إلى أين سيهرب العرب هذه المرّة بعدما فقدوا قدرتهم على اتخاذ القرار؟..خيرالله خيرالله يقدم توصيفا متميزا لحالة المنطقة بعد رحيل بوش، ويشبه ماتمر به الأمة بعد غزة بما تلا نكبة 48 ومن قبلها سقوط الدولة العثمانية
17/01/2009
الراى
إلى أين سيهرب العرب هذه المرّة؟
خيرالله خيرالله
بعد أيام قليلة يغادر جورج بوش الابن البيت الأبيض. وبغض النظر عن التقويم الشخصي للأعوام الثمانية التي أمضاها الرجل في البيت الأبيض، لابدّ من الاعتراف بأنه استطاع تغيير خريطة الشرق الأوسط سياسياً في انتظار تغيير الحدود الجغرافية بين الدول في مرحلة لاحقة. باختصار، بدّل بوش الابن التوازنات التي كانت قائمة في الشرق الأوسط في مصلحة كل ما هو غير عربي في المنطقة تحت شعار «الحرب على الارهاب». لذلك، نرى الآن أن هناك الدور التركي الذي لا سبيل إلى تجاوزه، إضافة بالطبع إلى الدور الإيراني الذي تشكل الصواريخ التي تنطلق من غزة، والتي برّرت الحرب الأخيرة التي راح ضحيتها حتى الآن ما يزيد على ألف فلسطيني، إضافة إلى آلاف الجرحى، أفضل تعبير عنه. يضاف إلى هذه الصواريخ، تلك التي تنطلق من جنوب لبنان بين الحين والآخر، وهي صواريخ معروف تماماً من الذي يطلقها، رغم النفي المتكرر لـ «حزب الله».
كان لابدّ لإسرائيل من التأقلم مع المعطيات الجديدة في المنطقة، والتأكيد أنها لن تكون على حسابها، بل على حساب العرب وحدهم. وقد دفعها ذلك إلى شن الحرب على غزة لتأكيد أنها ليست خارج التوازنات الأقليمية التي خلقتها إدارة بوش الابن. أكثر من ذلك، جاءت حرب غزة التي فرضتها المؤسسة الأمنية الإسرائيلية بمثابة رسالة إلى إدارة باراك أوباما فحواها أن عليها التعاطي مع أمر واقع تفرضه إسرائيل، يتمثل في أنها قوة إقليمية على غرار إيران، وتركيا، وأن جيشها لم يفقد شيئاً من قدرة الردع التي كان يمتلكها.
يغادر جورج بوش الابن البيت الأبيض فيما إسرائيل تشن الغارة تلو الأخرى على غزة، وفيما العالم يتفرّج على المجزرة. إنها حرب لا تستطيع إسرائيل خسارتها... ولكن لا يبدو في الوقت ذاته أنها قادرة على أن تنتصر فيها نظراً إلى أن مفهوم الأنتصار غير واضح، باستثناء أن في إمكان قوة النيران الإسرائيلية تدمير جزء من القطاع، وتحويله إلى أرض طاردة لأهلها من منطلق أن ليس في الامكان العيش فيها في ضوء الدمار الواسع الذي لحق بها، وبالبنية التحتية الأساسية. تريد إسرائيل تدمير أي مقومات للحياة في غزة، فيما حركة مثل «حماس» تصرّ على إطلاق الصواريخ لا لشيء سوى لتبرير إرهاب الدولة الذي تمارسه إسرائيل بكل صفاقة.
يغادر جورج بوش الابن البيت الأبيض فيما تركيا الدولة الوحيدة في المنطقة القادرة على التحدث إلى كل الأطراف من دون استثناء. تركيا وسيط بين سورية وإسرائيل وتركيا، وسيط قادر على التحاور مع «حماس»، ومع السلطة الوطنية الفلسطينية، ومع إيران، ومع العراق، ومع مصر، ومع دول الخليج. إنها في موقع فريد من نوعه تدل عليه مشاركتها في القوة الدولية المعززة في جنوب لبنان. أي أنها معنية بتنفيذ القرار الرقم «1701» الذي وضع حداً للعدوان الإسرائيلي على لبنان صيف العام 2006.
يغادر جورج بوش الابن البيت الأبيض وإيران تمتلك، على الرغم من أوضاعها الداخلية الصعبة، أوراقاً اقليمية عدّة لم يسبق لها أن امتلكت مثلها. انها تسيطر بفضل «حزب الله» على جزء من الأراضي اللبنانية، وأثبتت بعد غزوة بيروت في السابع من مايو الماضي أنها تتحكم بالعاصمة، وبكل زاوية فيها، وأن مسلحيها قادرون على نشر ثقافة الموت في المدينة في اللحظة التي تصدر طهران فيها الأوامر بذلك.
