الوجه الثاني:
أنَّ لحديث أبي سعيد الخدري بلفظ «ساقه» شاهدًا من حديث أبي هريرة رضي الله عنه بلفظ «فيكشف لهم عن ساقه فيقعون سجودًا، وذلك قول الله تعالى:
﴿يَوْمَ يُكْشَفُ عَن سَاقٍ وَيُدْعَوْنَ إِلَى السُّجُودِ فَلاَ يَسْتَطِيعُونَ﴾ [القلم: 42]. (6)
الشبهة الثالثة : التشبيه
والجواب :أن يقال :
إطلاق لفظ التشبيه إطلاقاً مجملاً، قد يراد به معنى باطل أو حق، فبإطلاقه يراد به أحد المعنيين:
المعنى الأول: تشبيه الخالق بالمخلوق؛ أي ما يجب ويمتنع ويجوز للمخلوق، يوجب ويمتنع ويجوز للخالق، وهذا التشبيه المذموم الذي يكفر به قائله، وهذا هو المعنى الحق في نفي التشبيه.
المعنى الثاني: المشابهة في اللفظ والمعنى العام الكلي؛ أي إن حقيقة معنى أسماء الله وصفاته غير حقيقة أسماء وصفات المخلوقين، وإن اشتركت في اللفظ والمعنى العام الكلي، وهذا هو المعنى الباطل في نفي التشبيه.
مثال ذلك: إن الله سمى نفسه بأسماء، وسمى بعض عياده بها. وكذلك سمى صفاته بأسماء، وسمى ببعضها صفات خلقه، وليس المسمى كالمسمى؛ وبيانه: سمى الله نفسه بالسميع البصير، وأثبت بذلك صفة السمع والبصر قال تعالى: {إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ البَصِيرُ}، وقد أثبت الله للإنسان صفة السمع والبصر قال تعالى: {إِنَّا خَلَقْنَا الْإِنسَانَ مِن نُّطْفَةٍ أَمْشَاجٍ نَّبْتَلِيهِ فَجَعَلْنَاهُ سَمِيعًا بَصِيرًا}. والمشابهة هنا وقعت في الاسم والمعنى العام الكلي، والانتفاء واقع في التماثل فإن سمع وبصره الله ليس كسمع وبصر الإنسان، قال تعالى: {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ البَصِيرُ} أي: إن الله يسمع لا كسمع الإنسان، ويبصر لا كما يبصر الإنسان؛ ونظائر هذا كثيرة.
وعليه فإن القول في الصفات جميعها من باب واحد، فإنا نثبت لله صفة الساق لا كساق المخلوقات، كما أثبتنا لله سمعاً لا كسمع المخلوقات.
وقد زلت المبتدعة في ضابط نفي التشبيه، وزاغت عن الحق، فنفت التشبيه في الاسم والمعنى العام الكلي، حتى صارت المبتدعة ترمي بعضها البعض بالتشبيه، فكل من نفى شيئاً سمى من أثبته مشبهاً.
أما نفي التشبيه عند أهل السنة والجماعة، إنما يقصد به المعنى الأول. قال الإمام أبو حنيفة النعمان فيما نسب إليه: "يعلم لا كعلمنا، ويقدر لا كقدرتنا، ويرى لا كرؤيتنا" (7) وهذا معنى قوله تعالى: {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ البَصِيرُ} فنفي المثل وأثبت الصفة (8).
وهو المنهج الوسط الذي سار عليه الأئمة، وإليك أخي القارئ نصوصهم حول هذا :
1- قال نعيم بن حماد الحافظ: من شبه الله بخلقه, فقد كفر, ومن أنكر ما وصف به نفسه فقد كفر, وليس ما وصف به نفسه, ولا رسوله تشبيها.
