تعقيب الشيخ أبو يحيى الخنفري -وفقه الله-:
أخي المكرم. تراجعك عما جاء في ذلك المبحث لا شك أنه أمر محمودٌ وتُشكر عليه، ويدلّ على إخلاص سريرتك مع ربك، فالحمد لله الذي بنعمته تتم الصالحات. ولكن ينبغي أن تعلم أخي أن لا أحد منا يعرف الآخر حتى نحسن أو نسيء الظن ببعضنا، وليس لنا إلا ما يخطّه قلم أحدنا ليعبّر عنه، فأنّى لي العلم بنوايا قلبك؟ وقد تعجّبت من ثنائك على محمد الأمين في كتابك، وقولك عنه: (شيخنا) في كثير من المواضع، وقد أعطيته أكثر من قدره، وبيّنت حاله وكأنه أفنى عمره في نصرة السنة النبوية ومقارعة الروافض وأهل البدع، مع أنه لم يصل إلى عشر معشار ذلك.
ومحمد الأمين هذا ليس بعالمٍ حتى تتبعه وتحتذي به، وتنقل عنه ما يكتب، وإنما هو لقيطُ علمٍ، بمعنى أنه ليس له أصل علمي يعتد به، ولا مشايخ يرجع إليهم، ولا آثار علمية - من كتب أو تلاميذ - تدل على علمه، وليس له إلا موقعه الشخصي الذي أسّسه بنفسه ولقّب نفسه فيه بالشيخ، وملأه بالمقالات الهزيلة البعيدة عن الضبط والتأصيل العلمي، وما هكذا يصنع الله العلماء. وينصح المشايخ بالابتعاد عن لقطاء العلم لأن ضررهم أكبر من نفعهم.
كما أن محمد الأمين جريء في الباطل، ويُزري بالصحيحين ويطعن في الثقات. وفضلاً عن ذلك، هو كذّاب، وقد كذّب في العديد من المواضع في بحثه، كاتهامه لقيس بن أبي حازم بالتدليس، وزيادته نصاً من عنده على لسان الذهبي لم يقله، وادعائه أن الكل اتفق على وثاقة مروان وأن جميع أهل الحديث رووا حديثه، وأن الذهبي وابن حجر يعدّانه من الصحابة، وكل هذا كذب وإفك واختلاق. ولا أخفيك أن ثناءك عليه، ووصفك له بـ (شيخنا)، وثقتك به، ونقلك عنه من بحثه، ألقت ظلالاً وافرة من الشك على منهجك، وأنك مخدوع به، وتسير على دربه وتنسج على منواله، وقد أزعجني ذلك الشيء وأحزنني حالك، وكذلك أثار مخاوفي أن تروّج لمنهجه الفاسد عبر المنتديات وتُزري بالصحيحين والسنن كما يفعل هو، وهذا أمر خطير لا سيّما أن الكل ينظر إليك بصفتك سلفي المنهج وطالب علمٍ في الحديث ويثقون بك، لذلك أغلظنا القول ولم أقصد إلا الخير لك حتى أنبّهك وأنبّه غيرك، ولكنك أثلجت صدري الآن أن تتبرّأ من منهجه وما يدعو له. فغلظتنا في القول كانت لموافقتك رأيه ومتابعتك لمنهاجه السقيم ونقلك لكذبه وافتراءاته، ولم أغلّظ عليك لمجرد وقوعك في الغلط، فكلنا نخطئ ونصيب، ولا أحد سلم من ذلك حتى حبر هذه الأمة.
وكان ينبغي عليك عرض كتابك على أهل العلم الثقات قبل نشره، حتى تكون على بيّنة من أمره، ولكنك استعجلت في نشره كما استعجلت في تأليفه هداك الله. واسمح لي بالقول أن المبحث ذاك قد ولّد عندي انطباعاً غير مدفوعٍ أنك لست متمكناً وضليعاً في علم علل الحديث – وإن كان عندك بعض إلمام – ، وهو من أجلّ علوم الحديث. وسبر علل الحديث من أدق المسائل وأصعبها ضبطاً وأوعرها مسلكاً، وانزلقت فيها أقدام كثير من أهل العلم. وما كان ينبغي عليك التصدّي لمثل هذه المواضيع الشديدة الوطأة على الكاهل دون أن تتسلّح بقدر وافرٍ من العلم فيها، فإن الخطب جلل، وهذه مسؤولية وأمانة ثقيلة تنوء بحملها إن قصر علمك عنها، فإنك عندما تتكلم في الدين، كأنك تنطق باسم الأمة كلّها، ونيابة عن رب العالمين! فالحذر الحذر أخي فهذا ميدان جدٍّ وجهادٍ لا لعب فيه، والإساءة فيه قد يُلحِق بك ثبوراً ويُوديك سعيرا.
