الخليج.. عربي أم فارسي ؟
هشام العوضي
أبتسم، وأتندر أحيانا، عندما أتتبع قصتنا مع المصطلحات.. فأحيانا نتقبل تسميات كنا منذ سنوات نخوض حروبا ضدها، وأحيانا بالعكس، نتعصب لتسميات ونتأدلج نحوها، لدرجة استعدادنا لأن نستشهد من أجلها!! في الحال الأولى،
مثلا، قبلنا أن يتحول "الوطن العربي" إلى "الشرق الأوسط"، وتسللت إلى خرائطنا ومفردات قواميسنا الدارجة "إسرائيل"، واختفت "فلسطين". وفي الحالة الثانية، لم يحسم بعد من يعيش على ضفتي الخليج، وما إذا كان الخليج عربياً أم فارسياً ؟؟!
وفيما ننتقد على إسرائيل تعصبها لـ"الهولوكوست"، وتحويلها إياه إلى صنم سياسي تكسر يد وسمعة كل من يقترب إليه بالتشكيك في "ألوهيته"، نفعل نحن الشيء عينه فيما يتعلق بتسمية ساحل طوله 3000 كليومتر، وُلد قبل أن تولد فارس ويولد العرب. وإذا كانت دول أوروبية تجرّم من لا يعترف بحادثة الهولوكوست، وتمنع دخوله إلى أراضيها، فإن إيران تفعل ذلك تقريبا عندما تمنع دخول أراضيها أية طائرة لا تعترف بأن الخليج "فارسي". وتفعل شركة طيران إيرانية قريبا من ذلك عندما تطرد مضيفا زلّ لسانه، ونطق خطأ "الخليج العربي" بدلا من "الخليج الفارسي"!!
أصعب شيء أن تتحول السياسة إلى إيديولوجيا. وينتقل أي احتكاك انساني من مستوى التفاوض، إلى ساحة المعركة، ولا يعد أي موضوع مسألة أخذ وعطاء، وإنما قضية حياة أو موت.. واعتقد أننا، عربا وإيرانيين، نرتكب خطأ فادحا عندما نعود إلى التاريخ لحسم أية مسألة جغرافية، ونتبنى منهجية صدام عندما عاد إلى الحقبة العثمانية من أجل أن يثبت أن الكويت كانت جزءا من العراق، لتبرير اعتدائه على البلد بغتة في 1990.
ولو أن التاريخ كان سيدا على الجغرافيا، ومرجعية لملكية الأراضي، فضلا عن أسمائها، لانقلبت الدنيا رأسا على عقب، ولتحولت خرائطنا في القرن الحادي والعشرين إلى خرائط القرن العاشر، ولكانت بلاد النهرين تضم إيران والعراق، والشام تضم فلسطين ولبنان، وفرنسا جزء من المانيا، وألمانيا قلب الإمبراطورية الرومانية.
ويقول لنا علماء الحفريات إن كثيرا من أراضي إيران ودول الخليج لم تكن موجودة على الخريطة أصلا، وإنها تكونت عبر ملايين السنين نتيجة تفجر براكين شكلت ما نحن عليه من جغرافيا، وللأسف من سياسة. ويقال إن جزر الكويت التسع تشكلت من الطمي الذي أفرزه كل من دجلة والفرات عبر شط العرب في العراق.. واقرأ إن شئت المزيد مما يقوله علماء منطقة الخليج في أصلها، فلربما تقزّمت في حسك السياسة المؤدلجة، وتنامى وعيك بوشائج الجغرافيا والقربى.
