إن قصة الغرانيق من القصص التي لا تصح، وقد بين الإمام الالباني هذه القصة سنداً ومتناً ثم حكم عليها بعدم الصحة.
قال الامام الالباني:
إن السنة التي لها هذه الِأهمية في التشريع إنما هي السنة الثابتة عن النبي صلى الله عليه وسلم بالطرق العلمية والأسانيد الصحيحة المعروفة عند أهَل العلم بالحديث ورجاله.
وليست هي التي في بطون مختلف الكتب من التفسير والفقه والترغيب والترهيب والرقائق والمواعظ وغيرها فإِن
فيها كثيرا من الِأحاديث الضعيفة والمنكرة والموضوعة وبعضها مما يتبرأ منه الإسلم.
مثل حديث هاروت وماروت وقصة الغرانيق ولي رسالة خاصة في إبطالها وهي مطبوعة.
(منزلة السنة في الإسلام – محمد ناصر الدين الالباني – ص20)
وقال الألباني في إبطال متن أثر قصة الغرانيق: بيان بطلان القصة متنا
تلك هي روايات القصة وهي كلها كما رأيَت معلة بالْإرسال والضعف والجهالة فليس فيها ما يصلح للإحتجاج به لا سيما في مثل هذا الأمر الخطير.
ثم أن مما يؤكد ضعفها بل بطلانها ما فيها من الاختلاف والنكارة مما لا يليق بمقام النبوة والرسالة وإليك البيان:
أوَلاً:
في الروايات كلها أوَ جلها أنَ الشيطان تكلم على لسان النبي صلى الله عليه وسلم بتلك الجملة الباطلة التي تمدح أصَنام المشركين " تلك الغرانيق العلى وإن شفاعتهن لترتجى "
ثانياً:
وفي بعضها كالرواية الرابعة: " والمؤمنون مصدقون نبيهم فيما جاء به عن ربهم ولا يتهمونه على خطأ وهم " ففي هذا أنَ المؤمنين سمعوا ذلك منه صلى الله عليه وسلم ولم يشعروا بأنه من إلقاء الشيطان بل اعتقدوا أنَه من وحي الرحمن بينما تقول الرواية السادسة:
ولم يكن المسلمون سمعوا الذي ألَقى الشيطان " فهذه خلاف تلك.
ثالثاً:
وفي بعضها كالرواية (1، 4، 7، 9) أنَ النبي صلى الله عليه وسلم بقي مدة لا يدري أنَ ذلك من الشيطان حتى قال له جبريل : " معاذ الله لم آتك بهذا هذا من الشيطان "
رابعاً:
وفي الرواية الثانية أنَه صلى الله عليه وسلم سها حتى قال ذلك فلو كان كذلك أفَلا ينتبه من سهوه!!
خامساً:
في الرواية العاشرة الطريق الرابع : أنَ ذلك ألَقي عليه وهو يصلي
سادساً:
وفي الرواية (4، 5، 9) أنَه صلى الله عليه وسلم تمنى أنَ لا ينزل عليه شيء من الوحي يعيب آلهة المشركين لئلا ينفروا عنه وانظر المقام الرابع من كلام ابن العربي الْآتي (ص50)
سابعاً:
وفي الرواية (4، 6، 9) أنَه صلى الله عليه وسلم قال عندما نَكر جبريل ذلك عليه " افتريت على الله وقلت على الله ما لم يقل وشركني الشيطان في أمَر الله
فهذه طامات يجب تنزيه الرسول منها لا سيما هذا الِأخير منها فإِنه لوكان صحيحا لصدق فيه عليه السلام - وحاشاه - قوله تعالى:
۩ وَلَوْ تَقَوَّلَ عَلَيْنَا بَعْضَ الْأَقَاوِيلِ (44) لَأَخَذْنَا مِنْهُ بِالْيَمِينِ (45) ثُمَّ لَقَطَعْنَا مِنْهُ الْوَتِينَ (46) ۩ سورة الحاقة
فثبت مما تقدم بطلن هذه القصة سندا ومتنا . والحمد لله على توفيقه وهدايته
(نصب المجانيق – محمد ناصر الدين الالباني – ص35 : 36)
