منذ خمس قرون , قامت القيامة , وحشر الناس على جانبي مضيق جبل طارق , وقرئ كتاب الحضارة من أوله , ثم حصدت كل امة ما كسبت يداها : فالشعوب المطلة على المحيط , ذهبت إلى جنات عدن , تجري من تحتها مئات الأنهار في كندا وأميركا الشمالية والجنوبية واستراليا . والشعوب المسجونة وراء مضيق جبل طارق , ذهبت إلى جحيم العالم الثالث , ومازالت فيه حتى الآن . لكن ذلك ليس كل ما حدث .
ففي هذا العصر, ظهرت صيغة الإدارة الجماعية القائمة على تبادل المصلحة ديموقراطيا ً, بين الأغنياء , أصحاب رأس المال , وبين الفقراء , أصحاب اليد العاملة. وهي قامت على استبعاد الجيش والمؤسسة الدينية من حلبة الصراع على السلطة , لأول مرة في تاريخ الدولة , لأنها ولدت أصلا ً, بعد هزيمة الجيوش المأجورة في إقطاعيات غرب أوروبا , على أيدي شعوبها المسلحة , وبعد سقوط سلطة الكنيسة على أيدي البروتستانت . إنها صيغة شرعية كسبها الأوروبيون الغربيين بعرق جبينهم مثل ارزق الحلال .
في الجانب الآخر, شرقي مضيق جبل طارق , وداخل قارات العالم القديم , نظام الدولة ما يزال على حاله , كما تركه فرعون , وكان جهاز الإدارة على طول المناطق الممتدة شرقا ًوجنوبا ًمن وسط أوروبا إلى اليابان , ما يزال في يد الائتلاف الأزلي بين الجيش وبين المؤسسة الدينية. ورغم أن الأوروبيين الغربيين ما لبثوا أن هاجموا هذه المناطق , وشلوا قواتها المسلحة منذ مطلع عصر الاستعمار, فإن الجيوش لم تخسر مواقعها في جهاز الإدارة , ولم تتمكن شعوب العالم القديم من إيجاد صيغة عملية لإبعاد الجيوش والمؤسسات الدينية عن السلطة , سوى صيغة الحزب الواحد الذي ابتكره لينين , وهو ابتكار لم يحل المشكلة , لكنه استبدلها بمشكلة أخرى .
في وطننا العربي , كان الحل العاجل ــ والمثيرــ هو أن نخترع بديلا ًعن الحل . وقد تكفلت حركة الترجمة , التي اعتقدنا أنها ثقافة عصرية , بتوفير كلمة الديموقراطية في قاموسنا السياسي ,وتغييب مفهومها الأصلي في ارض الواقع, إلي حد دعانه نصدق بأن ظل الجبل , هو الجبل نفسه , وقادنا إلى عادة تسلق الظلال . إنها عادة غير حكيمة , لأنها بديل عن نعمة الصعود.
فالديموقراطية في لغتنا العربية , كلمة ولدت شرقي مضيق جبل طارق , واليوم تطبق في نظمنا القائمة على سلطة الجيش والمؤسسة الدينية . إنها صيغة لا علاقة لها بما حدث في غرب أوروبا , ولا تملك الشرعية التاريخية , ولا تعني شيئا ً في ارض واقعنا سوى تقسيم مراكز النفوذ بين أقوى الذكور في المجتمع . لكن الشعوب التي تصدق ما تسمعه , تعمى عادة ً عما تراه .
إننا لا نملك صيغة للإدارة الديموقراطية في ثقافتنا العربية ــ المعاصرة ــ , بل نملك بديلا ً سياسيا ً عنها , في صيغة مطوعة لصالح الائتلاف القديم بين الجيش وبين المؤسسة الدينية , علامتها المميزة , أنها ليست ديموقراطية , إلا إذا كان المواطن هو الجندي ورجل الدين , أما إذا كان المواطن هو الطفل والمراهق والمرأة والعجوز, فإن الصيغة التي نعرفها في لغتنا العربية , تصبح شفهية إلى حد لا يصدق .
