فروا من أنفسكم إلى ربكم

[امـ حمد]

بسم الله الرحمن الرحيم
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته
ففرّوا إلى الله ،أمر بالفرار منه إليه ليدل العباد على أنه أرحم بهم من كل من سواه ، وأنه عز وجل يريد بالعباد الرحمة والمغفرة،

يقول الله تعالى( فَفِرُّوا إِلَى اللَّهِ إِنِّي لَكُمْ مِنْهُ نَذِيرٌ مُبِينٌ ) الذاريات،

قال الإمام الطبري رحمه الله،فاهربوا أيها الناس من عقاب الله إلى رحمته بالإيمان به ، واتباع أمره ، والعمل بطاعته،
قال الله تعالى لنبيه صلى الله عليه وسلم،قل لهم يا محمد ، أي قل لقومك(فَفِرُّوا إِلَى اللَّهِ إِنِّي لَكُمْ مِنْهُ نَذِيرٌ مُبِينٌ )أي،فروا من معاصيه إلى طاعته،
وقال ابن عباس،فروا إلى الله بالتوبة من ذنوبكم،
وقال أبو بكر الوراق،فروا من طاعة الشيطان إلى طاعة الرحمن،لأن الشيطان داع إلى الباطل ،
وقال عمرو بن عثمان،فروا من أنفسكم إلى ربكم،ومما سوى الله إلى الله،
وقال العلامة عبد الرحمن السعدي رحمه الله،دعا العباد وهو الفرار إليه أي،الفرار مما يكرهه الله ظاهرًا وباطنًا ، إلى ما يحبه ظاهرًا وباطنًا ، فرار من الجهل إلى العلم ، ومن الكفر إلى الإيمان ، ومن المعصية إلى الطاعة ، ومن الغفلة إلى ذكر الله ، فمن استكمل هذه الأمور فقد استكمل الدين كله(إِنِّي لَكُمْ مِنْهُ نَذِيرٌ مُبِينٌ )أي،منذر

قال الله تعالى(فَفِرُّوا إِلَى اللَّه)وحقيقة الفرار،الهرب من شيء إلى شيء،وهو نوعان،فرار السعداء ،وفرار الأشقياء،

أما السعداء، ففرارهم إلى الله سبحانه وتعالى،إلى رحابه طلباً لرضوانه،فهؤلاء يفرّون صعوداً إلى السماء،
وأما الأشقياء،ففرارهم منه لا إليه،ينشغلون عنه بملهيات كثيرة، تبعدهم عن ربهم جل جلاله،وهؤلاء يفرّون سفولاً ،
الله جلّ في عُلاه يطالبنا أن نفر إليه لا منه(ففرّوا إلى الله)

الفرار إلى الله،يعني العمل بطاعته،والنفور من معصيته،وشوق إلى الجنة،وخوف من النار،

فرار من الجهل إلى العلم،ومن الشرك إلى التوحيد،ومن الغفلة إلى اليقظة،ومن ظلمة المعصية إلى نور الطاعة،
فرار من الكسل إلى التشمير،ومن الخلق إلى الخالق،ومن ضيق الصدر،إلى طمأنينة القلب وقرة العين،
فرار من سجن الدنيا ونكدها،إلى عز الطاعة وحلاوة الإيمان،ونعيم الجنة،

وقال آخرون،اهربوا من عذاب الله إلى ثوابه بالإيمان والطاعة،

أن الفرار إلى الله تعالى،فرار من الجهل بكل أنواعه،إلى العلم الذي يربطكم بالله جلّ جلاله،ويشدّكم إليه،العلم الذي يستنير به قلبكم حتى يتوهج،
دعوا عنكم سوف ولعل،اتركوا التسويف وطول الأمل،بسيف العزم والتشمير،والمبادرة والتصميم،وارحلوا طلباً لما عند الله تعالى،فما عند الله خير وأبقى،
فما مضى من يومك مات،وما لم يأتِ لم يولد بعد،فأحسنوا العمل لو كنتم تعقلون،

قرروا أن تفرّوا إلى الله تعالى كما يُطالبكم هو بذلك،

ويلحّ عليكم أن تفرّوا إليه،عاجلاً لا آجلاً،
حقيقة الفرار إلى الله،لا يجعلكم تتعلقون بقشور الدنيا،ولا تتساقطون على شهواتها،بل إنكم حين تصدقون في الفرار إلى الله تعالى، تجدون انفسكم في يسر،حتى يستوقد قلوبكم أنوار من شجرة الوحي حتى تتوهج،
فرار من صحبة سوء،إلى صحبة خير تعينكم على مزيد من التقرّب إلى الله تعالى لتنالوا رضاه،المؤمن يفر من ضيقٍ يعتريه، من ضيق الهم، وضيق الغم، وضيق الحزن, إلى سعة فضاء الثقة بالله تبارك وتعالى، وصدق التوكل عليه، وحسن الرجاء لجميل صنعه به، وتوقع المرجو من لطفه وبره،ومن الضيق إلى السَعَة، من الخوف إلى الطمأنينة، من هموم الدنيا إلى التطلع للآخرة،

قال تعالى(وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا ۚ وَإِنَّ اللَّهَ لَمَعَ الْمُحْسِنِينَ )
هذا الصنف المتميز من الخلق في فرار مستمر،وفي توبة دائمة متجدّدة لا تنقطع،لا يسكن نفسه إلى شيء دون الله تعالى،
ولا يفرح بما يجد من لذة العبادة،لكنه يفرح بمهديها إليه،وموفّقه إليها،ومُعينه عليها،وميسرها له،

إن الله جل جلاله يُحب لنا الخير،ومن ثم يهيب بنا أن نفرّ إليه،
يا لها من آية،قال تعالى(يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اسْتَجِيبُوا لِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ إِذَا دَعَاكُمْ لِمَا يُحْيِيكُمْ )
وذكر بالقرآن (فَإِنَّ الذِّكْرَى تَنْفَعُ المُؤْمِنِينَ)قيل،ذكرهم بالعقوبة وأيام الله،وخص المؤمنين،لأنهم المنتفعون بها،

فروا من أنفسكم إلى ربكم،من صح فراره إلى الله صح قراره مع الله،

اللهم اجعلنا من الذين يحـبـون كـل خـير ويكرهون كـل شـر ويسارعون إلى الطاعات،و يفـرون مـن الخطيـئات،

اللهم اجعلنا ممن يفرون إليك، لا منك. ‏‎