لقد ذكر الإمام الألباني الروايات من بداية ص9 وما بعدها الى ص36 وبين علل الروايات ثم ردها متناً، ثم رد كلام الإمام/ الحافظ ابن حجر بعد ذلك، حيث قال
كلام الإمام/ الحافظ بن حجر - والرد عليه:
وقد يقال : إن ما ذهبت إليه من تضعيف القصة سندا وإبطالها متنا يخالف ما ذهب إليه الحافظ ابن حجر من تقويتها كما سبق الْشارة إليه آنفا
فالجواب:
أنَه لا ضير علينا منه ولئن كنا خالفناه فقد وافقنا جماعة من أئَمة الحديث والعلم سيأتي ذكرهم فاتباعهم أوَلى لأن النقد العلمي معهم لا لِأنهم كثرة ورحم الله من قال: " الحق لا يعرف بالرجال إعرف الحق تعرف الرجال "
ولبيان ذلك لا بد لي من نَنَقل كلام الحافظ بتمامه ثم أتَبعه ببيان رأيَنا فيه والصواب الذي نرمي إليه فأقول : قال الحافظ في (الفتح – 8/ 354-355) بعد نَ ساق الرواية الِأولى وخرجها هي وغيرها مما تقدم:
وكلها سوى طريق سعيد بن جبير إما ضعيف وإما منقطع ولكن لكثرة الطرق تدل على أنَ للقصة أصَلا مع أنَ لها طريقين آخرين مرسلين رجالهما على شرط الصحيحين (ثم ذكر الرواية الثانية والثالثة) ثم قال: وقد تجرأ أبَو بكر بن العربي كعادته فقال: ذكر الطبري في ذلك روايات كثيرة باطلة لا أصَل لها وهو إطلاق مردود عليه وكذا قول عياض : هذا حديث لم يخرجه أحَد من أهَل الصحة ولا رواه ثقة بسند سليم متصل مع ضعف نقلته واضطراب رواياته وانقطاع إسناده
وكذا قوله: ومن حملت عنه هذه القصة من التابعين والمفسرين لم يسندها أحَد منهم ثم رده من طريق النظر بأن ذلك لو وقع لارتد كثير ممن أسَلم
قال: ولم ينقل ذلك انتهى . وجميع ذلك لا يتمشى مع القواعد فإِن الطرق إذا كثرت وتباينت مخارجها دل ذلك على أنَ لها أصَلا وقد ذكرت أنَ ثلاثة أسَانيد منها على شرط الصحيح وهي مراسيل يحتج بها من يحتج بالمرسل وكذا من لا يحتج به لا اعتضاد بعضها ببعض "
قاعدة تقوية الحديث بكثرة الطرق ليست على إطلاقها
والجواب عن ذلك من وجوه:
أوَلا:
إنَ القاعدة التى أشَار إليها وهي تقوية الحديث بكثرة الطرق ليست على إطلاقها وقد نبه على ذلك غير واحد من علماء الحديث المحققين منهم الحافظ أبَوعمر بن الصلاح حيث قال رحمه الله في (مقدمة علوم الحديث ص37:36)
لعل الباحث الفهم يقول: إنا نجد أحَاديث محكوما بضعفها مع كونها قد رويت بأسانيد كثيرة من وجوه عديدة مثل حديث: الأذنان من الرأسَ" ونحوه فهل جعلتم ذلك ومَثاله من نوع الحسن لأن بعض ذلك عضد بعضا كما قلتم في نوع الحسن على ما سبق آنفا ؟
وجواب ذلك:
أنَه ليس كل ضعف في الحديث يزول بمجيئه من وجوه بل ذلك يتفاوت فمنه ما يزيله ذلك بأن يكون ضعفه ناشئا من ضعف حفظ روايه ولم يختل فيه ضبطه له وكذلك إذا كان ضعفه من حيث الإرسال زال بنحو ذلك كما في المرسل الذي يرسله إمام حافظ إذ فيه ضعف قليل يزول بروايته من وجه آخر
ومن ذلك ضعف لا يزول بنحو ذلك لقوة الضعف وتقاعد هذا الجابر عن جبره ومقاومته وذلك كالضعيف الذي ينشأ من كون الراوي متهما بالكذب وَكون الحديث شاذا .
وهذه جملة تفاصيلها تدرك بالمباشرة والبحث فاعلم ذلك فإِنه من النفائس العزيزة.
