تمييز أساسي في العقيدة اليهودية نفسها. بل إن التلمود يطلب أحيانا إلى اليهود أن يستخدموا مقياسين أخلاقيين: أحدهما للتعامل مع اليهود، والآخر للتعامل مع غير اليهود. وقد جاء في التلمود أنه لا يصح أن يباع لليهودي الشيء الذي يحتمل فساده إن ترك، ولكنه من الممكن أن يباع لغير اليهودي. كما يحرم على الطبيب اليهودي أن يعالج مريضا غير يهودي (إلا لدرء أذى الأغيار).
وتصل النزعة التلمودية المتعالية ذروتها في عبارة: "اقتل أفضل الأغيار، اسحق رأس أنبل الأفاعي". وقد اقتبس أحد كتيبات الحاخامية العسكرية الإسرائيلية هذه العبارة التلمودية التي أثارت ضجة داخل إسرائيل وتصدى لها بعض القادة الدينيين ووصفوها بأنها تشويه للعقيدة اليهودية. وقد عمقت القبالاه هذا التيار وجعلت الشعب المقدس شريكا للإله في عملية إصلاح الكون.
والله أعلم.
- 3 -
الإنسانية والعدوانية في العقيدة اليهودية
أشرنا في المقال السابق للأضلاع الثلاثة للحلولية أو وحدة الوجود اليهودية (أي حلول الإله في مخلوقاته وتوحده بها) وهي الإله والشعب والأرض. وقد تناولنا الضلعين الأول والثاني في المقال السابق، وسنتناول في هذا المقال الضلع الثالث، أي الأرض. فكما حل الإله في الشعب فإنه يحل في الأرض، ولذا فهي تتأله وتتقدّس، تماماً كما تأله وتقدس الشعب. ولذا فإن فلسطين (أي إرتس إسرائيل في المصطلح الديني اليهودي) تسمى "أرض الرب" و"الأرض المختارة" و"الأرض المقدسة" التي تفوق في قدسيتها أية أرض أخرى، لارتباطها بالشعب المختار. كما يشار إلى الأرض بأنها "صهيون التي يسكنها الرب". فقد ورد في الزمور التاسع المقطوعة الحادية عشرة "رنموا للرب الساكن في صهيون"، أي الرب الذي حل في صهيون، أو "إرتس إسرائيل"، أي فلسطين.
وقد جاء في التلمود "الواحد القدوس تبارك اسمه قاس جميع البلدان بمقياسه ولم يستطع العثور على أية بلاد جديرة بأن تمنح لجماعة إسرائيل سوى أرض إسرائيل". وقد ساوى أحد أسفار التلمود بين الإيمان والسكنى في إرتس إسرائيل إذ جاء فيه "من يعيش داخل أرض إسرائيل يمكن اعتباره مؤمناً، أما المقيم خارجها فهو إنسان لا اله له". وهي عبارة رددها بن جوريون في بعض تصريحاته.
وقد ارتبطت شعائر الديانة اليهودية بالأرض ارتباطاً كبيراً. فبعض الصلوات من أجل المطر والندى تتلى بما يتفق مع الفصول في أرض الميعاد. وتدور صلوات عيد الفصح حول الخروج من مصر والدخول في الأرض. وترتبط عقيدة الماشيح (المسيح المخلص اليهودي) بالعودة إلى الأرض. وحتى الآن يرسل بعض أعضاء الجماعات اليهودية في العالم في طلب شيء من تراب الأرض لينثر فوق قبورهم بعد موتهم. وقد تضخم الحديث عن الأرض وعن ارتباط اليهودي بها حتى ظهر ما يسمى "لاهوت الأرض المقدسة" الذي ناقش أموراً كثيرة من بينها حدود هذه الأرض. فقد جاء في سفر التكوين (15/18) أن الإله قـد قطع مع إبراهيم عهداً قـائلاً:"لنسلك أعطي هذه الأرض من نهر مصر إلى النهر الكبير، نهر الفرات". ولكن في الإصحاح الرابع والثلاثين من سفر "العدد" توجد خريطة مغايرة حددت على أنها "أرض كنعان بتخومها"، وحددت التخوم بشكل يختلف عن خريطة سفر "التكوين". وقد حل الحاخامات هذه المشكلة بأن شَبَّهوا الأرض بجلد الإبل الذي ينكمش في حالة العطش والجوع ويتمدد إذا شبع وارتوى. (وهى صورة مجازية استخدمها هرتزل وكثير من المفكرين الصهاينة) وهكذا الأرض المقدَّسة، تنكمش إذا هجرها ساكنوها من اليهود، وتتمدد وتتسع إذا جاءها اليهود من بقاع الأرض.
وهذه الرؤية تعد الأساس الديني للتوسعية الصهيونية: إذا زاد عدد المهاجرين اليهود ليستوطنوا في فلسطين تمددت حدود الدولة الصهيونية. وقد طرح الصهاينة في بداية الأمر شعار "من النيل إلى الفرات"، ولكن على مستوى الممارسة الفعلية أصبح ما يقرر حدود الأرض هو القوة العسكرية الإسرائيلية. ولذلك انسحبت القوات الإسرائيلية من سيناء ولم تنسحب من الجولان، رغم أن سيناء أكثر قداسة من الجولان في المنظور اليهودي، فالصهاينة يوظفون الرؤية الدينية في خدمة الرؤية العسكرية. ومن المشـكلات الطريفـة التي واجهها لاهـوت الأرض مشـكلة ملكيتها. فالأرض المقدَّسة عبر تاريخها كان يقطن فيها، في معظم الأحيان، شعب عادي "غير مقدَّس" من وجهة النظر الدينية اليهودية. ففسر الحاخام راشي العبارة الافتتاحية في التوراة التي تقول: في البدء خلق الإله السماوات والأرض"، بالطريقة التالية: إن الإله يخبر جماعة إسرائيل والعالم أنه هو الخالق، ولذلك فهو صاحب ما يخلق، يوزعه كيفما شاء. ولذا، إذا قال الناس لليهود أنتم لصوص لأنكم غزوتم أرض إسرائيل وأخذتموها من أهلها فبوسع اليهود أن يجيبوا بقولهم: إن الأرض مثل الدنيا ملك الإله، وهو قد وهبها لنا. وقد استخدم الفيلسوف اليهودي مارتن بوبر المنطق نفسه في العصر الحديث في مجال تبرير الاستيلاء الصهيوني على الأرض.
