لقد ارتكب الباطنيون الروافض الشيعة في أهالي الشمال الإفريقي من أهل السنّة ما تشيب منه الولدان ولا تصدقه العقول، وأنزلوا غضبهم وصبوا سخطهم على العلماء خاصة:
فعندما ادعى عبيد الله الرسالة أحضر فقيهين من فقهاء القيروان وهو جالس على كرسي ملكه وأوعز إلى أحد خدمه، فقال للشيخين: «أتشهدان أن هذا رسول الله؟ فقالا بلفظ واحد: والله لو جاءنا هذا والشمس عن يمينه والقمر عن يساره يقولان: إنه رسول الله، ما قلنا ذلك. فأمر بذبحهما»وهذانالشيخان المغربيان هما: ابن هذيل وابن البردون.
قال الذهبي عن ابن بردون: «هو الإمام الشهيد المفتي، أبو إسحاق، إبراهيم بن البردون الضبي مولاهم الإفريقي المالكي، تلميذ أبي عثمان الحداد».
وطلب منه لما جرد للقتل: أترجع عن مذهبك؟ قال: أعن الإسلام أرجع؟ وقيل: في سنة تسع وتسعين ومائتينإن عبيد الله المهدي الزنديق لم يدع الرسالة فحسب، بل سمح لأتباعه أن يغرقوا في كفرهم حتى ألهوه فقد كانت أيمانهم المغلظة: «وحق عالم الغيب والشهادة، مولانا الذي برقادة». ومن أهم ما ادعى معرفة الغيب، والغيب لا يعلمه إلا الله، وهذا الأمر من خصوصيات الألوهية، فمن ادعاه لغير الله يقع في الشرك والكفر العظيم، قال تعالى: {وَعِنْدَهُ مَفَاتِحُ الْغَيْبِ لاَ يَعْلَمُهَا إِلاَّ هُوَ وَيَعْلَمُ مَا فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَمَا تَسْقُطُ مِن وَرَقَةٍ إِلاَّ يَعْلَمُهَا وَلاَ حَبَّةٍ فِي ظُلُمَاتِ الأَرْضِ وَلاَ رَطْبٍ وَلاَ يَابِسٍ إِلاَّ فِي كِتَابٍ مُّبِينٍ} [الأنعام: 59].
{قُل لاَّ يَعْلَمُ مَن فِي السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ الْغَيْبَ إِلاَّ اللهُ وَمَا يَشْعُرُونَ أَيَّانَ يُبْعَثُونَ}[النمل: 65].
كما أن الحلف لا يكون بمخلوق وإنما يكون بالخالق، قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «من كان حالفًا فليحلف بالله أو ليصمت...» وجاءت الأحاديث في النهي عن الحلف بالآباء.
لقد كان شعراء الدولة العبيدية يمدحون خلفاءهم إلى درجة الكفر البواح وينشرونها بين الناس، وقد ظهر ذلك في شعر ابن هانئ الأندلسي في مدحه للمعز وكان أحد شعرائهم، مدح عبيد الله فقال:
حل برقادة المسيح ... حل بها آدم ونوح
حل بها الله ذو المعالي ... فكل شيء سواه رايح
كما شبه شعراؤهم المهدية بمكة المكرمة وقصر المهدي بالكعبة.
هي المهدية الحرم الموقى ... كما بتهامة البلد الحرام
وإن لثم الحجيج الركن أضحى ... لنا بعراص قصركم التثام
كما شنوا حربًا نفسية على أهل السنة وذلك بتعليق رؤوس الأكباش والحمير على أبواب الحوانيت والدواب، وكتبوا عليها أسماء الصحابة رضي الله عنهم، (لعنهم الله أنى يؤفكون)، وأظهروا سب الصحابة رضي الله عنهم، وطعنوا فيهم وزعموا أنهم ارتدوا بعد النبي - صلى الله عليه وسلم - وخصصوا دعاة للنداء بذلك في الأسواق.
ومن ذكر الصحابة بخير أو فضل بعضهم على علي - رضي الله عنه - قتل أو سجن.
عمل العبيديون على إزالة آثار بعض من تقدمهم من الخلفاء السنيين؛ ولذلك أصدر عبيد الله أمرًا بإزالة أسماء الحكام الذين بنوا الحصون والمساجد، وجعل اسمه بديلاً منهم، واستولى هذا الرافضي الخبيث على أموال الأحباس وسلاح الحصون، وطرد العباد والمرابطين بقصر زياد الأغلبي وجعله مخزنًا للسلاح.
