تابع : مشاركة همدان في صفين :
ويعجب شاعرهم المعراء بن الأقبل من موقف أهل الشام ومنعهم الفرات من أهل العراق ، في قصيدة طويلة تعرض في تضاعيفها لمعاوية وصحبه بالسخرية تارة وبالزجر والتهديد تارة أخرى يقول.
لعمر أبي معاوية بن حرب *** وعمرو ما لدائهما دواء
أتحمون الفرات على رجالٍ *** وفي أيديهم الأسل الظِماء
حتى إذا انتهت وقعة الماء ، ونشط السفراء في الصلح بين الفرقين كان لرجال همدان جهداً واضح في هذا الميدان ، نذكر منهم سعيد بن قيس صاحب أول سفارة يومئذ، ويذكر أنه وجه كلمة بليغة إلى معاوية حذره فيها من مغبة تلك الفتنة الطاحنة ، وأنتهت جهود السفراء بين الفرقين على الإخفاق وبدأت وقائع القتال في صفين.
ودور همدان في صفين دور بارز حفظت لنا المصادر التاريخية قدراً كبيراً منه ، كشف عن بطولات فرسانهم ، وما كان يجري على ألسنتهم من الشعر .
وكان الأمام علي بن أبي طالب عليه السلام قد عبأ همدان في اليوم السادس والثامن من أيام صفين لقتال أهل الشام ، فكانت في كل هذه الأيام تضرب من يقف بإزائها من أهل الشام حتى تلحقهم بقبة معاوية البيضاء . وشهدت صفين يوماً من أيام همدان العظيمة وذلك بعد مقتل الصحابي الجليل (( عمار بن ياسر )) وقد أفاضت كتب التاريخ في ذكر وقائعها في ذلك اليوم.
ويذكر أن معاوية قد أعجزته مواجهة أهل العراق ، فلجأ إلى الغدر والحيلة ، إذ أمر من قبله أربعة آلاف فارس ذوي بأس وشدة ، بأن يلتفوا من وراء أهل العراق فيقاتلوهم من حيث لا يتوقعون ، غير أن همدان وقفت لهذا الجيش بالمرصاد ، وقابلوا خدعتهم بخدعة أقوى وأشد فقتلوا منهم خلقاً كثير . وتعاظمت الأمور على معاوية ، وغمه ما لقي من همدان في ذلك اليوم ، فعزم على أن يقصدهم بنفسه وأصبح لم يدع فارساً مشهوداً ولا بطل معلماً من رجال أهل الشام إلا حشده لحرب همدان ، وسار يتقدم الصفوف وينشد:
لا عيش إلا فوق قحف الهام *** من أرحبٍ وشاكرٍ شبام
ويذكر في خبر هذا اليوم أن سعيد بن قيس حين رأى معاوية أقحم عليه فرسه ففاته معاوية هارباً فقال سعيد بن قيس:
يا لهف نفسي فاتني معاوية *** فوق طميرٍ كالعقاب هاوية
وخرج عمر بن الحصين السكوني يريد علياً عليه السلام بصفة خاصة وكان عمرو من فرسان العرب المعدودين في الحرب فأعترضه سعيد بن قيس قبل أن يصل على أمير المؤمنين وطعنه طعنة دق بها صلبة ، وقتل معه رجلاً من رعين ثم أنشد قائلاً :
لقد فجعت بفارسها رعين *** كما فجعت بفارسها السكون
وبعد مقتل عمرو بن الحصين، انتدب معاوية عكا وكانوا من أشرس أهل الشام وأشدهم بأسا، وانتدب لقيادتهم عمرو بن العاص ووجه بهم إلى همدان في الميمنة. فوقف عمرو بن العاص يثبتهم ويحثهم على قتال ذلك اليوم العظيم فكان مما جاء في كلمته قوله: يا معشر عك إن عليا قد عرف أنكم حي أهل الشام، فعبأ لكم حي أهل العراق همدان فاصبروا.. وتقدمت عك وتقدمت بإزائها همدان فنادى سعيد بن قيس في رجاله: خدموا القوم فأخذت السيوف أرجل عك وهزموا شر هزيمة وفي ذلك اليوم قال راجز همدان:
يــا لبكيــل لخـمهــا وحــاشـد *** نفسي فداكم طـاعنــوا وجـالــدوا
حـتى تـخــر منــهم الـقمـاحــد*** وأرجـــل تـتـبـعـهـــا ســواعـــد
ويروى أن عكـا حين انتدبها معاوية لقتال همدان, شرطت عليه أن يزيد في عطائها وأن يقطعها من أرض الشام فأجابها لما سألته، وحين فشا ذلك الخبر في أهل العراق لم يبق أحد في قلبه مرض إلا طمع في معاوية وشخص ببصره إليه, وبلغ ذلك عليا فساءه أمرهم. بينما ثبتت همدان على ولائها له وسارت إليه في جمهورها حتى إذا وقفت بين يديه تكلم فارسها وشاعرها المنذر بن أبي حمضة الوادعي وهو من فرسان اليرموك والقادسية, فقال: "إن عكـا طلبوا إلى معاوية الفرائض والعطاء فأعطاهم, فباعوا الدين بالدنيا وإنا رضينا بالآخرة من الدنيا, وبالعراق من الشام, وبك من معاوية فوالله لآخرتنا خير من دنياهم, ولعراقنا خير من شامهم ولإمامنا خير من إمامهم وأهدى فاستفتحنا بالحرب, وثق منا بالنصر واحملنا على الموت ثم أنشد:
إن عكاُ سالوا الفرائض َ والأشعر*** سالوا جوائزا بثنيه
تركوا الديـــن للعطاء وللفـر ض *** فكانوا بذلك شر البريه
وسألنا حســــــن الثواب مـن الله *** وصبر على الجهاد ونيه
في قصيدة طويلة عقد فيها موازنة بين الأمام علي عليه السلام ومعاوية من جهه وبين أهل الشام والعراق من جهة ثانية فأثنى عليه أمير المؤمنين وعلى قومه.