يوجد إذن جانبان في اليهودية: واحد إنساني يقبل الآخر ويحاول التعايش معه وهو جانب أقل ما يوصف به أنه كان هامشياً، وجانب آخر غير إنساني عدواني يرفض الآخر تماماً. ولكن في القرن التاسع عشر ظهرت حركة الاستنارة اليهودية واليهودية الإصلاحية التي أكدت الجانب الإنساني وعمقته وحذفت من الصلوات اليهودية أية إشارات لإعادة بناء الهيكل وللعودة وللأرض المقدسة، وأكدت أن اليهودية ليست انتماءً اثنياً أو عرقياً أو حتى حضارياً وإنما هي انتماء ديني، شأنها في هذا شأن الإسلام والمسيحية. هذا على عكس الصهيونية التي عمقت الجانب العدواني الرافض للآخر، وطرحت تصوراً مؤداه أن اليهود شعب مثل كل الشعوب وأن من حقه أن "يعود" إلى وطنه. وقد أحيا الفكر الصهيوني الثالوث الحلولي (وحدة الإله بالشعب وبالأرض) ولكن بطريقة ماكرة ومراوغة للغاية، إذ تم تأكيد فكرة القداسة بشكل وتم التزام الصمت بخصوص مصدرها: هل هي من الإله (وهذه هي الصيغة التي تأخذ بها الصهيونية الدينية) أم هي صفة مُتوارَثة لصيقة بالشعب اليهودي والأرض اليهودية، كامنة فيهما (وهي الصيغة التي تأخذ بها الصهيونية اللادينية). والصيغة الدينية هي حلولية متطرفة بحيث يتم تقديس الأرض لأنها متوحدة مع الإله، أما الصيغة العلمانية فهي حلولية بدون إله حيث تصبح الأرض هي الإله، وقد صرح موشي ديان أن أرض إسرائيل هي ربه الوحيد، كما صرح جابوتنسكي بأن الشعب اليهودي هو المعبد الذي يتعبد فيه.
وقد اكتسحت الصهيونية معظم أعضاء الجماعات اليهودية في العالم، العلماني منهم والمتدين، بل واكتسحت اليهودية الإصلاحية ذاتها بحيث أصبح مصطلح "يهودي" أو "صهيوني" مترادفين في أذهان الكثيرين، وتم توظيف العقيدة اليهودية في جانبها العدواني في خدمة الصهيونية. فعلى سبيل المثال، رغم أنه جاء في شرائع نوح السبع أنك لن تقتل لأن من يريق دم إنسان يقوض صورة الإله، لأن الإله قد خلق الإنسان في صورته (كما جاء في مقال شالوميت آلونى هآرتس 15 سبتمبر)، فالحاخامات الذين توظفهم الصهيونية في خدمتها يبررون قتل العرب بما في ذلك النساء والأطفال. فعندما وقعت مذبحة قبية عام 1953 قال الحاخام شاؤول يسرائيلى إنه من المباح قتل النساء والأطفال العرب، لأن العربي الصغير سيصبح عربياً كبيراً، والأم يمكن أن تلد أطفالا عرباً سيكبرون بمرور الوقت! وقد أفتى الحاخام إسحق جنزبرج، وهو رئيس مدرسة تلمودية عليا (يشيفا) في نابلس بأن دم العرب ودم اليهود لا يمكن اعتبارهما متساويين.
وقد جاء في العهد القديم أن اليهود يجب أن يكرموا الغريب الذي يعيش بين ظهرانيهم "لأنكم كنتم غرباء في أرض مصر". ولكن الحاخامات الصهاينة يفضلون اقتباس فقرات أخرى من العهد القديم هي تلك الخاصة بالكنعانيين التي جاء فيها أن اليهود يجب أن يحطموا الكنعانيين تماماً وألا يعقدوا معهم ميثاقاً وألا يظهروا أي رحمة تجاههم (تثنية: 7/2). وقد كتب الحاخام إسرائيل هس، حاخام جامعة بار إيلان، مقالا في مجلة الجامعة جاء فيها أنه قام بعدة بحوث واكتشف أن الإسرائيليين ملزمون بضرورة إبادة الفلسطينيين، نعم إبادة الفلسطينيين، لأنهم من سلالة العماليق وهي القبيلة التي تأمر التوراة اليهود بإبادتهم فهم رمز الشر (وليس من قبيل الصدفة أن يشير المستوطنون الصهاينة في الضفة الغربية إلى الفلسطينيين باعتبارهم "عماليق"، أي لابد من إبادتهم).
والله أعلم
* د. عبد الوهاب المسيري : مفكر مصري
** ثلاث مقالات منشورة في أعداد 22/01 و 29/01 و 05/02/2005 من جريدة الاتحاد الإماراتية