ما الذي تسبب في هذا الوضع الجديد في الشرق الأوسط الذي يجهل العرب عموماً كيف التعاطي معه؟ هنا يجب العودة إلى حرب العراق. أدت حرب العراق إلى خلل اقليمي يصعب التكهن بمداه، أو بالنتائج التي ستترتب عليه في المدى البعيد. ما نشهده حالياً من صعود لتركيا ودورها، ومن قدرة إيرانية على لعب أدوار في العراق، ولبنان، وفلسطين، وحتى داخل سورية نفسها، ليس سوى نتيجة مباشرة للفراغ الذي أوجده الأميركيون في العراق. هذا لا يعني في طبيعة الحال دفاعاً عن نظام صدّام حسين العائلي- البعثي، نظام المقابر الجماعية، الذي لم تكن له علاقة بما يدور في العالم. كان التخلص من النظام واجباً إنسانياً، لكن مشكلة إدارة بوش الابن تكمن في أنها لم تقدر في أي لحظة من اللحظات خطورة الفراغ الذي سينجم عن اسقاط النظام العراقي من دون اتخاذ قرارات تتسم ببعض الحكمة، من نوع تفادي حل الجيش الوطني، والابتعاد عن كل ما من شأنه تعزيز وضع الأحزاب المذهبية المدعومة من إيران، والتي تمتلك ميليشيات خاصة بها.
لعلّ أخطر ما في العدوان الذي تتعرض له غزة أنه كشف مدى التغلغل الإيراني في المنطقة العربية، ووجود رغبة دفينة في استخدام الورقة الفلسطينية لخلخلة المنظومة الأمنية العربية انطلاقاً من مصر، وذلك من منطلق ديني ومذهبي تغطيه «حماس» بصفة كونها جزءاً من حركة «الأخوان المسلمين».
من حسن الحظ أن مصر صمدت وعرفت، أقله إلى الآن، الرد على التحدي الذي مثله الخطاب التذهبي الإيراني المزايد الذي استهدفها بغطاء من «حماس». وكشف العدوان في الوقت ذاته أن تركيا مستعدة لأن تكون في كل مكان بما في ذلك أن تلعب دور الوسيط بين إسرائيل و«حماس» على حساب الشرعية الفلسطينية، التي افتقدت في الأشهر الأخيرة القدرة على اتخاذ أي مبادرة من أي نوع كان. كذلك كشف العدوان أن إسرائيل باتت تدرك أن في استطاعتها الذهاب بعيداً في اللعب على التناقضات العربية انطلاقاً من استغلالها لحجة صواريخ «حماس» التي يبدو أنها ستحرر غزة من الغزاويين!
يترك بوش الابن لباراك أوباما عالماً في حال من التخبط اقتصادياً، وسياسياً. لكنه يترك الشرق الأوسط في حال مخاض. ذنب العرب الأساسي أنهم افتقدوا في الأعوام الأخيرة القدرة على استيعاب معنى الفراغ في العراق، والتحولات التي يشهدها البلد الذي كان ركناً أساسياً من أركان النظام العربي، والمنظومة الأمنية العربية منذ اعيد تشكيل الشرق الأوسط في العشرينات من القرن الماضي نتيجة انهيار الدولة العثمانية. لهذا السبب وليس لغيره، نجدهم اليوم، في مواجهة العدوان على غزة، في حال تخبط لا سابق لها... لا تشبه هذه الحال شيئاً في تاريخهم الحديث باستثناء مرحلة ما بعد انهيار الدولة العثمانية في العشرينيات من القرن الماضي، ومرحلة ما بعد النكبة في العام 1948 عندما لم يدركوا كلياً معنى زرع دولة إسرائيل على أرض فلسطين، والنتائج التي ستترتب على ذلك. هربوا وقتذاك من النكبة إلى الانقلابات العسكرية. إلى أين سيهربون هذه المرة، إلى أين سيهربون بعدما تبين أن ليس في استطاعتهم اتخاذ قرارات جريئة من نوع الإعلان بصراحة، وبصوت واضح ومرتفع أن على «حماس» أن تكون تحت السقف العربي، وأن كل صاروخ من صواريخها يوظف في خدمة الاحتلال الإسرائيلي، ومشروع تحويل «الجدار الأمني» الذي يقسم الضفة الغربية إلى أمر واقع.
خيرالله خيرالله
كاتب وصحافي لبناني مقيم في لندن