تأملات في تحديـــد ليلـــة القـــدر الشـــريفة

[الملك محمد]

بسم الله الرحمن الرحيم ، وصلى الله على نبينا محمد وعلى آله وأصحابه التابعين ، أما بعد ،

أختلف رواة السنة في تحديد ليلة القدر (ولا يزالون مختلفين إلا ما رحم ربك) بعد أن أجمعوا على عظمتها وجلالة قدرها بموجب نص الآية الكريمة : (ليلة القدر خير من ألف شهر) ، أما تحديدها فقد عميت الأنباء على كثير ممن لم يستضيء بقبس من النور المحمدي والبيان العلوي ، فلم يوفقوا لمعرفة وقتها وتحديد ليلتها ، وكان هذا الاضطراب الحاصل بقصد من صاحب الشريعة ليميز شيعة الحق المنصاعين لقول الصدق ، ويختصهم بها دون غيرهم ممن ظلموا واستكبروا وجحدوا وغيروا وبدلوا جزاء لهم بما كانوا يعملون (ذلك بما قدمت أيديهم وأن الله ليس بظلام للعبيد) .

لقد أراد الرسول صلى الله عليه وآله وسلم أن يخص بهذه الفضيلة المؤمنين المخلصين دون الذين في قلوبهم ريب أو شك فلمح إلى تحديدها دون تصريح وعندما سئل عنها أتى جوابه على مراحل كثيرة مع تحفظ شديد لينالها المخلصون الذين ختم الله لهم بالحسنى بالانصياع إلى وصيه الذي طالما كان يقول لمن أراد فلاحه (أنا مدينة العلم وعلي بابها فمن أراد العلم فليأت الباب) .

1. المرحلة الأولى : عندما سئل عن ليلة القدر ، قال : (هِيَ فـي كُلِّ رَمَضَانَ) كما رواه صاحب الفتح الكبير وعزاه إلى الترمذي عن ابن عمر برقم 13085 .

2. المرحلة الثانية : عندما ألحوا عليه قال : (اطْلبوا لَـيْـلَةَ القَدْرِ فـي الْعَشْرِ الأَوَاخِرِ مِنْ رَمَضانَ) كما رواه أيضا صاحب الفتح الكبير وعزاه إلى الطبراني عن ابن عبـاس برقم 1932 .

3. المرحلة الثالثة : عندما سئل عن الزيادة في التوضيح قال : (تَحَرَّوْا ليلةَ القَدْرِ في الوِتْرِ منَ العَشرِ الأواخِرِ مِن رمضانَ) كما رواه البخاري عن عائشة برقم 1993 .

4. المرحلة الرابعة : عندما أكثروا عليه السؤال في أي الوتر هي قال : (تحَرَّوا لَيْلَةَ القَدْرِ في السَّبْعِ الأواخِرِ) كما رواه صاحب الفتح الكبير وعزاه إلى مالك ومسلم و أبي داود عن ابن عمر برقم 5304 . وقال أيضا: (اطْلُبُوا لَيْلَةَ الْقَدْرِ فِي الْعَشْرِ الأَوَاخِرِ ، فَإنْ غُلِبْتُمْ فَلاَ تُغْلَبُون فِي السَّبْعِ الْبَوَاقِي) كما في جامع الأحاديث والمراسيل عن عليٍّ برقم 3212 .

5. المرحلة الخامسة عندما طلبوه أن يكون أكثر تحديدا فقال : (في تاسعة تبقى في سابعة تبقى في خامسة تبقى) كما رواه البخاري عن ابن عباس برقم 1997 .

