بسم الله الرحمان الرحيم. و صلى الله و سلم و بارك على نبينا محمد و على أله و صحبه و من اتبعه بإحسان إلى يوم الدين.
أما بعد,
فقد حافظ المسلمون بالأندلس بعد سقوط غرناطة سنة 1492م بأغلب تعاليم الدين الإسلامي. و قد خوّلت لهم معاهدة تسليم غرناطة التي عقدها الملكان الكاثوليكيان مع الملك المسلم أبي عبد الله الزغبي- عفا الله عنه- خولت للمسلمين الأحتفاظ بدينهم بل و حمايتهم من أذى النصارى.
فقد جاء في المادة الرابعة من المعاهدة: " يسمح صاحبا السمو, و سلالتهما, للملك أبي عبد الله الصغير و شعبه أن يعيشوا دائما ضمن قانونهم (أي بممارسة الشعائر الإسلامية) دون المساس بسكناهم و جوامعهم و مناراتهم......"
و جاء كذلك في المادة الثانية عشر :"لا يسمح بأي نصراني بدخول المساجد, أو أي مكان لعبادة المسلمين, دون إذن من الفقهاء. ومن يخالف ذلك يعاقبه صاحبا السمو"
و جاء في المادة الثانية و الثلاثون:"لا يجوز إرغام مسلم أو مسلمة على اعتناق النصرانية".
لكن ما كاد حبر المعاهدة يجف حتى نقض النصارى و ثيقة التسليم و كشر الصليب عن أنيابه و بدأ المسلمون الأندلسيون أطول رحلة اضطهاد في التاريخ يتعرض له شعب ما.
قام القساوسة و الرهبان بتحريض الملوك الكاثوليك ضد المسلمين و أوعزوا لهم بضرورة تنصيرهم و ذلك للمحافظة على الوحدة الدينية لإسبانية الكاثوليكية و كذلك لتجنب أي عودة محتملة للإسلام بالأندلس.
و بالفعل استجاب الملوك الكاثوليك لهذه التحريشات الصليبية و بدأوا في إصدارقوانين تحرم على المسلمين استعمال اللغة العربية و لباس الزي الإسلامي و التسمي بالأسماء الإسلامية و الإغتسال و الإحتفال بالأعياد الإسلامية بل صدرت قوانين تجبر المسلمين غلى التنصر و من خالف هذه المحظورات أُعدم أو صودرت أمواله أو عُذب حتى الموت إلى غير ذلك من فنون الإضطهاد.
إزاء هذه الفتنة الكبرى انقسم الأندلسيون المسلمون إلى ثلاقة أقسام:
- قسم هاجر من الأندلس إلى بلاد الإسلام بإفريقيا.
- و قسم رفض مفارقة أرض الأجداد و أظهر النصرانية و حافظ على الإسلام سرا في انتظار فرج من الله. فقد كانوا لا يتصورونأن الإسلام سيغيب غيبة طويلة عن الأندلس و كانوا ينتظرون بين ساعة و أخرى وصول جيش مسلم يقوده طارق أخر, لكن قدر الله و ما شاء فعل.
- أما القسم الثالث فقد ضعُف و تنصّر و العياذ بالله و انذمج في المجتمع النصراني الإسباني.
و في انتظار فرج من الله , قام المسلمون الذين ظلوا بالاندلس بتنظيم حياتهم الإسلامية السرية و قد كان الأمر في غاية الخطورة خاصة و أن محاكم التفتيش تتعقبهم و تراقب كل كبيرة و صغيرة عنهم.
لكنهم رغم ذلك حافظوا على الغقيدة الإسلامية و قاموا بما استطاعوا عليه من العبادات و نقلوا الإسلام إلى أولادهم و سطروا تاريخا مجيدا في المحافظة على الإسلام حتى طُردوا من إسبانيا سنة 1609م. نعم... طٌردوا مرفوعي الرأس بعدما يئس القساوسة و الرهبان من تنصيرهم.
و من العبادات التي حافظ عليها المورسكيون ,خلال فترة عيشهم في جحيم الحكم النصراني, إقامة شعائر عيد الأضحى, بل لم يكتفوا بذلك ووضعوا كتبا سرية تفسر للمورسكيين معنى هذه الشعيرة.
و بما أن النصارى يتسبون حادثة التضحية لإسحاق دون إسماعيل عليهما السلام فإن المورسكيين أخذوا على عاتقهم –جزاهم الله خيرا- مهمة الدفاع عن اسماعيل عليه السلام و بينوا أن ابراهيم عليه السلام أُمر بذبح اسماعيل و ليس اسحاق و ردوا و أفحموا النصارى.
و برز ت في هذا الباب شخصيتان مورسكيتان هما الشاعر محمد الربضان و الفقيه محمد ديفارا و كلاهما من أراغون.
وقد حفظ لنا التاريخ –بفضل الله عز وجل- و ثيقتان مهمتان و قد وُجدتا بالمكتبة الوطنية الفرنسية ببالريس. و تبين هاتان المخطوطتان درجة فقه المورسكيين رغم مرور أكثر من 110 عام على محاولات تنصير مسلمي الأندلس.
و قد قام الدكتور الفرنسي لوي كاردياك بنقل مقتطفات من هذه المخطوطات فيي كتابه " المورسكيون الاندلسيون و المسيحيون" (ص 57-58). ومنه نقلتها في هذا الموضوع الذي أضع بين أيديكم.
