السلام عليكم
كثرت التساؤلات عن موقف الامام علي عليه السلام مما جرى على البضعة الطاهرة سلام الله
عليها بعد وفاة الرسول صلى الله عليه و آله .
هل من المعقول ان عليا الذي قتل أبطال العرب يستسلم و يخرج من بيته قهرا؟
و هل من الممكن أن نتصور أن يتم ضرب و كسر ضلع فاطمة و التهديد بحرق دارها بمرأى
من زوجها علي عليه السلام من دون ان تكون له ردة فعل على هذه الجريمة العظمى؟
و جواب هذه التساؤلات يكمن في هذا المثال :
لو وقعت سرقه كبيرة في بيت فيه أطفال وفيه أموال كثيرة تهمُّ السارقين لأنهم قد خطَّطوا تخطيطاً مستقبلياً شاملاً لبناء مشروع يبتنى على هذه الأموال.. ولا يمكنهم الغضّ والتغافل عنها أبداً، ومن ناحية أخرى تلك الأموال لها أهمية لصاحبها وتشكل العصب الرئيسي في حياتهم مضافا إلى الأشياء الأثرية الثمينة التي لا يمكنهم التخلِّي عنها.
فيدور الأمر بين حالات ثلاثة لها نتائج مختلفة:
1 الصراخ وإخبار الناس عن السرقة من أهل البيت جميعاً وبالنتيجة حرق البيت ومن فيه وما فيه.
2 التزام السكوت والهدوء من جميع العائلة وإسكات الآخرين وأيضا خلق جو إعلامي يؤكِّد للناس أن البيت وما فيه لم يسرق بل قد بِيع على هؤلاء في مقابل ثمن فالبيت إذا هو حقُّهم الشرعي والقانوني وليس لصاحبه الأول المطالبة به أصلا.
3 التزام الهدوء من صاحب البيت وتحريض الأولاد على السكوت حفاظاً على البيت علماً بأن هناك من يُعلن عن السارقين (وهي الأم) ويصرخ في وجههم لأجل أخذ وثائق البيت ليس إلاّ.. (والمفروض أنَّ الوثائق مسجله باسمها).
فهنا نواجه ازدواجية المواقف موقف الوالد والأولاد وموقف الأم والمفروض على الوالد أن يُهدِّأ الكل، ولكن الأم لا تسكتْ حيث تطالب بحقِّها وهي الوثائق والمستندات، ولن تسمح بأن يسجَّل البيت باسم الغاصبين وإن أدَّى ذلك إلى موتها حيث يترجَّح ذلك الأهم على هذا المهمّ، حيث أنَّه من الطبيعي أن يرجع البيت بالأخير إلى صاحبه وإن طال الأمد عليه.
وحكمة الامام علي عليه السلام حتمت عليه ان يختار الحالة الثالثة حيث يحافظ على الاسلام
من التمزق و الصراعات الداخلية و في نفس الوقت يعلن عن طريق فاطمة عليها السلام عن
مظلوميته
عند ملاحظة جوانب الشخصيتين شخصيَّة الصدِّيقة الزهراء سلام الله عليها وشخصيَّة أمير المؤمنين عليه السلام وأيضاً عند ملاحظة مدى الارتباط والتعلق بينهما نعرف شدة البلاء الذي ابتليا به وعظمة الامتحان الإلهي ومستوى التكليف السماوي المخوَّل إليهما.
فلو أرادا أن يتحقق الهدف الذي هو الحفاظ على ظاهر الإسلام (وهو تكليف علي عليه السلام) والحفاظ على واقع الولاية (وهو تكليف الزهراء عليها السلام) فلا بد وأن تتوفر أمورٌ كثيرةٌ لو اختل أحدها سوف لن يتحقق الهدف.
فمن ناحية أمير المؤمنين لا بد من:
خلق جو إعلامي واضح ينادى بصريح القول أن عليا ليس من المعارضين بل هو من المسالمين الذين يبتعدون عن تعكير الجو وزرع الخلاف بين المسلمين .. وهذا يتطلب:
1 إلتزام الهدوء والسكوت الكامل وعدم التعرض للحكم أصلا.
2 التساير والتنسيق مع الخليفة وربما يقتضي ذلك الصلاة خلفه والجلوس في مجلسه.
ومن ناحية الزهراء عليها السلام ينبغي لها:
أن تخلق جواً مناقضاً تماماً لما أوجده علي عليه السلام.. فتصرخ في وجه الطغاة وتقف أمامهم وتفضحهم وتبين مثالبهم وتكشف عن جريمتهم العظيمة، وفى نفس الوقت تدافع عن علي عليه السلام كخليفةٍ للمسلمين، فتُبيِّن للناس فضائله ومناقبه ومواقفه وذلك من غير أن يكون ذلك أعني ولاية عليٍّ هو الأساس في قضيَّتها ظاهراً (وهو الأساس بالفعل).