2- يقول الإمام إسحاق بن راهويه :" إنما يكون التشبيه إذا قال: يد مثل يدي، أو سمع كسمعي، فهذا تشبيه، وأما إذا قال كما قال الله: يد وسمع وبصر، فلا يقول: كيف ولا يقول: مثل، فهذا لا يكون تشبيهاً، قال تعالى:{ ليس كمثله شيء وهو السميع البصير }" ذكره الترمذي في جامعه.
ولو كان إثبات الساق لله تعالى معناه التشبيه, لكان كل من أثبت الصفات الأخرى لله تعالى ككونه حيا قديرا سميعا بصيرا مشبها أيضا, وهذا ما لا يقول به مسلم ممن ينتسبون اليوم إلى أهل السنة والجماعة خلافا لنفات الصفات والمعتزلة وغيرهم .
قال شيخ الإسلام في "منهاج السنة" "2/ 75":
"فالمعتزلة والجهمية ونحوهم من نفات الصفات يجعلون كل من أثبتها مجسما مشبها, ومن هؤلاء من يعد من المجسمة والمشبهة الأئمة المشهورين كمالك والشافعي وأحمد وأصحابهم, كما ذكر ذلك أبو حاتم صاحب كتاب "الزينة" وغيره.
وشبهة هؤلاء أن الأئمة المشهورين كلهم يثبتون الصفات لله تعالى ويقولون: إن القرآن كلام الله ليس بمخلوق, ويقولون: إن الله يرى في الآخرة". هذا مذهب الصحابة والتابعين لهم بإحسان من أهل البيت وغيرهم.
ثم قال ص80:
"والمقصود هنا أن أهل السنة متفقون على أن الله ليس كمثله شيء, لا في ذاته ولا في صفاته ولا في أفعاله, ولكن لفظ التشبيه في كلام الناس لفظ مجمل, فإن أراد بنفي التشبيه ما نفاه القرآن, ودل عليه العقل فهذا حق, فإن خصائص الرب تعالى لا يماثله شيء من المخلوقات في شيء من
صفاته.., وإن أراد بالتشبيه أنه لا يثبت لله شيء من الصفات, فلا يقال له علم, ولا قدرة ولا حياة, لأن العبد موضوف بهذه الصفات فيلزم أن لا يقال له: حي, عليم, قدير لأن العبد يسمى بهذه الأسماء, وكذلك في كلامه وسمعه وبصره ورؤيته وغير ذلك, وهم يوافقون أهل السنة على أن الله موجود حي عليم قادر, والمخلوق يقال له: موجود حي عليم قادر, ولا يقال: هذا تشبيه يجب نفيه".))(1)
وقد إعترف كبار الأشاعرة بهذا فقال الرازي في رده على المعتزلة((إن كنتم بالمشبهة من يقول بكون الله مشابها لخلقه من بعض الوجوه فهذا لا يقتضي الكفر لأن المسلمين اتفقوا على أن الله موجود...))..
-------------------
(1) فتح القدير ـ الشوكاني ـ ت: سيد إبراهيم ـ دار زمزم ـ الأولى 1413هـ ( 5/ 319 )
(2) الدر المنثور في التفسير بالمأثور ـ الإمام السيوطي ـ دار المعرفة
(3) الرد على الجهمية ـ الإمام ابن مندة ـ ت : د. على بن محمد الفقيهي ـ مكتبة الغرباء الأثرية ـ الثالثة
(4) شرح كتاب التوحيد من صحيح البخاري ـ د. عبد الله الغنيمان ـ مكتبة لينةـ ( 2/ 121
(5) [«إبطال التأويلات» لأبي يعلى: (1/159-160)].
(6) [رواه الدارمي في «سننه» (2/327) بإسناد جيِّد كما قال العلاَّمة الألباني رحمه الله تعالى في «السلسلة الصحيحة» (2/129)].
(7) منح الروض الأزهر في شرح الفقه الأكبر، علي القارئ، ص107-108.
(8) شرح العقيدة الطحاوية، ابن أبي عز الحنفي، ص122.
هذا مماراق لي نقله .. للتعم الفائدة