يقول لوي كاردياك:
"إن المسيحيين و المسلمين يدعون جميعا أنهم من سلالة إبراهيم, إلا أن المسيحيين يقولون أنهم منحدرون من فرع شريف بالتدرج المباشر لإسحاق, بينما المسلمون يعدون من أبناء إسماعيل الغير الشرعيين و قد كان المورسكيون أكثر حساسية لرؤية تاريخ شعب الله المختارحيث عبروا بتأثر عميق عن صدمتهم لذلك. فالشاعر محمد ربضان, أحد مورسكيي أراقون قد كتب قبل عدة سنوات من الطرد , قصيدة طويلة حول :"شهرة نسب" الرسول محمد و الشعب العربي. و في المقدمة النترية للقصيدة, شرح الأسباب التي دفعته ليكتب مثل هذا العمل:" إنه فوق كل ذلك, نلاحظ شيوع الرأي لدى المسيحيين الكفار و حيث يمنحون, بثقة كاملة و إصرار, صفة اللقيط لإسماعيل و لكل سلالته و ينزعون عنه مجد التضحية و يمنحونها لإسحاق. كما أن المسيحيين ينسبون إليهم إبراهيم الطيب عليه السلام.
و كانوا يقولون أنه نظرا لنسبه اللقيط, فإنه لا يمكن أن يكون نبيا, و على الرغم من أن الإيمان متمكن جدا في كل المملكة, بفضل عناية الله تعالى, فإن هؤلاء الناس يولدون دوما لدى الأشخاص الضعفاء الفتور و العار, فقلبهم ضعيف و تربيتهم الدينية مخزية, و بالإضافة إلى ذلك قد حثوا و تحت تهديد هؤلاء الكفار الذين وضعوا من أجل ذلك كل سعادتهم و غبطتهم"(155) إن رد الإعتبار هذا لإسماعيل عوض إسحاق سوف يتم انطلاقا من تفسير السورة رقم 37 من القرأن و حيث يظهر أن الإبن الذي قبل إبراهيم التضحية به هو إسماعيل, و بالفعل, اثر هذا الإمتحان, وحيث خرج الرسول منتصرا, بشر عليه السلام"بنبإ طيب": تمثل في ولادة إسحاق (156).
أما المورسكي الأراقوني محمد ديفارا فقد شرح لإخوانه أساس عيد الأضحى, وقد كتب:"أطلق عليه إبراهيم و قد جرب على ابنه الحبيب إلى نفسه إسماعيل, إلا أن تجربة الله وقعت عليه, و الذين يقولون أن ذلك وقع لإسحاق لم يدركوا شيئا, لأن الأمر كان, بالفعل,متعلقا بإسماعيل, ومحاولة التجربة قد تمت بالفعل لإبراهيم عندما لم يكن لديه إلا ابن واحد, وحدث هذا قبل ولادة إسحاق,و لو كان لإبراهيم ابنان , فإن الجواب سيكون حتما أقل نبلا, لأنه في هذه الحالة, سيبقى له ابن أخر يسليه عن التضحية عن الإبن الأول" و قد ذكر هذا المورسكي أيضا, قبول أبراهيم بتضحية ابنه و شجاعة إسماعيل ثم تدخل الملائكة و تقديم كبش بدلا عنه للتضحية:" و سوف يطلق ابراهيم ابنه اسماعيل حيث كان و سوف يبقى نسبه متعددا و مدعوما". (157)
الهوامش
(155)-مخطوطة المكتبة الوطنية بباريس رقمesp.251.f°3 r° - V¨°. و قدم هذا القصيد على الشكل التالي: باسم القانون و السلالة و النسب المشهور لسيدنا و رسولنا محمد عليه السلام من خادم الله و الذي يرجو شفقته و رحمته محمد ربضان الأراغوني, أصيل مدينة رودا دو زالون (Rauda de Xalon), في سنة 1603 من ولادة المسيح ليتقبله الله برحمته. لقد أضفنا تاريخ إقامة الإسرائيليين و سلالتهم و تاريخ القيامة برزنامة الإثنى عشر قمرا و أخيرا 99 إسما من أسماء الله سبحانه"(ص10). "إن كل القصائد الموجودة في هذا المخطوط قد نشرها اللورد ستانلي من الديرلاي (Lord Stanley of Alderly) من مخطوطة بالمتحف البريطاني. راجع لذلك:
P. de Gayangos. Catalogue of de spanish mss in the British Museum. t1. p31)
و حسب مخطوطة المكتبة الوطنية بباريس الموجودة في :
Journal of thr Royal Asiatic Society of Great Britain and Irland (1868-1872)
أما قصيدة الإثنى عشر قمرا فقد كانت تنقص في "مخطوطة باريس". و على ضوء ملحوظة دو ساسي (De sacy) يمكن أن نضيف أن تيكنور)Ticknor) قد نشر فقرات مطولة من قصيدة ربضان في كتابه:
Historia de la litertura espanola. Madrid; Rivadeneyra 1851-1856..LIV.pp 275-326
أما القسم المعنون Espantos del dia del juiciv من القصيدة فقد نشر فيt.V pp 405-409Memorial Historico Espanol
(156) القرأن سورة الصافات. أما الإنجيل فقد قدم رواية أخرى للإنجيل سفر التكوين 12 ص1-19. " إن إبراهيم استفاق مبكرا, أسرج حماره و أخذ معه رفيقين و ابنه اسحاق..." اقتبسنا فقرات الإنجيل من الترجمة Ecole biblique de Jerusalem) edition du cerf; Paris. 1961.
(157) المكتبة الوطنية بباريس ms.esp.397. f°40.r°-v° وحول إبراهيم و المسلمين راجع الكتاب التالي:
ِClaude Layron. l'homme que Dieu aime. ABRAHAM ...Paris. Les editions du cerf. 1969... 3°^partie "le premier des musulmans" pp 149-166.