واسمح لي أن أعلّق على ما ذكرته هنا:
وهو أن نقلنا عَنْ الأمين في مبحث مروان بن الحكم وقتله لطلحة بن عبيد الله وإن كان في النفس مِنْ صحتها شيءٌ لأن راويها هو قيس بن أبي حازم وفي سماعه مِنْ ام المؤمنين وشهوده الجمل كلامٌ قاله الإمام ابن المديني في العلل ! وهذا راجحٌ لدي لقرائن كثيرةً قد ناقشناها في ملتقى أهل الحديث وهو الأولى لديَّ مِنْ أن ما روي مِنْ أن قيساً حدث عَنْ أم المؤمنين عائشة كلاب الحوأب وما رويَّ مِنْ قتل طلحة لأنها مِنْ طريقه فهو يحكيها على سبيل الحكاية لا على سبيل السماع أو المشاهدة وفي هذا تأصيلٌ طويل
فإليك الجواب أخي المكرم:
أولاً. دعوى قتل مروان لطلحة، أطبق على صحتها أهل السير والمغازي والتاريخ، ولم يختلف فيها العلماء الثقات من الأوّلين كما ذكره غير واحد من أهل العلم. ولا يمكنك دفع تلك الدعوى الآن إلا بأدلة جازمة على غاية من القوة، ولن تحظى بالحصول عليها بعد أربعة عشر قرناً من وقوع الحادثة. لذلك سكت علماؤنا الأفاضل عن المسألة وانشغلوا عنها، وعفّوا أقلامهم عن ذكرها. ولم يتحمّس أحد من السلف الصالح في الدفاع عن مروان، وإبطال التهم عليه أو تبرئته مما قيل في حقه، ومرّوا عن سائر تلك الدعاوى والتهم بسلامٍ دون الخوض فيها، ودون أن يتجشّموا العناء الذي تجشمته. فهوّن على نفسك.
ثانياً. قيس بن أبي حازم من أجلّ التابعين وأكملهم وأصدقهم، ومن خيار أهل الأرض في زمانه، وكاد أن يكون صحابياً، وبلغ من الضبط والإتقان والديانة أعلى النهاية. أما ما اتهمته به أنت والمبطل محمد الأمين أنه مدلّس، فهذا بهتان عظيم وإفك مبين، لم يقله أحد في الأمة من قبل، وأنا أمهلك وأمهل الأمين عشر سنين أن تأتيني بكتابٍ أو اسم عالمٍ اتهمه بذلك. وأنت تابعته للأسف في كتابك، ونقلت عنه تلك الفرية، وكل من سيقرأ كتابك سيظن بقيسٍ الظنون، وقد ينتقل سوء ظنه إلى الصحيحين لأنهما رويا عن قيس وصحّحا روايته، وكل ذلك لأجل تعجّلك بالكتابة واتهام الناس بالباطل دون تريّث. ولا أدري كيف سيكون موقفك إذا خاصمك قيس يوم القيامة أمام ربك وحاجّك بهذا الإفك الذي نقلته عن الأمين! أم حسبت أنه سيتجاوز عنك يوم التناد ؟ وكذلك نقلت عنه إفكاً آخر على الذهبي في قوله بتشيّع رواية عمير بن إسحاق، وإفكاً ثالثاً على اسماعيل بتدليسه الحديث عن شعبة، فبدلاً من أن تنال الأجر بكتابك والمثوبة والشفاعة عند لقاء الله تنال السخط وتقف على رؤوس الأشهاد ليقتصّوا منك وينالوا من أجرك، فلا أدري هل تكتب الكتب لتقرّبك إلى الجنة أم لتقرّبك إلى النار ؟
ثالثاً. قيس اختلط في آخر عمره عندما بلغ المائة، ومن روى عنه قد سمع منه قبل اختلاطه، خصوصاً إذا كان الراوي عنه هو إسماعيل بن أبي خالد، لأنه هو الذي روى خبر اختلاطه، وهو أدرى بزمان اختلاطه وحاله، لذلك لم يعتبر أهل العلم اختلاط قيس قادحاً في روايته لا سيما إذا كان الراوي هو إسماعيل، ولم يرد عن أحدٍ من أهل الحديث أنه ردّ رواية إسماعيل عن قيسٍ أو ضعّفها لأجل ما كان من اختلاطه، ولهذا صحّح البخاري ومسلم رواية إسماعيل عن قيس. وقد خفي عليكما أن الذي روى أخبار الجمل عن قيس هو نفس إسماعيل، ولو علم أنه أخبر بها في حال اختلاطه لما رواها عنه. وإسماعيل إمامٌ حافظ وأجمعوا على إتقانه وضبطه. وهذا يزيل كافة الشكوك التي حاول المبطل الأمين إثارتها حول تلك الروايات ورجالاتها.
