يقول الشيخ العالم العلامة سعيد بن خلفان الخليلي في كتابه تمهيد قواعد الإيمان: «إن الخلود موضوع في لسان العرب لمعنى الدوام المستمر الذي ليس له انعدام» ثم قال: «ومن أهل المذاهب من يدعي خروج أهل الوعيد من أهل الشرك، وعصاة أهل التوحيد، فله على قول مذهب المدعي لخروج عصاة الموحدين بانقطاع التخليد».
* موقف القائلين بخلود العصاة المصرّين من الآيات التي علقت العذاب بالمشيئة :
يرى القائلون بخلود جميع مرتكبي الكبائر في النار أن الاستثناء في قوله تعالى: }قَالَ النَّارُ مَثْوَاكُمْ خَالِدِينَ فِيهَا إِلاَّ مَا شَاء اللّهُ{ (الأنعام 128) وغيرها من الآيات لا يدل على الانقطاع، لأن الاستثناء بمشيئة الله يرد في كلام الله للتنبيه على أن المخبر عنه كائن بمشيئته عزوجل ، فلو شاء خلافه لكان، وذلك كما في قوله تعالى: (سَنُقْرِئُكَ فلا تَنسَى)(الأعلى6) مع القطع بعدم نسيانهصلى الله عليه وسلم شيئاً مما أوحاه الله إليه وأقراه إياه، ومثل ذلك تعليق وعده تعالى الجازم بمشيئته كما في قوله تعالى: ( لَتَدْخُلُنَّ الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ إِن شَاء اللَّهُ آمِنِينَ)
(الفتح27) مع ما عهد من كون }إن{ تدخل على الشرط غير المقطوع به وهو هنا لا يجوز قطعاً لمنافاته لتأكيد وعد الدخول بلام القسم ونون التأكيد مع ما سبقه من قوله سبحانه: (لَقَدْ صَدَقَ اللَّهُ رَسُولَهُ الرُّؤْيَا بِالْحَقِّ) (1).
وفي هذا المقام يقول شيخنا في الهيميان: «ونقول معشر الأباضية إن -القول بالخروج من النار باطل- لأن أصل الاستثناء العود إلى الدليل ولا دليل لهم في كلام مروي عن ابن عباس وأحاديث عن غيره من الصحابة إن الاستثناء في عصاة يدخلون النار بذنوبهم ثم ينجون بإيمانهم وفضل الله يسمون الجهنميين، فإن ذلك كذب من قومنا على من ذكر من الصحابة لمخالفته كتاب الله عزوجل كقوله: (وَمَن يَقْتُلْ مُؤْمِنًا مُّتَعَمِّدًا)0 (النساء93) الآية، وليس فيها تقييد بأنه قتله لكونه مؤمناً مشركاً وقوله: (وَمَن يَعْصِ اللّهَ وَرَسُولَهُ وَيَتَعَدَّ حُدُودَهُ) (النساء14) الآية، وإضافة الحدود للحقيقة لا للاستغراق فضلاً عن أن يقال من تعدى الحدود كلها مشركاً, وقوله: (بَلَى مَن كَسَبَ سَيِّئَةً وَأَحَاطَتْ بِهِ خَطِيـئَتُهُ) (البقرة81) والمراد بإحاطتها غلبتها له بأن لم يمحها بالتوبة، ولأن عقاب الآخرة بالنار وثوابها بالجنة ليس كعقاب الدنيا وثوابها، ولأنه يعاقب بالنار من غضب عليه، ومن غضب عليه لا يرضى عنه أبداً وإلا لزم بطلان حكمه، ولزم أن تبدو له البدوات ولزم على قولهم كون المرضي عنه مغضوباً عليه مثاباً في الآخرة معاقباً فيها بالنار ولو جاز أن يدخل النار من يخرج منها لجاز أن يخرج من الجنة من يدخل فيها، ولو جاز أن يدخل النار مؤمن لجاز أن يدخل الجنة كافر».
* لا دليل في الاستثناء على خروج العصاة :
فإن أهل التفسير أيضاً اختلفوا في قوله تعالى: }إِلاَّ مَا شَاء رَبُّكَ{ فقال بعضهم: }إِلاَّ مَا شَاء رَبُّكَ{ من الزيادة في الخلود، وقيل في العذاب ونظيره قوله تعالى: }فَلَن نَّزِيدَكُمْ إِلا عَذَابًا{ وقال آخرون: }إِلاَّ مَا شَاء رَبُّكَ{ من مكثهم في الدنيا وقيل: (في البرزخ) وأقوال أخرى فكل ذلك ما شاء الله وهو الذي استثناه، فمن زعم غير ذلك فعليه بالدليل، ولو كان في هذه ما يدل على الخروج لدّل على خروج الإنس والجن أجمعين، وكذلك قول الله تعالى: }يَا مَعْشَرَ الْجِنِّ قَدِ اسْتَكْثَرْتُم مِّنَ الإِنسِ وَقَالَ أَوْلِيَآؤُهُم مِّنَ الإِنسِ رَبَّنَا اسْتَمْتَعَ بَعْضُنَا بِبَعْضٍ وَبَلَغْنَا أَجَلَنَا الَّذِيَ أَجَّلْتَ لَنَا قَالَ النَّارُ مَثْوَاكُمْ خَالِدِينَ فِيهَا إِلاَّ مَا شَاء اللّه{ (الأنعام 128).