ولكن:
يبقى هنا أمرٌ مهمّ ينبغي أن تراعيه الزهراء عليها السلام وهو عدم إثارة عليّ عليه السلام أصلاً لأنَّ ذلك سوف يؤدِّي إلى فشل موقف أمير المؤمنين ومن ثمَّ انتصار العدوّ ونجاحه وذلك سوف يؤدِّي إلى الرجوع إلى الجاهليَّة الأولى أعاذنا الله من شرِّها.
وهذا أمر صعب للغاية لا يتحقَّق إلا من خلال أمور:
1 خروج الزهراء من البيت و لا مانع مادام هي من المطهرين الذين أذهب الله عنهم الرجس.
2 خلق أجواء مثيرة للأحاسيس (بكائها وأنينها).
3 كتمان ما تواجهه من الضرب وكسر الضلع وسقط الجنين وغيره ، عن عليٍّ عليه السلام .
4 أن لا يشترك العدو المتظاهر بالإسلام في تشييع جنازتها وأن تدفن جنازتها سراً.
5 أن تكون مجهولة القبر فلا يعلم بمحلَّه.
6 وبالأخير عدم نشر وصيتها بل تبقى في مصحفها المبارك.
وأمّا أمير المؤمنين عليه السلام فهل يمكنه أن يتغافل عمّا سيحدث على بضعة الرسول الزهراء عليها السلام؟ وهل يمكن للإنسان أن يتصور شدة المعاناة التي كان يعانيها أمير المؤمنين عليٍ عليه السلام وكذلك مستوى صبره عليه السلام؟ كيف وهو يرى تراثه المنهوب! ويعرف عن ضلع الزهراء المكسور؟.
يقول سلام الله عليه:
((أما والله لقد تقمصها ابن أبي قحافة وإنه ليعلم أنَّ محَلّي منها محل القطب من الرحى ينحدر عنى السيل ولا يرقى إليََّّ الطير فسدلتُ دونها ثوبا وطويت عنها كشحاً وطفقت أرتأي بين أن أصول بيد جذّاء أو أصبر على طخية عمياء يهرم فيها الكبير ويشيب فيها الصغير ويكدح فيها مؤمن حتى يلقى ربه فرأيت أنَّ الصبر على هاتا أحجى فصبرت وفي العين قذى وفي الحلق شجا أرى تراثي نهبا)) (نهج البلاغة لإبن أبي حديد ج1 باب3 ص151)
ويقول في موضع آخر:
((فنظرت فإذا ليس لي رافد ولا ذاب ولا مساعد إلاّ أهل بيتي فضننت بهم عن المنية فأغضيت على القذى وجرعت ريقي على الشجا وصبرت من كظم الغيظ على أمر من العلقم وآلم للقلب من وخز الشفار)) (نهج البلاغه لإبن أبي حديد ج11 باب211 ص109).
الكفــؤ:
أن التكافؤ بين الزهراء عليها السلام وعليٍّ سلام الله عليه الوارد في أحاديث كثيرة كالحديث التالي:
((عن يونس بن ظبيان عن أبي عبد الله عليه السلام قال سمعته يقول لولا أن الله خلق أمير المؤمنين لفاطمة ما كان لها كفو على الأرض)) (بحار الأنوار ج43 ص97 روايه 6 باب 5)
لا يعني التكافؤ في الحياة الزوجية فحسب ولا يعني أيضاً أنهما مجمع النورين و البحرين بعد تفرقهما في عبد الله و أبي طالب حيث ورد في تفسير الآية:
( محمد بن العباس عن محمد بن احمد عن محفوظ بن بشر عن ابن شمر عن جابر عن أبي عبد الله قال عليه السلام في قوله عز وجل مرج البحرين يلتقيان قال علي و فاطمة..) (بحار الأنوار ج 24 ص 97 روايه 1باب 36)
بل هناك أمر أهم من ذلك وأرفع مستوى وهو التكافؤ في أداء التكليف الإلهي بحيث كل يكمل الآخر.. وكل يؤدى تكليفه المتناقض مع تكليف الآخر ظاهراً والمطابق معه واقعا فهو تكليف واحد، ولكن قد تجلّى وظهر في موقفين متضادين تماماً. ومن هنا نعرف السر في الحديث القدسي حيث يقول:
(لولا علي لما خلقت فاطمة الخ..)
تحياتي
نـيـنــــوى