سلسلة قصة مهاجر
الدكتور نعيم محمد عبد الغني
القسم الثامن
أبو بصير
في الحلقة الماضية تناولنا هجرة الصحابي الجليل أبي جندل بن سهيل بن عمرو رضي الله عنهما، وقلنا إن أبا جندل لما رده الرسول لقريش تنفيذا لصلح الحديبية ذهب إلى أبي بصير في ساحل البحر، وكان إماما للمسلمين هناك، حيث هددوا قوافل قريش واقتصادها، وكي تكتمل الصورة فإننا نتناول قصة الهجرة لأبي بصير رضي الله عنه التي بلغت في شهرتها حدا لا يقل عن هجرة أبي جندل، فهما صنوان في هذا الأمر لا يفترقان، وقصة كل واحد منهما تطلب الأخرى.
ونأخذ رواية البخاري التي ذكر فيها قصة هجرة أبي بصير عند تعرضه لصلح الحديبية، وبوب عليها فقال: باب الشرط في الجهاد، ثم ذكر أن أبا بصير رجل من قريش وهو مسلم فأرسلوا في طلبه رجلين،
فقالوا العهد الذي جعلت لنا، فدفعه إلى الرجلين،
فخرجا به حتى إذا بلغا ذا الحليفة فنزلوا يأكلون من تمر لهم،
فقال أبو بصير لأحد الرجلين: والله إني لأرى سيفك هذا يا فلان جيدا فاستله الآخر،
فقال أجل والله، إنه لجيد لقد جربت به ثم جربت،
فقال أبو بصير: أرني أنظر إليه، فأمكنه منه فضربه، حتى برد وفر الآخر حتى أتى المدينة فدخل المسجد يعدو، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم حين رآه ( لقد رأى هذا ذعرا ). فلما انتهى إلى النبي صلى الله عليه وسلم قال: قتل والله صاحبي وإني لمقتول،
فجاء أبو بصير فقال: يا نبي الله قد والله أوفى الله ذمتك، قد رددتني إليهم ثم نجاني الله منهم،
قال النبي صلى الله عليه وسلم : ( ويل أمه مسعر حرب لو كان له أحد ).
فلما سمع ذلك عرف أنه سيرده إليهم، فخرج حتى أتى سيف البحر،
قال وينفلت منهم أبو جندل بن سهيل، فلحق بأبي بصير فجعل لا يخرج من قريش رجل قد أسلم إلا لحق بأبي بصير، حتى اجتمعت منهم عصابة فو الله ما يسمعون بعير خرجت لقريش إلى الشام إلا اعترضوا لها فقتلوهم، وأخذوا أموالهم،
فأرسلت قريش إلى النبي صلى الله عليه وسلم تناشده بالله والرحم لما أرسل، فمن آتاه فهو آمن فأرسل النبي صلى الله عليه وسلم إليهم فأنزل الله تعالى:
{ وَهُوَ الذي كَفَّ أَيْدِيَهُم عَنْكُم وَأَيْدِيَكُم عَنْهُم بِبَطْنِ مَكَّةَ مِنْ بَعْدِ أَنْ أَظْفَرَكُم عَلَيْهِم...}
إلى هنا انتهت رواية البخاري في قصة هجرة أبي بصير التي تكاد تذكر في مضمونها في بقية كتب السنة والتراجم، وما يضاف إليها أن أبا بصير عندما طلبت قريش من الرسول أن يأخذ من جاءه مسلما، وأن يحميهم من أبي بصير وجماعته، كان على فراش الموت فوضع كتاب رسول الله على صدره وفارق الحياة ودفنه أبو جندل وأقام على قبره مسجدا.