قلت:
ولقد صدق رحمه الله تعالى فإِن الغفلة عن هذه النفيسة قد أوَقعت كثيرا من العلماء لا سيما المشتغلين منهم بالفقه في خطأ فاضح ألَا وهو تصحيح كثير من الأحاديث الضعيفة اغترارا بكثرة طرقها وذهولا منهم عن كون ضعفها من النوع الذي لا ينجبر الحديث بضعفها بل لا تزيده إلا وهنا على وهن ومن هذا القبيل حديث ابن عباس في هذه القصة فإِن طرقه كلها ضعيفة جدا كما تقدم فلا يتقوى بها أصَلا لكن يبقى النظر في طرق الحديث الأخرى هل يتقوى الحديث بها أمَ لا؟
فاعلم أنَها كلها مرسلة وهي على إرسالها معلة بالضعف والجهالة كما سبق تفصيلها سوى الطرق الِأربعة الأولى منها رقم: (1، 2، 3، 5) فهي التي تستحق النظر لأن الحافظ رحمه الله جعلها عمدته في تصحيحه هذه القصة وتقويته لها بها وهذا مما نخالفه فيه ولا نوافقه عليه وبيان ذلك يحتاج إلى مقدمة وجيزه مفيدة إن شاء الله تعالى وهي : ضعف الحديث المرسل:
الوجه الثاني: وهو يحتوي على تحقيق أمَرين أسَاسيين:
الأول:
أنَ الحديث المرسل ولوكان المرسل ثقة لا يحتج به عند أئَمة الحديث كما بينه ابن الصلاح في " علوم الحديث " وجزم هو به فقال (ص58):
ثم أعلم أنَ حكم المرسل حكم الحديث الضعيف إلا نَ يصح مخرجه بمجيئه من وجه آخر كما سبق بيانه . . . وما ذكرناه من سقوط الإحتجاج بالمرسل والحكم بضعفه هو المذهب الذي استقر عليه آراء جماهير حفاظ الحديث ونقاد الأثر وقد تداولوه في تصانيفهم.
الأمر الثاني:
معرفة سبب عدم احتجاج المحدثيين بالمرسل من الحديث فاعلم أنَ سبب ذلك إنما هو جهالة الوساطة التي روى عنها المرسل الحديث وقد بين ذلك الخطيب البغدادي في " الكفاية في علم الرواية " حيث قال (ص287) بعد أنَ حكى الخلف بالعمل المرسل:
والذي نختاره سقوط فرض العمل بالمراسيل وأنَ المرسل غير مقبول والذي يدل على ذلك أنَ إرسال الحديث يؤدي إلى الجهل بعين راويه ويستحيل العلم بعدالته مع الجهل بعينه وقد بينا من قبل أنَه لا يجوز قبول الخبر إلا ممن عرفت
عدالته فوجب كذلك كونه غير مقبول وأيَضا فإِن العدل لو سئل عمن أرَسل عنه؟
فلم يعدله لم يجب العمل بخبره إذا لم يكن معروف العدالة من جهة غيره وكذلك حاله إذا ابتدأ الإمساك عن ذكره وتعديله لأنه مع الإمساك عن ذكره غير معدل له فوجب أنَ لا يقبل الخبر عنه
وقال الإمام/ الحافظ ابن حجر في "شرح نخبة الأفكار" (17)
بعد أنَ ذكر الحديث المرسل في " أنَواع الحديث المردود" وإنما ذكر في قسم المردود للجهل بحال المحذوف لأنه:
يحتمل أنَ يكون صحابيا ويحتمل أنَ يكون تابعيا وعلى الثاني يحتمل أنَ يكون ضعيفا ويحتمل أنَ يكون ثقة وعلى الثاني يحتمل أنَ يكون حمل عن صحابي ويحتمل أنَ يكون حمل عن تابعي آخر وعلى الثاني فيعود الإحتمال السابق ويتعدد إمَا بالتجويز العقلي فإِلى مالا نهاية وإمَا بالإستقراء فإِلى ستة أوَ سبعة وهو أكَثر ما وجد من رواية بعض التابعين عن بعض فإِن عرف من عادة التابعي أنَه لا يرسل إلا عن ثقة فذهب جمهور المحدثين إلى التوقف لبقاء الإحتمال وهو أحَد قولي أحَمد
وثانيهما: يقبل مطلقا وقال الشافعي رضي الله عنه: يقبل إن اعتضد بمجيئه من وجه آخر يباين الطريق الأولى مسندا كان أوَ مرسلا ليترجح احتمال كون المحذوف ثقة في نفس الِأمر.
فالأثر لا يصح وهو مردود سنداً ومتناً كما قال الإمام الالباني.