فالطفل في ديموقراطيتنا المطوعة , مواطن مسؤول , ينشد الأناشيد الحماسية , ويرتل آيات القرآن , قبل أن يتجاوز العاشرة من عمره . إنه محروم من حقه الشرعي في أن لا يهتم بما لا يعنيه , وملزم بأن يتجاوز طفولته , ويصبح دائما ً اكبر من عمره , لكي يرضي والده ومعلمه اللذين يعتقدان , لسبب يعلمه الله , أن الطفولة أمر مشين .
المراهق في ديموقراطيتنا العربية , موطن تحت الرقابة الدائمة , مثل مريض في الحجر, يطارد مواطنة مريضة مثله , ويلتقي بها في السر, لكي يفترق عنها في الجهر, ويمشي كلاهما في شوارعنا , متظاهرا ً بأنه ليس هو, ويكلمنا كلاهما بلغة , نعرف أنها ليست لغته , لكن ذلك لا يحرك شيئا ً في ثقافتنا المعادية للمراهقين , لان صيغة الديموقراطية التي نعرفها , لا تعترف بشرعية العداء فحسب بل تعتبره واجبا ً أخلاقيا ً مقدسا ً بشهادة من رجال الدين .
ولا احد يرى , أن فترة المراهقة فترة طارئة على تاريخ الإنسان نفسه , فرضتها ظروف الثورة الصناعية , وزيادة سنوات التأهيل المهني من ثلاثة عشر عاما ً , يقضيها الصبي في مزرعة أبيه , إلى ثلاثين عاما ً يقضيها حاليا ً في المعاهد والجامعات , قبل أن يسمح له مجتمعه بالزواج . لا احد يصدق أن عداء ثقافتنا للمراهقين , ليس سببه أنها ثقافة متدينة , بل سببه أنها ثقافة مجتمع من المتزوجين الذين يعيشون في عصر زراعي بسيط التركيب , انتهى منذ ثلاثمائة سنة على الأقل .
العجوز في ديموقراطيتنا العربية , مواطن آخر في الحجر الصحي , يمنعه القانون من ممارسة العمل العام , ويمنعه العرف من ممارسة أي نشاط إنساني شخصي , سوى أن يكون عجوزا ً وقورا ً في انتظار الموت . إنه لا يملك نصيبا ً من ميزانية الدولة , ولا أحد يمثل مصالحه في جهاز الإدارة . ولهذا السبب يخلو وطننا العربي من المؤسسات الخاصة بكبار السن , ويخلو من نواديهم , وجمعياتهم وقضاياهم , رغم أنه ــ شفهيا ً ــ يخفض لهم ( جناح الذل من الرحمة , ويقول لهم قولا ً مرضيا ً ) .
كل طفل , كل مراهق , كل عجوز, كل إمرأة , محرومون في ديموقراطيتنا الشفهية من حقوق إنسانية أساسية , لم تعد موضعا ً للجدل إلا في وطننا العربي , لان الصيغة التي نملكها , لم تولد بالحلال , بين شعوب عربية تقاتل من اجل حقوقها , بل بين شعوب عربية , حشرها الأوروبيون وراء مضيق جبل طارق , وأوقعوا عليها من الضغط العسكري , ما دعاها إلى أن تحتمي بمؤسساتها الحربية والدينية , وتدفع حريتها ثمنا ً لبقائها , في صفقة , قد لا تكون مجزية , لكنها بالتأكيد أفضل الموجود .
هذه الصيغة المطوعة , لم تنقذ أجيال العرب , بل حرمتهم من فرصة الإنقاذ , وأضاعت عليهم وقتا ً ثمينا ً في تقليد الأوروبيين المنتصرين خلال تجربة فاشلة من أساسها . فالديموقراطية الأوروبية , صيغة لا يمكن تحقيقها , إلا بزلزال عسكري وثقافي , على غرار الزلزال الذي عايشته شعوب غرب أوروبا , في الظروف نفسها , والزمان نفسه . وهو شرط ممكن فقط لو عاد التاريخ فجأة , خمسمائة سنة إلى الوراء .