6. المرحلة السادسة وهي مرحلة التحديد على وجه الدقة التي حاول النبي صلى الله عليه وآله وسلم أن يتفاداها لأسباب تغيب عن كثير من الناس وحكمة أراد أن يختص بها من هو لها أهل من المؤمنين المخلصين الموقنين ، وقد أراد في إحدى الليالي أن يصرح بها علنا لكل الناس ولكنه أنساها (أي أخرها) حتى يبلغ الكتاب أجله ويصرح بها في الوقت المناسب بأمر من الله كما أمره بعدم التوسع في شرح قصة أصحاب الكهف التي أمره عز وجل أن لا يماري فيهم إلا مراء ظاهرا وأن لا يستفتي منهم فيهم أحدا وكما أخبره أن الأعراب أشد كفرا ونفاقا وأجدر ألا يعلموا حدود ما أنزل الله على رسوله . روى البخاري برقم 1999عن عبادة بن الصامت أن النبيُّ صلى الله عليه وسلم خَرَجَ ليُخْبرَنا بليلةِ القَدْرِ، فتَلاحى رجُلانِ منَ المسلمينَ فقال: خَرجتُ لأخبِرَكم بليلةِ القَدْرِ، فتَلاحى فُلانٌ وفلان فرَفُعَتْ، وعسى أن يكونَ خيراً لكم، فالتَمِسوها في التاسعةِ والسابعةِ والخامسةِ [ أي التي تبقى كما في الرواية السابقة] . ثم لمح تلميحا أقرب منه إلى التصريح حسب رواية مسلم عَنْ عَبْدِ اللّهِ بْنِ أُنَيْسٍ ، أَنَّ رَسُولَ اللّهِ صلى الله عليه وآله وسلم قَالَ: «أُرِيتُ لَيْلَةَ الْقَدْرِ ثُمَّ أُنْسِيتُهَا وَأَرَانِي صُبْحَهَا أَسْجُدُ فِي مَاءٍ وَطِينٍ» قَالَ: فَمُطِرْنَا لَيْلَةَ ثَلاَثٍ وَعِشْرِينَ. فَصَلَّى بِنَا رَسُول اللّهِ . فَانْصَرَفَ وَإِنَّ أَثَرَ الْمَاءِ وَالطِّينِ عَلَى جَبْهَتِهِ وَأَنْفِهِ. قَالَ: وَكَانَ عَبْدُ اللّهِ بْنُ أُنَيْسٍ: يَقُولُ: ثَلاَثَ وعِشْرِينَ.

7. المرحلة السابعة والأخيرة وهي مرحلة البيان الاختصاص فقد كان يغضب ممن يلح عليه في تحديدها كما روى الحاكم في المستدرك برقم 4007 عن أبي ذر قال : قلت : يا رسول الله أخبرني في أيّ رمضان هي؟ قال: «في الْعَشْرِ الْأَواخِرِ لا تَسْأَلُني عَنْ شَيْءٍ بَعْدَها» ، فقلت: أقسمت عليك بحقي عليك يا رسول الله في أيّ عشر هي؟ قال: فغضب علي غضباً شديداً ما غضب علي قبل ولا بعد مثله وقال: «لَوْ شاءَ الله لَأَطْلَعَكُمْ عَلَيْها، الْتَمِسوها في السَّبْعِ الْأَواخِرِ، لا تَسْأَلْني عَنْ شَيْءٍ بَعْدَها» . وقال الحاكم : هذا حديث صحيح الإسناد ولم يخرجاه (يعني مسلم والبخاري). ولكنه بعد هذا التحفظ الشديد مع أصحابه ربما طرأ عليه الرجل الغريب فيخصه كما روي عن الرجل الجهني الذي أمره بشهود الصلاة ليلة القدر . روى ابن خزيمة في صحيحه برقم 2192 ، بإسناده عن ابن عبد الله ابن أنيس عن أبيه قال قلت:« يا رسول الله إني أكون بالبادية وأنا بحمد الله أصلي بها، فمرني بليلة أنزلها لهذا المسجد، أصليها فيه. قال: انزل ليلة ثلاث وعشرين قال: قلت لابن عبد الله، فكيف كان أبوك يصنع؟ قال يدخل صلاة العصر، ثم لا يخرج حتى يصلي صلاة الصبح، ثم يخرج ودابته يعني على باب المسجد، فيركبها فيأتي أهله.» .

8. الأدلة على أن ليلة الثالث والعشرين هي أرجى الليالي موافقة لليلة القدر حسبما يفعل حاليا أتباع أهل البيت عليهم السلام :