كنت في معرض للكتاب مرة، فشهدت مناقشة حادة بين مسؤول إيراني وامرأة تبيع خرائط حول ضرورة تغيير ما جاء في الخريطة من تسمة "الخليج العربي". وسرد المسؤول الإيراني، وكأنه مبشر ديني حافظ جيد لمواعظه، الدلائل التاريخية التي تدل على أن الخليج فارسي وليس عربيا. وقبل سنوات اعترضت إيران ومجموعة من المفكرين الإيرانيين، بعضهم من أنصار الشاه، ومناهض لحكم الملالي، علىNational Geographic لأن النشرية العلمية كفرت، عذرا أخطأت، ووضعت اسم "الخليج العربي" إلى جانب "الخليج الفارسي".. معنى ذلك أن مساعي في استرضاء إيران بوضع الاسمين معا لم يشفع للنشرة الرصينة. وفي 2006 هددت إيران بمقاطعة الألعاب الآسيوية في قطر، إذا أصر المنظمون والراعون في استخدام "الخليج العربي" في مراسلاتهم!! مشكلة حقا عندما يتحول "اسم" إلى إيديولوجيا ترتطم عليه السياسة والتاريخ.
أقرأ حاليا في كتاب بعنوان "الخليج الجديد" لكاتب بريطاني، لا عربي ولا إيراني.. يخاطب إدموند سوليفان قارئه الأجنبي، المتحرر من أدلجتنا الجغرافية،
قائلا إن الصفويين الذين حكموا إيران منذ القرن السادس عشر، هم أول من أطلق تسمية "الخليج الفارسي"، مدفوعين بنزعة قومية تميزهم جغرافيا عن حكم العثمانيين وقتئذ. ويبدو أن العثمانيين لم يبالوا كثيرا بالتسمية الصفوية، طالما أن البصرة كانت تحت سلطتهم، لدرجة أن الأتراك كانوا يسمون الطريق المائي عينه بـ"خليج البصرة"، وهي شبيهة بتسميات العرب قديما للطريق المائي بـ"خليج عمان" و"خليج البحرين".
وكان البريطانيون في القرن السابع عشر على علاقات وطيدة مع شاه عباس، أحد حكام الصفويين العظام، وأعانوه في فترة لاحقة على طرد البرتغاليين من المنطقة، وعلى بناء ميناء "بندر عباس" الشهير. وكان طبيعيا أن يخضعوا للتسمية الصفوية، لأسباب دبلوماسية واقتصادية، وفيما بعد، في مراسلاتهم وخرائطهم.. وظل الأمر كذلك إلى منتصف القرن العشرين، وكانت المراسلات التي يرسلها المعتمد السياسي إلى حكام المشيخات في الخليج، وبالعكس، تستخدم التسمية الصفوية "الخليج الفارسي". وظل الأمر إلى أن برزت القومية العربية على الساحة السياسية في فترة عبدالناصر، الذي كان من أوائل من طرح اسم "الخليج العربي" نكاية بسياسة شاه إيران وقتئذ التحالفية مع إسرائيل والغرب.
ولو قرأت في المسألة لوجدت أن هذا الطريق المائي المسكين تسمّى بأكثر من تسمية عبر التاريخ، لدرجة أني بدأت اعتقد أن الأسماك فيه احتارت، ولم تعد تعرف ما إذا كانت عربية أم فارسية!! فاسمه عبر التاريخ ضم "بحر أرض الإله"، و"الشروق الكبير"، و"بحر بلاد الكلدان"، و"بحر الجنوب"، و"البحر السفلي" مقابل "البحر العلوي"، ويقصد به "البحر المتوسط"، "والبحر المر"، إلى جانب ما ذكرته من تسميات حديثة تشمل "خليج البصرة"، و"خليج عمان"، و"خليج البحرين"، و"خليج القطيف" في المنطقة الشرقية في السعودية.
أي التسيمات إذاً نختار؟! مؤخرا تندر أحدهم، وقال ينبغي أن نطلق عليه حاليا "الخليج الأميركي"، وآخر تصالحيا اقترح أن نطلق عليه "الخليج" فقط، أما الرومانسيون فاقترحوا أن نطلق عليه "الخليج الإسلامي".. شخصيا لست ضد التسمية، طالما كانت لغاية التعريف، لا لغاية "التغريق".. أقصد "تغريق" المنطقة في حروب لا تنتهي.
*نقلاً عن "أوان" الكويتية