المطلب الرابع:
مسبغ النعم المستحق للعبادة:
من الحكمة في دعوة المشركين إلى الله تعالى
لفت أنظارهم وقلوبهم إلى نعم الله العظيمة:
الظاهرة والباطنة، والدينية والدنيوية.
فقد أسبغ على عباده جميع النعم:
{وَمَا بِكُم مِّن نِّعْمَةٍ فَمِنَ اللَّهِ}([1])،
وسخر هذا الكون وما فيه من مخلوقات لهذا الإنسان.
وقد بيّن سبحانه هذه النعم، وامتن بها على عباده،
وأنه المستحق للعبادة وحده،
ومما امتن به عليهم ما يأتي:
أولاً: على وجه الإجمال:
قال الله عز وجل:
{هُوَ الَّذِي خَلَقَ لَكُم مَّا فِي الأَرْضِ جَمِيعاً...}([2])،
{أَلَمْ تَرَوْا أَنَّ اللَّهَ سَخَّرَ لَكُم
مَّا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ
وَأَسْبَغَ عَلَيْكُمْ نِعَمَهُ ظَاهِرَةً وَبَاطِنَةً}([3])،
{وَسَخَّرَ لَكُم
مَّا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ جَمِيعًا مِّنْهُ
إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَاتٍ لِّقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ}([4]).
فقد شمل هذا الامتنان جميع النعم:
الظاهرة والباطنة، الحسّيّة والمعنوية،
فجميع ما في السماوات والأرض قد سُخِّر لهذا الإنسان،
وهو شامل لأجرام السماوات والأرض،
وما أودع فيهما من: الشمس والقمر والكواكب،
والثوابت والسيارات، والجبال والبحار والأنهار،
وأنواع الحيوانات، وأصناف الأشجار والثمار،
وأجناس المعادن، وغير ذلك مما هو من مصالح بني آدم،
ومصالح ما هو من ضروراتهم للانتفاع والاستمتاع والاعتبار.
وكل ذلك دالّ على أن الله وحده هو المعبود
الذي لا تنبغي العبادة والذلّ والمحبة إلا له،
وهذه أدلة عقلية لا تقبل ريبًا ولا شكًا
على أن الله هو الحق،
وأن ما يدعى من دونه هو الباطل([5]):
{ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ هُوَ الْحَقُّ
وَأَنَّ مَا يَدْعُونَ مِن دُونِهِ هُوَ الْبَاطِلُ
وَأَنَّ اللَّهَ هُوَ الْعَلِيُّ الْكَبِيرُ}([6]).
ثانيًا: على وجه التفصيل:
ومن ذلك قوله تعالى:
{اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ
وَأَنزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَخْرَجَ بِهِ مِنَ الثَّمَرَاتِ رِزْقًا لَّكُمْ
وَسَخَّرَ لَكُمُ الْفُلْكَ لِتَجْرِيَ فِي الْبَحْرِ بِأَمْرِهِ
وَسَخَّرَ لَكُمُ الأَنْهَارَ،
وَسَخَّر لَكُمُ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ دَآئِبَينَ
وَسَخَّرَ لَكُمُ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ،
وَآتَاكُم مِّن كُلِّ مَا سَأَلْتُمُوهُ
وَإِن تَعُدُّواْ نِعْمَتَ اللَّهِ لاَ تُحْصُوهَا
إِنَّ الإِنسَانَ لَظَلُومٌ كَفَّارٌ}([7]).
وقال عز وجل بعد أن ذكر نعمًا كثيرة:
{وَهُوَ الَّذِي سَخَّرَ الْبَحْرَ لِتَأْكُلُواْ مِنْهُ لَحْمًا طَرِيًّا
وَتَسْتَخْرِجُواْ مِنْهُ حِلْيَةً تَلْبَسُونَهَا
وَتَرَى الْفُلْكَ مَوَاخِرَ فِيهِ وَلِتَبْتَغُواْ مِن فَضْلِهِ
وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ،
وَأَلْقَى فِي الأَرْضِ رَوَاسِيَ أَن تَمِيدَ بِكُمْ
وَأَنْهَارًا وَسُبُلاً لَّعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ،
وَعَلامَاتٍ وَبِالنَّجْمِ هُمْ يَهْتَدُونَ،
أَفَمَن يَخْلُقُ كَمَن لاَّ يَخْلُقُ أَفَلا تَذَكَّرُونَ،
وَإِن تَعُدُّواْ نِعْمَةَ اللَّهِ لاَ تُحْصُوهَا
إِنَّ اللَّهَ لَغَفُورٌ رَّحِيمٌ}([8]).
أفمن يخلق هذه النعم وهذه المخلوقات العجيبة
كمن لا يخلق شيئًا منها؟
ومن المعلوم قطعًا
أنه لا يستطيع فرد من أفراد العباد
أن يحصي ما أنعم الله به عليه
في خلق عضو من أعضائه، أو حاسة من حواسه،
فكيف بما عدا ذلك من النعم في جميع ما خلقه في بدنه،
وكيف بما عدا ذلك من النعم الواصلة إليه
في كل وقت على تنوعها واختلاف أجناسها؟([9]).
ولا يسع العاقل بعد ذلك إلا أن يعبد الله
الذي أسدى لعباده هذه النعم
ولا يشرك به شيئًا؛
لأنه المستحق للعبادة وحده سبحانه.
************************
([1]) سورة النحل، الآية: 53.
([2]) سورة البقرة، الآية: 29.
([3]) سورة لقمان، الآية: 20.
([4]) الجاثية: الآية: 13.
([5]) انظر: تفسير البغوي 1/59، 3/72، وابن كثير 3/451، 4/149، والشوكاني 1/60، 4/420،
والسعدي 1/69، 6/161، 7/21، وأضواء البيان للشنقيطي 3/225-253.
([6]) سورة الحج، الآية: 62، وانظر: سورة لقمان، الآية: 30.
([7]) سورة إبراهيم، الآيات: 32-34.
([8]) سورة النحل، الآيات: 14-18، وانظر: الآيات: 3-12 من السورة نفسها.
([9]) انظر: فتح القدير 3/154، 3/110، وأضواء البيان 3/253.