لكن التاريخ لا يعود , وليس بوسع العرب أن يعيشوا في عصر لم يولدوا فيه , ويصبحوا فجأة ديموقراطيين , في ثقافة معادية للديموقراطية , تعامل الطفل بمثابة أسير, والمراهق بمثابة متهم , والمرأة بمثابة جارية , والعجوز بمثابة طفل , في تركيبة ثقافية سحرية , ليس ثمة ما يسندها سوى مزاعم السحرة أنفسهم , إن الزلزال هزة نافعة , لا بد منها .
كل ما في الأمر, أن الزلزال في وطننا بالذات , لا يحتاج أن يقع , لأنه وقع منذ أربعة عشر قرنا ً على الأقل , وشهد ميلاد صيغتنا الحقيقية للديموقراطية التي تمثلت في تسليم السلطة لله , والإدارة للناس عن طريق الشورى المباشرة في الجوامع . فهذه هي الصيغة الحية التي تعمدت ثقافتنا العصرية المغتربة أن تتجاهلها في تراثنا وواقعنا , من باب الحرص على دقة الترجمة .
إن نظام سلطة الجامع ــ مثل نظام الأحزاب ــ صيغة إدارية , لتحقيق سلطة الجماعة , ظهر في تاريخنا , بعد سحق المؤسسات العسكرية والدينية في زلزال , أكثر قوة , وأكبر نطاقا ً , من الزلزال الذي عايشته شعوب غرب أوروبا . لكن نظام الأحزاب , صيغة لا نملك لها دستورا ً في ثقافتنا , أما الجامع , فهو صيغة لها تاريخ نعرفه , ودستور بلغة مواطنينا , بنوده معلنة بينهم , باعتبارها اعز مقدساتهم . إن كل مواطن يعرف في الجامع , معنى الكلام الذي يقوله من دون معنى .
فكلمة ( عبد الله ) مثلا ً , لابد أنها كلمة تشمل الطفل شرعا ً , وتشمل ان أحدا ً غير الله لا يستعبد الأطفال , و لا يرغمهم على إلقاء الأناشيد الخرافية , بل يتركهم يكونون عباد الله الأطفال , ويعترف بحقهم في الميزانية , وحقهم في أن لا يهتموا بما لا يعنيهم , ولا يتنكروا لطفولتهم , ويصيروا عباد الله المتنكرين . إن الطفل العربي يملك صيغة تحميه ــ دستوريا ً ــ في لغة الجامع , لكن إلغاء هذه اللغة , أخرس صوت الطفل والدستور معا ً .
وكلمة ( عبد الله ) , لا بد انها كلمة تشمل المراهق أيضا , وتشمل أن مولاه أمره أن يكون مراهقا ً , بموجب قانون أزلي, أقدم من مجتمعنا وثقافتنا . وليس من فرط الإيمان ــ بل من فرط الجهل ــ أننا نزعم لأنفسنا , بأن معاداة هذا المراهق ومراقبته في الحجر الصحي , من شأنهما أن تغيـّرا شيئا ً من سنن الله الأبدية . فكل حصيلتنا من هذه الغطرسة الطبقية , هي ان نظلم مواطننا في حاجة إلى العدل , ونحرمه من حقه الشرعي في الحصول على العيون , ونضيع وقتا ً ثمينا ً في تبرير موقف ثقافي متخلف أصلا ً , ومميت . اننا نظلم المراهق بإسم العدل , لان قوانيننا لا تصاغ تحت سقف بيت الله ورب المراهقين أيضا , بل تصاغ في بيت آخر يدعى البرلمان , استوردناه من خارج عصرنا , في صيغة سياسية ملفقة , علامتها المميزة انها صيغة من دون شريعة في لغتنا , وبالتالي غير ملتزمة ــ دستوريا ً ــ بقضايا الإنسان .