ومن المناسب أن نورد كلام الشيخ سعيد الحارثي –حفظه الله- حيث يقول: «إن صلح قولكم وصح فالمشركون أيضاً في المشيئة، ولم يخصص القرآن أحداً ممن يدخلها، ثم إن السعداء كذلك يخرجون لأن المشيئة كذلك واردة في آيتهم فهذا الاستدلال مرفوع بهذا الاعتبار وبقوله تعالى في سورة الانفطار: }وَمَا هُمْ عَنْهَا بِغَائِبِينَ{ (آية 16)(2).
*تفسير مثبتو خلود أهل الكبائر لقوله تعالى : (فَأَمَّا الَّذِينَ شَقُواْ فَفِي النَّارِ لَهُمْ فِيهَا زَفِيرٌ وَشَهِيقٌ {106} خَالِدِينَ فِيهَا مَا دَامَتِ السَّمَاوَاتُ وَالأَرْضُ إِلاَّ مَا شَاء رَبُّكَ إِنَّ رَبَّكَ فَعَّالٌ لِّمَا يُرِيد).
يجيب سماحة الشيخ أحمد بن حمد الخليلي ويقول: «إن السماوات والأرض المقصودة في هذه الآيات ليست سماوات الدنيا أو أرضها، وإنما المراد بها ما أظلهم وما أقلهم من سماوات الآخرة وأرضها، لأن دخول الجنة الذي وعد بها الأبرار، ودخول النار الذي توعد بها الفجار لا يكون مع بقاء السماوات والأرض الدنيوية، لأن ميقاتهما ينتهي بعد ما تتداعى أجزاء الكون في نشأته الأولى ، ويأتي ما وعد الله به في قوله: }يَوْمَ تُبَدَّلُ الأَرْضُ غَيْرَ الأَرْضِ وَالسَّمَاوَاتُ وَبَرَزُواْ للّهِ الْوَاحِدِ الْقَهَّار{»(1).
ويقول قطب الأئمة في تفسير هيميان الزاد: «هن دائمات أبداً لا ينقطعن منهم خالدون في النار أبداً لا يخرجون منها سواء المشرك والموحد العاصي، والمراد سماوات الآخرة وأرضها تفنى سماوات الدنيا وأرضها وتعقبها سماوات الآخرة وأرضها وهي الجنة وهي دائمة لا تفنى يقول سبحانه وتعالى }يَوْمَ تُبَدَّلُ الأَرْضُ غَيْرَ الأَرْضِ وَالسَّمَاوَاتُ{(2) وقال: }وَأَوْرَثَنَا الْأَرْضَ نَتَبَوَّأُ مِنَ الْجَنَّةِ حَيْثُ نَشَاء{(3) ثم قال «والمراد في الآية ارتباط الدوام في النار بدوام السماوات والأرض... ولم يلزم من زوال السماوات والأرض زوال الأشقياء من النار»(4).
ويقول صاحب المنار في تفسير قوله تعالى: }خَالِدِينَ فِيهَا مَا دَامَتِ السَّمَاوَاتُ وَالأَرْضُ{ أي ماكثين فيها مكث بقاء وخلود لا يبرحونها مدة دوام السماوات التي تظلهم والأرض التي تقلهم، وهذا بمعنى قوله في آيات أخرى: }خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا{، وغلط من قالوا: المراد مدة دوامها في الدنيا، فإن هذه الأرض تبدل وتزول بقيام الساعة، وسماء كل من أهل النار وأهل الجنة ما هو فوقهم، وأرضهم ما هم مستقرون عليه وهو تحتهم، قال ابن عباس: لكل جنة أرض وسماء، وروى مثله السدي والحسن.
وجاء أيضاً في قوله تعالى: }مَا دَامَتِ السَّمَاوَاتُ وَالأَرْضُ{ إن ذلك على قطع الرجاء كقوله تعالى: }حَتَّى يَلِجَ الْجَمَلُ فِي سَمِّ الْخِيَاطِ{(5) وهذا تقوله العرب على الاستبعاد والتأبيد كقولهم: لا أفعل هذا ما اختلف الجديدان وما اختلف الليل والنهار وما أقام الجبل وما دامت السماوات والأرض... هذا كله يريدون به التأبيد فخاطبهم الله بما يعقلون من كلامهم بينهم، وعليه في العربية شواهد جاهلية وإسلامية(6).
