شرح حديث احثوا في وجوه المداحين التراب.
إن الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره ، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ، من يهده الله فلا مضل له ، ومن يضلل فلا هادي له أما بعد :
فإنّ مما دفعني لشرح هذا الحديث والبحث فيه، أنّي سمعت بعض الإخوة الدكاترة يذكره على المنبر ، ويقول :
هو كناية عن الخيبة والحرمان ، وليس هو على حقيقته!! ، فأزمعت شرح الحديث ، وإليكم خلاصته :
حديث (( احثوا في وجوه المداحين التراب )) :
رواه : أحمد في المسند ، ومسلم في صحيحه ، والبخاري في الأدب المفرد ، وأبو داود والترمذي وابن ماجه في سننهم وابن أبي شيبة في مصنفه ، وابن حبان في صحيحه ، والبيهقي في السنن الكبرى ، والآحاد والمثاني لابن أبي عاصم ، والطبراني في المعجم الكبير .
قال الإمام مسلم في صحيحه:
حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ الْمُثَنَّى وَمُحَمَّدُ بْنُ بَشَّارٍ - وَاللَّفْظُ لاِبْنِ الْمُثَنَّى - قَالاَ حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ جَعْفَرٍ حَدَّثَنَا شُعْبَةُ عَنْ مَنْصُورٍ عَنْ إِبْرَاهِيمَ عَنْ هَمَّامِ بْنِ الْحَارِثِ أَنَّ رَجُلاً جَعَلَ يَمْدَحُ عُثْمَانَ فَعَمِدَ الْمِقْدَادُ فَجَثَا عَلَى رُكْبَتَيْهِ - وَكَانَ رَجُلاً ضَخْمًا - فَجَعَلَ يَحْثُو فِى وَجْهِهِ الْحَصْبَاءَ !
فَقَالَ لَهُ عُثْمَانُ : مَا شَأْنُكَ ؟!
فَقَالَ: إِنَّ رَسُولَ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- قَالَ:
« إِذَا رَأَيْتُمُ الْمَدَّاحِينَ فَاحْثُوا فِى وُجُوهِهِمُ التُّرَابَ ».
ورواه أحمد ،والبخاري في الأدب المفرد وأبو داود والترمذي وابن ماجه وابن أبي شيبة ، والطبراني وفي رواية له :
(فَمَا زَالَ الْمِقْدَادُ يَحْثُو عَلَى الرَّجُلِ التُّرَابَ حَتَّى اسْتَتَرَ عُثْمَانُ بِمُطرَفٍ(1) مِنْ خَزٍّ).
وفي رواية له: (بعث وفد من أهل العراق إلى عثمان ، فجعلوا يثنون عليه ، فجعل المقداد يحثو في وجوههم التراب ) .
وفي رواية لأحمد :
(عَنْ مَيْمُونِ بْنِ أَبِي شَبِيبٍ قَالَ: جَعَلَ يَمْدَحُ عَامِلًا لِعُثْمَانَ، فَعَمَدَ الْمِقْدَادُ فَجَعَلَ يَحْثُو التُّرَابَ فِي وَجْهِهِ).
وقال الترمذي في جامعه:
((حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ عُثْمَانَ الْكُوفِيُّ حَدَّثَنَا عُبَيْدُ اللَّهِ بْنُ مُوسَى عَنْ سَالِمٍ الْخَيَّاطِ عَنْ الْحَسَنِ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ:
أَمَرَنَا رَسُولُ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- أَنْ نَحْثُوَ فِي أَفْوَاهِ الْمَدَّاحِينَ التُّرَابَ)).
وقال الطبراني في المعجم الأوسط :
حدثنا علي بن سعيد الرازي قال : نا أحمد بن محمد بن القاسم بن أبي بزة قال : نا مؤمل بن إسماعيل قال : نا عمارة بن زاذان ، عن ثابت البناني ، عن أنس بن مالك ، أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قال :
« إذا رأيتم المداحين فاحثوا في وجوههم التراب ».
في المسند:
حدثنا عبد الله حدثني أبي ثنا عفان ثنا حماد بن سلمة أنا على بن الحكم عن عطاء بن أبي رباح قال : كان رجل يمدح بن عمر قال فجعل بن عمر يقول هكذا يحثو في وجهه التراب قال سمعت رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يقول:
(( إذا رأيتم المداحين ، فاحثوا في وجوههم التراب )).
ورواه الطبراني في الكبير ، وابن حبان في صحيحه، وابن أبي شيبة ، وفي روايته :
يونس بن محمد قال حدثنا حماد بن سلمة عن علي بن الحكم عن عطاء بن أبي رباح أن رجلا كان يمدح رجلا عند ابن عمر ، فجعل ابن عمر يحثو التراب نحو وجهه بأصابعه وقال :
قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم- :
(إذا رأيتم المادحين فاحثوا في أفواههم التراب) .
قوله صلى الله عليه وسلم :
(( فاحثوا في وجوه المداحين التراب )).