وكلمة ( عبد الله ) لا بد انها تشمل عبد الله ( الأنثى ) ولا بد أنها تعني , ان المرأة أيضا مسؤولة شخصيا ً عن ما كسبت يداها , وليس بوسع احد أن ينوب عنها في تحمل هذه المسؤولية , حتى بتوكيل شخصي من المرأة نفسها. إن إجهاض مبدأ السلطة الجماعية ــ وليس الإسلام ــ هو الذي أتاح للفقهاء , أن ينوبوا عن ملايين النساء , في اتخاذ قرار لا يخص فقيها ً واحدا ً , ويفتوا بوضع المرأة في حجابها مغلولة اليدين , من دون ان يلاحظ أهل الفتوى , ان قرار الفقهاء نفسه غير دستوري , لأنهم لا يمثلون المرأة أمام خالقها , ولا يحق لهم شرعا ً ان ينوبوا عنها .
في لغة الجامع , يعاد اللفظ إلى أصل معناه .
ونلتقي على تطبيق الصيغة , التي نتكلم عنها الآن من دون لقاء , ونشهد في ما بيننا على ان الكلام عن الدين , هو البديل عن العمل به , ما دامت الإدارة لا تسمع الكلام . وبعد ذلك سوف يتجلى وجه المعجزة الحية في شوارعنا , وسوف نرى بالعين جهازا ً , أن امتنا العربية التي نعتقد انها متفرقة , تجتمع خمس مرات في الجوامع , كل يوم , من كل أسبوع , من كل شهر, من كل سنة , تحت دستور واحد , بصيغة واحدة , وأن امة غيرها , في التاريخ كله , والعالم كله لا تملك هذه القاعدة الإدارية الجاهزة لتحقيق حلم المواطن الموحد . فكل ما تحتاج اليه امتنا ــ بدل الزلزال ــ هو ان تعيد إلى الجامع وظيفته الإدارية , وتكتب بنود الدستور بلغتها وليس بلغة الأمم الأخرى , لكي تكسب صيغة عربية للديموقراطية العربية , يستحقها العرب بعرق جبينهم مثل الرزق الحلال . لكن ثمة تنين حي , يسد طريقنا إلى هذه الجنة .
فنظام الجامع الذي يقوم على تسليم الحكم لله , والإدارة للناس , نظام يستحيل تطبيقه , بين ناس لا يستحقونه , لانه قائم على مبدأ سلطة الجماعة , التي لا تستطيع ان تملك السلطة أصلا ً حتى تصبح جماعة بالفعل , وتلتزم دستوريا ً بمبدأ المساواة بين الألوان والأنساب . وهو شرط يتجاوز مدى الوعي المتاح لثقافتنا العربية , بسبب الخلط التاريخي العميق الجذور بين وظيفة المسجد , ووظيفة الجامع . إنه خلط مميت ورثناه من عالم أسلافنا الموتى , لكنه أصبح جزءا ً من حياتنا .
فالمسجد فكرة قديمة , عرفتها كل الحضارات , ولها اسم في كل لغة . أما الجامع , فهو فكرة أخرى , لم يعرفها أحد , ولم يدع إليها احد سوى الإسلام , لانها تطبيق لمبدأ المسؤولية الشخصية , الذي حتم إلغاء كل وسيط بين الإنسان وبين خالقه , وحتم إلغاء الشفاعة والنيابة والتمثيل , ووضع كل إنسان في موضع المسؤولية الشخصية عما يحدث له , وعما يحدث لخلق الله من حوله. إن الجامع هو الجهاز الشرعي الوحيد , لأداء هذه المسؤولية , وجمع الناس المتفرقين بين المساجد والمذاهب في جهاز إداري موحد , محرر من كل الخلافات الظاهرية , وموجه لحماية حق الجماعة الإنسانية في العدل , بوضع شرعية القرار ــ دائما ً ــ أمانة بين أيدي الأغلبية .
هذا الجامع , لم تعرفه ثقافتنا العربية أبدا ً لانه انتهى قبل أن تولد , وتركها تنمو في المساجد , لكي تصبح نصف ثقافة لغتها تقول شيئا ً , وواقعها يقول شيئا ً آخر, كل يوم , من كل أسبوع , من كل شهر, من كل سنة .
تحياتي