ومع هذه القصة الشهيرة المقتضبة لنا أن نقف بعض الوقفات:
أولا:
إن النبي صلى الله عليه وسلم كان وفيا بالعهد، وما حدث لأبي بصير وجماعته لم يكن من تدبير النبي، بل هو اجتهاد من الجماعة المسلمة المضطهدة التي فرت بدينها وهاجرت بطريقتها، ولم تشأ إحراج النبي بنقض عهده، وقد أقرهم النبي صلى الله عليه وسلم على هذا الاجتهاد بسكوته عليهم، إذ لم يبعث إليهم بمن ينهاهم عن فعلته، بل اعتبرهم خارج نطاق الدولة، ولهم أن يتصرفوا بالطريقة التي يحمون بها حياتهم، ويحفظون بها دينهم ونفذ بنود العهد حرفيا بأنه لم يستقبل في المدينة من جاء إليه مسلما من قريش باستثناء النساء، فإن الله حكم بألا يرجعن إلى الكفار، وقد علمت قريش ذلك، حيث رُوي أن العامري الذي قتله أبو بصير وهرب منه ليلوذ بالمدينة ثم بالبحر بعد ذلك أراد سهيل بن عمرو أن يكلم فيه النبي ليطلب ديته، لأنه من رهطه، فقال له أبو سفيان: ليس على محمد مطالبة بذلك، لأنه وفي بما عليه وأسلمه لرسولكم، ولم يقتله بأمره ولا على آل أبي بصير أيضا شيء، لأنه ليس على دينهم. وبهذا حدثت الثغرة الأولى في الاتفاق، حيث رأت أن الشرط الذي ظنوه في صالحهم انقلب عليهم، وهدد مصالحهم، فبعثوا يطلبون من النبي أن يلغي هذا الشرط من الصلح وأن يستقبل هذه الجماعة التي هددت مصالح قريش الاقتصادية، وبات الفتح قريبا.
ثانيا:
إن أبا بصير الذي هاجر بهذه الطريقة يعلم بنود الصلح، وخضع لأمر الله ورسوله، ولكنه استنبط من كلام النبي أن الله سيجعل له مخرجا، فاجتهد وقتل أحد الرجلين اللذين أخذاه في الطريق، وبهذا أفلت من قبضة قريش، ورجع إلى النبي فقال: ( ويل أمه مسعر حرب لو كان معه رجال ) فعلم أمرين الأول: أنه لو بقي في المدينة فسيرده الرسول لقريش، والثاني، أن قوله صلى الله عليه وسلم قال ( مسعر حرب لو كان معه رجال ) يشير إلى إمكانات أبي بصير القتالية، وذكائه وحيلته التي تنفع في الحرب، وتفيد في مثل هذه الظروف التي تمر بها الدولة الناشئة، فخرج في عرض البحر، وفعل ما فعل من تكوين جماعة مسلمة كانت شوكة في حلق، قال ابن حجر تعليقا على قوله عليه الصلاة والسلام ( ويل أمه مسعر حرب ) ، فلقنها أبو بصير فانطلق، وفيه إشارة إليه بالفرار لئلا يرده إلى المشركين، ورمز إلى مَن بلغه ذلك من المسلمين أن يلحقوا به، قال جمهور العلماء من الشافعية وغيرهم يجوز التعريض بذلك لا التصريح.
ثالثا:
إن أبا بصير كان يؤم الناس في الصلاة، وتخلى عن الإمامة لما جاءه أبو جندل الذي قدمه للإمامة وتعليم الناس القرآن، فكانت هذه الجماعة المؤمنة المهاجرة يقودها رجلان، الأول له خبرات قتالية، مصحوبة بحيل سياسية، والأخرى لرجل أكثر علما وله دراية بالخطابة والشعر؛ إذ هو ابن خطيب قريش سهيل بن عمرو، وسيكون له أثر في تعليم الناس، ومن ثم كان عملهم قائما على التخطيط والدراسة ومن قبل التوكل على الله.
إن هجرة أبي بصير مثلت فصلا مهما في تاريخ هجرة المسلمين إلى المدينة، ولذا كانت أكثر الهجرات شهرة وانتشارا، وعليها كانت استنباطات فقهية كثيرة في أحكام الجهاد، وقضايا لا يزال المسلمون يتعرضون لها إلى اليوم.
يتبع