* تحديد اللبث في النار بالأحقاب في قوله تعالى: (لابثين فيها أحقاباً).
يقول الجيطالي في سياق الرد على القائلين بإخراج أهل الكبائر: «وأما قوله (لابِثِينَ فِيهَا أَحْقَابًا)(7) فليس فيه دليل على الخروج لأنه قال: (إِنَّ جَهَنَّمَ كَانَتْ مِرْصَادًا لِلْطَّاغِينَ مَآبًا)(8) الى آخرها فهي عامة لجميع من دخلها من أهل الشرك ومن أهل الكبائر، فمن ادعى التخصيص فعليه بالدليل وإن تفسيرها في ما وجدت في كتب التفسير }لابِثِينَ فِيهَا أَحْقَابًاً{ وهو حقب أي زمان لا غاية لـه، ويقال الحقب ثمانون ألف سنة كل يوم منه ألف سنة كلما مضى حقب تبعه حقب إلى ما لا غاية لـه.
ويقول السالمي: «الآية: (لابِثِينَ فِيهَا أَحْقَابًا) في المشركين خاصة لقوله تعالى: }إِنَّهُمْ كَانُوا لا يَرْجُونَ حِسَابًا وَكَذَّبُوا بِآيَاتِنَا كِذَّابًا{ فيلزمكم عدم تخليد أهل الشرك وأنتم لا تقولون به والكتاب يرده فوجب حمل الأحقاب على عدم الغاية أي مدة غير متناهية».
ويقول الشيخ قطب الأئمة في تفسيره الهيميان: (لابِثِينَ فِيهَا أَحْقَابًا) اللبث في الغالب الإقامة والأحقاب جمع قلة مفرده حُقْب بضم الحاء وسكون القاف وضمها مراد به الكثرة التي لا تتناهى، قال الحسن: والله ما جعل لأهل النار مدة ينتهون إليها لكن كلما مضى حقب تبعه آخر ودليل الدوام ذكر الأبد في غير هذه الآية قوله( فَلَن نَّزِيدَكُمْ إِلَّا عَذَابًا).
ويقول الشيخ سعيد الحارثي –حفظه الله-: «الآية وردت في المشركين بعد قوله تعالى: }إِنَّهُمْ كَانُوا لا يَرْجُونَ حِسَابًا وَكَذَّبُوا بِآيَاتِنَا كِذَّابًا{ فيلزم على هذا عدم تخليد المشركين في النار مع أنهم يقولون إن التخليد للمشركين فقط».
ويقول الشيخ الخليلي–حفظه الله-: «كما لا تتناهى الأنفاس في الدار الآخرة مع أنها لا نسبة بينها وبين الأحقاب في مقدار ما تستغرقه من الزمن، فالأحقاب أبعد عن التناهي، على أن لفظة الأحقاب مأخوذة من أحقب إذا أردف فهي أدل على الترادف المستمر الذي لا انقطاع له» ويقول الفخر الرازي: «هب إن قوله (أَحْقَابًا) تفيد التناهي لكن دلالة هذا على الخروج دلالة المفهوم والمنطوق دلَّ على أنهم لا يخرجون قال تعالى( يُرِيدُونَ أَن يَخْرُجُواْ مِنَ النَّارِ وَمَا هُم بِخَارِجِينَ مِنْهَا وَلَهُمْ عَذَابٌ مُّقِيمٌ)0 ولا شك أن المنطوق راجح».
* أما تعلقهم بالآية (رُّبَمَا يَوَدُّ الَّذِينَ كَفَرُواْ لَوْ كَانُواْ مُسْلِمِينَ) واستدلالهم بها على أن أهل النار يودون ذلك عندما يرون عصاة المسلمين يخرجون من النار مع بقاءهم فيها فهذا تأويل لا يقتضيه لفظ الآية.
ولم يقم عليه شاهد من غيرها وقال المفسرون معنى: (يَوَدُّ الَّذِينَ كَفَرُواْ لَوْ كَانُواْ مُسْلِمِينَ) ذلك حين يرون النصر للمسلمين في أيام الوقائع بهم وهزيمتهم يودون لو كانوا مسلمين وقيل يودون لو كانوا مسلمين حين يعانون الموت ويحتمل أن يكون عندما يبعثون من قبورهم ويواجهون الفزع الأكبر ويدركون أنه لا منجاة يومئذ إلا لمن اعتصم بحبل الإسلام. وكل واحد من هؤلاء الوجوه مروي من جماعة من مفسري السلف والخلف فلم يبق مجال للاستدلال بالآية على ما لم تكن نصاً عليه ولا ظاهرة فيه(1).