قال سيد قطب رحمه الله تعالى مثنيا على الصحب الكرام رضي الله عنهم وأرضاهم في كتابه معالم في الطريق :
جيل قرآني فريد
هنالك ظاهرة تاريخية ينبغي أن يقف أمامها أصحاب الدعوة الإسلامية في كل أرض وفي كل زمان . وأن يقفوا أمامها طويلاً . ذلك أنها ذات أثر حاسم في منهج الدعوة واتجاهها .
لقد خرَّجت هذه الدعوة جيلاً من الناس - جيل الصحابة رضوان الله عليهم - جيلاً مميزًا في تاريخ الإسلام كله وفى تاريخ البشرية جميعه . ثم لم تعد تخرج هذا الطراز مرة أخرى .. نعم وُجد أفراد من ذلك الطراز على مدار التاريخ . ولكن لم يحدث قط أن تجمَّع مثل ذلك العدد الضخم ، في مكان واحد ، كما وقع في الفترة الأولى من حياة هذه الدعوة .
هذه ظاهرة واضحة واقعة ، ذات مدلول ينبغي الوقوف أمامه طويلاً ، لعلنا نهتدي إلى سرِّه .
إن قرآن هذه الدعوة بين أيدينا ، وحديث رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وهديه العملي ، وسيرته الكريمة ، كلها بين أيدينا كذلك ، كما كانت بين أبدي ذلك الجبل الأول ، الذي لم يتكرر في التاريخ .. ولم يغب إلا شخص رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فهل هذا هو السر ؟
ثم قال :
كان النبع الأول الذي استقى منه ذلك الجيل هو نبع القرآن . القرآن وحده . فما كان حديث رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وهديه إلا أثرًا من آثار ذلك النبع . فعندما سُئلت عائشة رضي الله عنها - عن خُلق رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قالت : " كان خُلقه القرآن " .
ذلك الجيل استقى إذن من ذلك النبع وحده . فكان له في التاريخ ذلك الشأن الفريد .. ثم ما الذي حدث ، اختلطت الينابيع . ! صبت في النبع الذي استقت منه الأجيال التالية فلسفة الإغريق ومنطقهم ، وأساطير الفرس وتصوراتهم ، وإسرائيليات اليهود ولاهوت النصارى ، وغير ذلك من رواسب الحضارات والثقافات . واختلط هذا كله بتفسير القرآن الكريم ، وعلم الكلام ، كما اختلط بالفقه والأصول أيضًا . وتخرج على ذلك النبع المشوب سائر الأجيال بعد ذلك الجيل ، فلم يتكرر ذلك الجيل أبدًا .
ثم قال :
إن منهج التلقي للتنفيذ والعمل هو الذي صنع الجيل الأول . ومنهج التلقي للدراسة والمتاع هو الذي خرَّج الأجيال التي تليه . وما من شك أن هذا العامل الثاني كان عاملاً أساسيًا كذلك في اختلاف الأجيال كلها عن ذلك الجيل المميز الفريد .
ثم قال :
هناك عامل ثالث جدير بالانتباه والتسجيل .
لقد كان الرجل حين يدخل في الإسلام يخلع على عتبته كل ماضيه في الجاهلية . كان يشعر في اللحظة التي يجيء فيها إلى الإسلام أنه يبدأ عهداً جديدًا ، منفصلاً كل الانفصال عن حياته التي عاشها في الجاهلية . وكان يقف من كل ما عهده في جاهليته موقف المستريب الشاك الحذر المتخوف ، الذي يحس أن كل هذا رجس لا يصلح للإسلام ! وبهذا الإحساس كان يتلقى هَدْي الإسلام الجديد ، فإذا غلبته نفسه مرة ، وإذا اجتذبته عاداته مرة ، وإذا ضعف عن تكاليف الإسلام مرة .. شعر في الحال بالإثم والخطيئة ، وأدرك في قرارة نفسه أنه في حاجة إلى التطهر مما وقع فيه ، وعاد يحاول من جديد أن يكون على وفق الهَدْي القرآني .
رحم الله سيد قطب وعفا عنه وتقبله في الشهداء وجمعنا به في جنات النعيم مع الذين أنعم الله عليهم من النبيين والصديقين والشهداء والصالحين وحسن أولئك رفيقا .