 ما رواه مسلم عَنْ عَبْدِ اللّهِ بْنِ أُنَيْسٍ صاحب رسول الله صلى الله عليه وسلم ، أَنَّ رَسُولَ اللّهِ قَالَ: «أُرِيتُ لَيْلَةَ الْقَدْرِ ثُمَّ أُنْسِيتُهَا وَأَرَانِي صُبْحَهَا أَسْجُدُ فِي مَاءٍ وَطِينٍ» قَالَ: فَمُطِرْنَا لَيْلَةَ ثَلاَثٍ وَعِشْرِينَ. فَصَلَّى بِنَا رَسُول اللّهِ . فَانْصَرَفَ وَإِنَّ أَثَرَ الْمَاءِ وَالطِّينِ عَلَى جَبْهَتِهِ وَأَنْفِهِ. قَالَ: وَكَانَ عَبْدُ اللّهِ بْنُ أُنَيْسٍ: يَقُولُ: ثَلاَثَ وعِشْرِينَ.
 ما رواه ابن خزيمة عن عبد الله ابن أنيس أيضا : « أنه سئل ليلة القدر، فقال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم، يقول: التمسوها الليلة» وتلك ليلة ثلاث وعشرين .
 ما رواه ابن خزيمة عن قصة الرجل الجهني وهو عبد الله بن أنيس الذي أمره النبي صلى الله عليه وآله وسلم بالنزول ليلة ثلاث وعشرين ، وهو الحديث الذي أوردناه قبل هذا .
 ما رواه صاحب الفتح الكبير عن الطبراني برقم 5306 عن عبد الله بن أنـيس.قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم (تَحَرَّوْا لَيْلَةَ القَدْرِ لَيْلَةَ ثَلاثٍ وعِشْرِينَ) . وكذلك روي في جامع الأحاديث والمراسيل برقم 10214عن عبد الله بن أنيس أيضا بلفظ قالَ النَّبِيُّ : « تَحَرَّوْا لَيْلَةَ الْقَدْرِ لَيْلَةَ ثَلاَثٍ وَعِشْرِينَ » .
 ما رواه الحاكم في المستدرك على الصحيحين برقم 1437 بإسناده عن ابن عباس قال: كان عمر بن الخطاب رضي الله عنه يدعوني مع أصحاب محمد ويقول لي: لا تتكلم حتى يتكلموا قال: فدعاهم وسألهم عن ليلة القدر، قال: أرأيتم قول رسول الله «الْتَمِسوها في الْعَشْرِ الْأَواخِرِ» ، أي ليلة ترونها، قال: فقال بعضهم ليلة إحدى، وقال بعضهم: ليلة ثلاث، وقال آخر: خمس وأنا ساكت فقال مالك: لا تتكلم، فقلت: إن أذنت لي يا أمير المؤمنين تكلمت، قال: فقال: ما أرسلت إليك إلا لتتكلم، قال: فقلت: أحدثكم برأيي، قال: عن ذلك نسألك، ، قال: فقلت السبع [يعني في سبع ليال يبقين من الشهر] رأيت الله ذكر سبع سموات ومن الأرضين سبعاً وخلق الإنسان من سبع وبرز نبت الأرض من سبع الحديث ، وقال الحاكم : هذا حديث صحيح على شرط مسلم ولم يخرجاه.
 ما روي في جامع الأحاديث والمراسيل برقم 11376 عن إبْرَاهِيم قَالَ: «كَانَتْ عَائِشَةُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا تَرى لَيْلَةَ الْقَدْرِ لَيْلَةَ ثَلاَثٍ وَعِشْرِينَ» .
 ما رواه البخاري برقم 1991 بإسناده عن ابن عمرَ رضيَ الله عنهما: «أنَّ رجالاً مِن أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم أرُوا ليلةَ القَدْرِ في المنامِ في السَّبعِ الأواخِرِ، فقالَ رسولُ الله صلى الله عليه وسلم: أرَى رُؤْياكم قد تواطأَتْ في السَّبِعِ الأواخِرِ، فمنْ كان مُتحرِّيَها فلْيَتَحَرَّهَا في السَّبعِ الأواخِرِ».

وفي الختام نقول : الحمد الذي حبانا بدينه القويم ، واختصنا بمعرفة الثابت الصحيح من سنة نبيه الكريم ، وهدانا لولاية الأئمة الميامين ، الذين من تبعهم نجا ومن تخلف عنهم غرق وهوى ، والحمد لله الذي ألهمنا معرفة هذه الليلة الشريفة التي جهل الأشقياء وقتها وحرموا لشقائهم فضلها ، والحمد لله الذي آثرنا بها على سائر الأمم ، واصطفانا بفضلها دون أهل الملل ، حمدا كثيرا طيبا مباركا ، والصلاة والسلام على رسوله العالم العلم ، أشرف من مشى على الأرض بقدم ، محمد الشريف المكرم ، وعلى وصيه ضراب القمم ، علي بن أبي طالب الذي أباد الله بسيفه وانتقم ، من كل من بغى وظلم ، وعلى الأئمة من ذريتهما أنوار الدجى ومصابيح الظلم ، وسلم تسليما .

منقول !