رابعاً. قولك: (وفي سماعه من أم المؤمنين وشهوده الجمل كلام قاله الإمام ابن المديني في العلل) غير صحيح، فإنه لا شك عندي في خطأ ابن المديني فيما ذهب إليه، فإنه لم يتابعه أحد على ذلك، وقد روى البخاري حديث إسماعيل عن قيس: "رأيت يد طلحة شلاء"، وقد رواه في الأصول لا في المتابعات، وهو يؤكد شهود قيسٍ للموقعة. وهذا الأثر الصحيح جذعٌ في عين الأمين، لأن قيساً يصرّح فيه بالرؤية، وهذا لا يحتمل التدليس والسماع، بل هو إما الصدق أو الكذب، ولا أحد يجرؤ على تكذيب قيسٍ إلا من ظلم نفسه. فلماذا لم يعلّق الأمين على هذا الأثر، أغفل عنه أم تغافل؟
خامساً. قد ثبت رواية قيس عن عائشة بدون واسطة، وكذلك روى عنها بواسطة أبي سهلة وهو ثقة على أي حال، وقيس ورد المدينة عقب وفاة النبي صلى الله عليه وسلم وأدرك أكثر الصحابة هناك، وروى عن العشرة. فإذا روى عن صحابي فالأصل حمله على السماع لأن هذا هو الذي يغلب على الظن، وهذا ما رجّحه العلائي أيضاً في قيس. وقد ذكر الذهبي وابن حجر والمزي رواية قيس عن عائشة.
ومسألة رواية الراوي عن شيخه تارة بواسطة، وتارة بدون واسطة، تتعلّق بمسألة الفرق بين المرسل الخفي والمزيد في متصل الأسانيد، وهي مسألة شائكة في علم علل الحديث ودقيقة المسلك، وتحتاج لعناية فائقة من المحقّق فيها. وقد ظهر لي من خلال قراءتي لكتابك ولبحث الأمين أن المسألة لم تتأصل عندكما جيداً. فينبغي التثبت والتروّي قبل إطلاق الأحكام بعجالة.
سادساً. حديث كلاب الحوأب صحيح، ولا أحد يقدر على ردّه، إلا حطّاب الليالي من أمثال الأمين ومن قبله ابن الجوزي. وللحديث أكثر من شاهد على صحته. وقد صحّح الحديث ثلّة من كبار الأئمة الحفّاظ كابن حبان والذهبي وابن حجر وابن كثير والألباني، ولم يرد عن أحدٍ من أهل العلم في القرون الثلاثة الأولى تضعيفه له عدا عما ورد عن يحيى بن سعيد القطان. وكنت قد قرأت فيما مضى بحثاً هزيلًا في تضعيف حديث الحوأب لأحد الفتية المغمورين، وقد نصّب نفسه عالماً وشيخاً ووضع نفسه في صف الذهبي وابن حجر، وملأ بحثه بالمغالطات التي يستحق التعزير عليه لشناعتها، وكشفت عن جهله المدقع بعلوم الحديث، ولو أنه سكت عنه لحفظ ماء وجهه، فالله المستعان على حدثاء الأسنان.
سابعاً. قولك: (فهو يحكيها على سبيل الحكاية لا على سبيل السماع أو المشاهدة) تحكّم بغير دليل.
ثامناً. قولك: (وهذا راجح لدي لقرائن كثيرة ناقشناها في ملتقى أهل الحديث) فاسد الاعتبار، لأن النظر في القرائن والترجيح بينها إنما يكون لأهل العلم والاختصاص لا لروّاد المنتديات.
تاسعاً: تهافتك الشديد على تضعيف حديث الحوأب بشتى الطرق الممكنة بعد تصحيح كبار الأئمة الحفّاظ له وسكوت السلف الصالح وأهل الحديث عن تضعيفه غير سائغ مطلقاً، وقد يضع علامات استفهام عليك. فإن كنت لا بُدّ فاعلاً فالتزم طريقة أهل العلم في قواعد الترجيح، ولا يكون طريقك لبلوغ ذلك يمر عبر تجريح فضلاء الناس من أمثال ابن أبي حازم.
ومن أهم واجبات طالب العلم أن يعرف قدره جيداً وقدر أهل العلم، وبالتالي ينزّل المسائل العلمية منزلتها التي تليق بها، وأنا لا أراك تفعل ذلك البتة، بل قفزت إلى أعلى السلم ونابزت أهل العلم واعترضت عليهم وابتدعت ما هو جديد، وأنت غير متقن للعلوم بعد.
فنصيحتي لك - نصيحة أخ محبّ ويريد لك الخير - أن تدع هذه المسألة وتنشغل بما ينفعك، وأن تكثر من دراسة الكتب حتى تتقن العلوم، وبعدها تبدأ النظر في أصول الاجتهاد وفنون الاعتراض على جهابذة أهل العلم. فالمشوار طويل وزادك فيه قليل، ولم تبلغ بعد إلا أوّله، والطريق شائك يدكّ ظهور الرجال ويشيّب رؤوسهم، وليس فيه إلا النجاة أو الغرق. فإن كنت عازماً عليه فارفق بالظهر حتى تقطع النهر.
وبالله التوفيق.