وكان معاوية قد حشد لهمدان خيلاَ عظيمة رآها أمير المؤمنين فعرف أنها من عيون الرجال, فأنتدب همدان وأخذا يثبتها ويوصيها بالصبر, فعسى إن يفتح الله على يديها بالنصر.واندفعت خيل همدان حتى خالطوا خيل معاوية فما هي إلا ساعةَ حتى مكنهم الله من النصر المبين بعد أن أبلوا في قتال ذلك اليوم بلاء عظيماَ قرت به عين أمير المؤمنين على بن أبي طالب عليه السلام, فقال: يا معشر همدان, أنتم درعي ورمحي, ما نصرتم إلا الله وما نصرتم غيره. فأجابه سعيد أبن قيس بقوله: نصرنا الله ونصرناك ونصرنا نبي الله فيقبره وقاتلنا معك من ليس مثلك, فأرمي بنا من حيث أحببت, قال على عليه السلام:
دعوت فلباني من الموت عصبة*** فوارس من همدان غير لئام
فوارس من همــــدان ليس بعزل***غداة الوغى من شاكر وشبام
جزا الله همــــــدان الجنان فإنها*** سمام العدى في كل يوم زحام
ومن أيام همدان المشهورة بصفين يومها مع أهل حمص, وكان أمير المؤمنين قد ساءه ما لقيه من أهل هذا الحي, فنادى في همدان أن أكفوني أهل حمص, فتقدمت إليهم همدان, وإن دفع فرسانها وصناديدها وقد شدوا شدة رجل واحد حتى خالطوا أهل حمص فضربوهم بالسيوف وعمد الحديد حتى كشفوهم وقتلوا منهم مقتلة عظيمة وفي ذلك اليوم يقول راجزاَ همدان:
قد قتل الله رجال حمص *** حرصاَ على المال وأي حرص
غزوا بقول كذب وخرص*** قد نكص القوم وآي نكص
................عن طاعة الله وفحوا النص.....................
وقال حجر بن قحطان الوادعي يذكر بلاء قومه في ذلك اليوم ويعرض بمعاوية ويذكر فراره أمام سعيد أبن قيس في قصيدة طويلة منها:
آلا يا ابن قيس قرت العين إذا رأت*** فوارس همدان بن زيد بن مالك
على عارفات للجيــــــاد عوابــس *** طوال الهوا دي مشرفات الحوارك
عباها على لابن هنــــــــــد وخيله *** فلو لم يفتها كان أول هالك
قتلنا حماة الشـــــــــام لا در درهم *** بسمر العوالي والسيوف البواتك
وتستقبل همدان يوم آخر من أيام صفين يوما رزئت فيه بقتل أشرافها وفرسانها وخيرت رجالها ممن شهدوا قتال ذلك اليوم العصيب إذ كانت ميمنة أهل العراق قد تضعضعت وانهزم أكثر الناس إلا صابر شجاع, فيهم ثمانمائة فارس من همدان ثبتوا على راية قومهم فقتل منهم يومئذ مائة وثمانون رجل فيهم إحدى عشر رئيساً من شبام هم بنو شريح, قال الطبري: كان أول من أصيب منهم شريح وإخوة له ستة, شرحبيل ومرثد وهبيره، وهريم وشهر وشمر أبناء شريح, وقد قتلوا في وقت واحد وانتهت رايتهم إلى سفيان ابن زيد ثم كريب أبن زيد ثم عبد الله أبن زيد, فقتل ثلاثتهم أيضا فأخذ الراية عمير بن بشر ثم أخوه الحارث أبن بشر فقتلا جميعاَ, ولم تزل راية همدان تنتقل من رجل إلى أخر ولم يصرف بقية الناس من الموت عليها إلا حلول الظلام ونختم هذا الحديث عن مشاركة همدان في صفين بتوضيح لموقفها من قضية التحكيم فقد انقسم أهل العراق إزاء هذه القضية إلى فريقين, فريق يرى ما كان يراه أمير المؤمنين على بن أبي طالب عليه السلام من الاستمرار في القتال, وفريق كره القتال ومله وأخذ يضغط بقوة على الأمام على لقبول التحكيم وقد هدد هذا الفريق بوقف نشاطه في القتال والانسحاب من الميدان إن لم ينزل أمير المؤمنين على مبدأ التحكيم.
وكانت همدان على رأس الفريق الأول الذي يرى استمرار القتال, ففي وسط هذا الجو المشحون بالتوتر وقد غلب على كثيرا من أهل الكوفة الخور والضعف, نرى سعيد أبن قيس الهمداني, يجمع قومه ويقبل بهم وكأنهم عقبان كاسرة, حتى إذا وقف بين يدي الإمام على أبن أبي طالب عليه السلام, قال: هأنذا وقومي يا أمير المؤمنين لا نرادك في شيء ولا نرد عليك فمرنا بما شئت, فأثنى أمير المؤمنين عليه وعلى قومه وصرفهم قائلاَ: ما كنت لأعرض قبيلة واحدة للناس.
ورضيت همدان بما ارتضاه أمامها وكان ممن حضر الحكمين منهم سعيد أبن قيس أول المعارضين إذ أبدى اعتراضه وتبعه همدان وقال:"إن ضلال عمرو أبن العاص وأبي موسى الأشعري ليس منا بلازم وإنا اليوم على ما كنا عليه بالأمس"