كما حرص العبيديون على منع التجمعات خوفًا من الثورة والخروج عليهم؛ ولذلك جعلوا بوقًا يضربونه في أول الليل، فمن وجد بعد ذلك ضرب عنقه، كما أنهم كانوا يفرقون الناس الذين يجتمعون على جنازة من يموت من العلماء.
{مَا أُرِيكُمْ إِلاَّ مَا أَرَى وَمَا أَهْدِيكُمْ إِلاَّ سَبِيلَ الرَّشَادِ} [غافر: 29].
أتلفوا مصنفات أهل السنة، ومنعوا الناس من تداولها كما فعلوا بكتب أبي محمد بن أبي هاشم التجيبي (ت 346هـ) الذي توفي وترك سبعة قناطير كتب، كلها بخط يده، فرفعت إلى سلطان بني عبيد فأخذها «ومنع الناس منها كيدًا للإسلام وبغضًا فيه».
حرموا على الفقهاء الفتوى بمذهب الإمام مالك، واعتبروا ذلك جريمة يعاقب عليها بالضرب والسجن أو القتل أحيانًا، ويعقب ذلك نوع من الإرهاب النفسي، حيث يدار بالمقتول في أسواق القيروان وينادي عليه: «هذا جزاء من يذهب مذهب مالك»، ولم يبيحوا الفتوى إلا لمن كان على مذهبهم كما فعلوا بالفقيه المعروف بالهزلي «أبو عبد الله محمد بن العباس بن الوليد» المتوفي عام تسع وعشرين وثلاثمائة.
منعوا علماء أهل السنة من التدريس في المساجد، ونشر العلم، والاجتماع بالطلاب، فكانت كتب السنة لا تقرأ إلا في البيوت خوفًا من بني عبيد، فكان أبو محمد بن أبي زيد، وأبو محمد بن التبان وغيرهما، يأتيان إلى أبي بكر بن اللباد، شيخ السنة بالقيروان في خفية، ويجعلان الكتب في أوساطهما حتى تبتل بالعرق خوفًا من بني عبيد».
وهذا المسلك لا زالت الدول القمعية في العالم الإسلامي تمارسه على شعوبها فبعضها تمنع هذا الأمر كليًا، وبعضها تسمح ببعض أمور الدين التي لا تصطدم مع مصالح الدول الكبرى.
أجبروا الناس على الدخول في دعوتهم فمن أجاب تركوه، وربما ولوه بعض المناصب، ومن رفض قُتل، كما فعلوا عقب أول جمعة خطبها عبيد الله بالقيروان، وقعت بين الدولة العبيدية وأهل القيروان مقتلة عظيمة، فأمر الشيعي بالكف عن العوام، وافتعل مناظرات صورية، فدارت على علماء السنة محن عظيمة، وقتل منهم عدة آلاف بسبب تمسكهم بإسلامهم ودفاعهم المستميت عن السنة، قال القابسي: «إن الذين ماتوا في دار البحر -سجن العبيديين- بالمهدية من حين دخل عبيد الله إلى الآن أربعة آلاف رجل في العذاب، ما بين عالم وعابد ورجل صالح»، هذا عدا من كانوا يقتلون دون سجن ويمثل بهم في شوارع القيروان، فأثر ذلك على سير الحياة العلمية، وقد خمل ذكر كثير من العلماء الذي آثروا اعتزال الفتنة، مثل أبي محمد الورداني، ومع ذلك فإن هذه المحنة لم تزد أهل الشمال الإفريقي إلا عزيمة وصبرًا واحتسابًا وتمسكًا بأصول أهل السنة والجماعة.
عطلوا الشرائع، وأسقطوا الفرائض عمن تبع دعوتهم حيث يتم إدخالهم إلى داموس ويدخل عليهم عبيد الله لابسًا فروًا مقلوبًا، دابًا على يديه ورجليه، فيقول لهم: «بَحْ» ثم يخرجهم ويفسر لهم هذا العمل بقوله: «فأما دخولي على يدي ورجلي فإنما أردت بذلك أن أعلمكم أنكم مثل البهائم لا شيء، لا وضوء، ولا صلاة، ولا زكاة، ولا أي فرض من الفروض، وسقط جميع ذلك عنكم، وأما لبس الفرو مقلوبًا فإنما أردت أن أعلمكم أنكم قلبتم الدين، وأما قولي لكم بَحْ، فإنما أردت أن أعلمكم أن الأشياء كلها مباحة لكم من الزنى وشراب الخمر....».
ويعجبني في هذا المقام ما قاله شاعر أهل السنة في الشمال الإفريقي أبو القاسم الفزاري في هجاء بني عبيد:
يتبع