(فاحثوا) :
قال النووي في شرح صحيح مسلم :
(( قَالَ أَهْل اللُّغَة : يُقَال : حَيْثُ أَحْثِي حَثْيًا ، وَحَثُوث أَحْثُو حَثْوًا ، لُغَتَانِ "..."
وَالْحَثْو هُوَ الْحَفْن بِالْيَدَيْنِ))اهـ.
قال النووي في شرح "صحيح مسلم " :
[هَذَا الْحَدِيث قَدْ حَمَلَهُ عَلَى ظَاهِره الْمِقْدَاد الَّذِي هُوَ رَاوِيه ، وَوَافَقَهُ طَائِفَة ، وَكَانُوا يَحْثُونَ التُّرَاب فِي وَجْهه حَقِيقَة .
وَقَالَ آخَرُونَ : مَعْنَاهُ خَيِّبُوهُمْ ، فَلَا تُعْطُوهُمْ شَيْئًا لِمَدْحِهِمْ . وَقِيلَ : إِذَا مَدَحْتُمْ فَاذْكُرُوا أَنَّكُمْ مِنْ تُرَاب فَتَوَاضَعُوا وَلَا تُعْجَبُوا ، وَهَذَا ضَعِيف] اهـ.
وقال السندي في حاشيته على المسند :
((حمل الحديث على ظاهره –أي:ابن عمر- وهكذا جاء عن المقداد أنه استعمل الحديث على ظاهره))اهـ.
قال الحافظ في الفتح :
[وَلِلْعُلَمَاءِ فِيهِ خَمْسَة أَقْوَال :
أَحَدهَا: هَذَا وَهُوَ حَمْله عَلَى ظَاهِره ، وَاسْتَعْمَلَهُ الْمِقْدَاد رَاوِي الْحَدِيث .
وَالثَّانِي: الْخَيْبَة وَالْحِرْمَان ، كَقَوْلِهِمْ لِمَنْ رَجَعَ خَائِبًا رَجَعَ وَكَفّه مَمْلُوءَة تُرَابًا .
وَالثَّالِث:قُولُوا لَهُ: بِفِيك التُّرَاب ، وَالْعَرَب تَسْتَعْمِل ذَلِكَ لِمَنْ تَكْرَه قَوْلَه .
وَالرَّابِع:أَنَّ ذَلِكَ يَتَعَلَّق بِالْمَمْدُوحِ ، كَأَنْ يَأْخُذ تُرَابًا فَيَبْذُرهُ بَيْنَ يَدَيْهِ يَتَذَكَّر بِذَلِكَ مَصِيره إِلَيْهِ فَلَا يَطْغَى بِالْمَدْحِ الَّذِي سَمِعَهُ .
وَالْخَامِس: الْمُرَاد بِحَثْوِ التُّرَاب فِي وَجْه الْمَادِح : إِعْطَاؤُهُ مَا طُلِبَ لِأَنَّ كُلّ الَّذِي فَوْق التُّرَاب تُرَاب ، وَبِهَذَا جَزَمَ الْبَيْضَاوِيّ ، وَقَالَ : شَبَّهَ الْإِعْطَاء بِالْحَثْيِ عَلَى سَبِيل التَّرْشِيح وَالْمُبَالَغَة فِي التَّقْلِيل وَالِاسْتِهَانَة.
قَالَ الطِّيبِيُّ : وَيَحْتَمِل أَنْ يُرَاد رَفْعُهُ عَنْهُ وَقَطْع لِسَانه عَنْ عِرْضه بِمَا يُرْضِيه مِنْ الرَّضْخ ، وَالدَّافِع قَدْ يَدْفَع خَصْمه بِحَثْيِ التُّرَاب عَلَى وَجْهه اِسْتِهَانَةً بِهِ]اهـ
قال ابن أبي شيبة في مصنفه:
وكيع عن سفيان عن عمران بن مسلم عن إبراهيم التيمي عن أبيه قال : كنا جلوسا عند عمر ، فأثنى رجل على رجل في وجهه حين أدبر ، فقال :
((عقرت الرجل ، عقرك الله)).
قلت(...) : و ظواهر النصوص دالة على حمله على حقيقته -و لا ريب – بل لو ذكره الذاكر إجماعا للصحابة فإنه لم يُبعد النجعة ، وذلك لما مرّ معك من آثار عن الصحب الكرام تدل على أنهم فهموا ذلك على حقيقته ولا مخالف لهم-فيما أعلم- من الصحب الكرام، ولا شك أن القاعدة المشهورة تقول :
إن الأصل في الكلام الحقيقة.
ولكن إنما يكون ذلك كذلك إذا لم يكن ثمة مفسدة مترتبة على مثل هذا الفعل –كما هو معلوم من قواعد الشريعة-
و الله أعلم.
_______________________
(1) قال في (لسان العرب) :
(والمِطْرَفُ والمُطْرَفُ واحد المَطارِفِ ، وهي أَرْدِية من خز مُرَبَّعة لها أَعْلام ، وقيل ثوب مربع من خزّ له أَعلام الفراء)اهـ.