عرض مشاركة واحدة
قديم 08-08-03, 07:08 AM   رقم المشاركة : 2
أحمــــد
عضو فضي






أحمــــد غير متصل

أحمــــد



تفسير
القرطبى

فيه سبع وعشرون مسألة:
الأولى: قوله تعالى {حرمت عليكم الميتة والدم ولحم الخنزير وما أهل لغير الله به} تقدم القول فيه في البقرة.

الى


الثانية والعشرون: قوله تعالى {اليوم أكملت لكم دينكم} وذلك أن النبي صلى الله عليه وسلم حين كان بمكة لم تكن إلا فريضة الصلاة وحدها، فلما قدم المدينة أنزل الله الحلال والحرام إلى أن حج؛ فلما حج وكمل الدين نزلت هذه الآية {اليوم أكملت لكم دينكم} الآية؛ على ما نبينه. روى الأئمة عن طارق بن شهاب قال : جاء رجل من اليهود إلى عمر فقال : يا أمير المؤمنين آية في كتابكم تقرؤونها لو علينا أنزلت معشر اليهود لاتخذنا ذلك اليوم عيدا؛ قال : وأي آية ؟ قال {اليوم أكملت لكم دينكم وأتممت عليكم نعمتي ورضيت لكم الإسلام دينا} فقال عمر : إني لأعلم اليوم الذي أنزلت فيه والمكان الذي أنزلت فيه؛ نزلت على رسول الله صلى الله عليه وسلم بعرفة في يوم جمعة. لفظ مسلم. وعند النسائي ليلة جمعة. وروي أنها لما نزلت في يوم الحج الأكبر وقرأها رسول الله صلى الله عليه وسلم بكى عمر؛ فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم : (ما يبكيك) ؟ فقال : أبكاني أنا كنا في زيادة من ديننا فأما إذ كمل فإنه لم يكمل شيء إلا نقص. فقال له النبي صلى الله عليه وسلم : (صدقت). وروى مجاهد أن هذه الآية نزلت يوم فتح مكة.
قلت : القول الأول أصح، أنها نزلت في يوم جمعة وكان يوم عرفة بعد العصر في حجة الوداع سنة عشر ورسول الله صلى الله عليه وسلم واقف بعرفة على ناقته العضباء، فكاد عضد الناقة ينقد من ثقلها فبركت. و {اليوم} قد يعبر بجزء منه عن جميعه، وكذلك عن الشهر ببعضه؛ تقول : فعلنا في شهر كذا وكذا وفي سنة كذا كذا، ومعلوم أنك لم تستوعب الشهر ولا السنة؛ وذلك مستعمل في لسان العرب والعجم. والدين عبارة عن الشرائع التي شرع وفتح لنا؛ فإنها نزلت نجوما وآخر ما نزل منها هذه الآية، ولم ينزل بعدها حكم، قاله ابن عباس والسدي. وقال الجمهور : المراد معظم الفرائض والتحليل والتحريم، قالوا : وقد نزل بعد ذلك قرآن كثير، ونزلت آية الربا، ونزلت آية الكلالة إلى غير ذلك، وإنما كمل معظم الدين وأمر الحج، إذا لم يطف معهم في هذه السنة مشرك، ولا طاف بالبيت عريان، ووقف الناس كلهم بعرفة. وقيل {أكملت لكم دينكم} بأن أهلكت لكم عدوكم وأظهرت دينكم على الدين كله كما تقول : قد تم لنا ما نريد إذا كُفيت عدوك.
الثالثة والعشرون: قوله تعالى {وأتممت عليكم نعمتي} أي بإكمال الشرائع والأحكام وإظهار دين الإسلام كما وعدتكم، إذ قلت {ولأتم نعمتي عليكم} [البقرة : 150] وهي دخول مكة آمنين مطمئنين وغير ذلك مما انتظمته هذه الملة الحنيفية إلى دخول الجنة في رحمة الله تعالى.
الرابعة والعشرون: لعل قائلا يقول : قوله تعالى {اليوم أكملت لكم دينكم} يدل على أن الدين كان غير كامل في وقت من الأوقات، وذلك يوجب أن يكون جميع من مات من المهاجرين والأنصار والذين شهدوا بدرا والحديبية وبايعوا رسول الله صلى الله عليه وسلم البيعتين جميعا، وبذلوا أنفسهم لله مع عظيم ما حل بهم من أنواع المحن ماتوا على دين ناقص، وأن رسول الله صلى الله عليه وسلم في ذلك كان يدعو الناس إلى دين ناقص، ومعلوم أن النقص عيب، ودين الله تعالى قيم، كما قال تعالى {دينا قيما} [الأنعام : 161] فالجواب أن يقال له : لم قلت إن كل نقص فهو عيب وما دليلك عليه ؟ ثم يقال له : أرأيت نقصان الشهر هل كون عيبا، ونقصان صلاة المسافر أهو عيب لها، ونقصان العمر الذي أراده الله بقوله {وما يعمر من معمر ولا ينقص من عمره} [فاطر : 11] أهو عيب له، ونقصان أيام الحيض عن المعهود، ونقصان أيام الحمل، ونقصان المال بسرقة أو حريق أو غرق إذا لم يفتقر صاحبه، فما أنكرت أن نقصان أجزاء الدين في الشرع قبل أن تلحق به الأجزاء الباقية في علم الله تعالى هذه ليست بشين ولا عيب، وما أنكرت أن معنى قول الله تعالى {اليوم أكملت لكم دينكم} يخرج على وجهين :
أحدهما : أن يكون المراد بلغته أقصى الحد الذي كان له عندي فيما قضيته وقدرته، وذلك لا يوجب أن يكون ما قبل ذلك ناقصا نقصان عيب، لكنه يوصف بنقصان مقيد فيقال له : إنه كان ناقصا عما كان عند الله تعالى أنه ملحقه به وضامه إليه؛ كالرجل يبلغه الله مائة سنة فيقال : أكمل الله عمره؛ ولا يجب عن ذلك أن يكون عمره حين كان ابن ستين كان ناقصا نقص قصور وخلل؛ فإن النبي صلى الله عليه وسلم كان يقول : (من عمره الله ستين سنة فقد أعذر إليه في العمر). ولكنه يجوز أن يوصف بنقصان مقيد فيقال : كان ناقصا عما كان عند الله تعالى أنه مبلغه إياه ومعمره إليه. وقد بلغ الله بالظهر والعصر والعشاء أربع ركعات؛ فلو قيل عند ذلك أكملها لكان الكلام صحيحا، ولا يجب عن ذلك أنها كانت حين كانت ركعتين ناقصة نقص قصور وخلل؛ ولو قيل : كانت ناقصة عما عند الله أنه ضامه إليها وزائدة عليها لكان ذلك صحيحا فهكذا، هذا في شرائع الإسلام وما كان شرع منها شيئا فشيئا إلى أن أنهى الله الدين منتهاه الذي كان له عنده. والله أعلم.
والوجه الآخر : أنه أراد بقوله {اليوم أكملت لكم دينكم} أنه وفقهم للحج الذي لم يكن بقي عليهم من أركان الدين غيره، فحجوا؛ فاستجمع لهم الدين أداء لأركانه وقياما بفرائضه؛ فإنه يقول عليه السلام : (بني الإسلام على خمس) الحديث. وقد كانوا تشهدوا وصلوا وزكوا وصاموا وجاهدوا واعتمروا ولم يكونوا حجوا؛ فلما حجوا ذلك اليوم مع النبي صلى الله عليه وسلم أنزل الله تعالى وهم بالموقف عشية عرفة {اليوم أكملت لكم دينكم وأتممت عليكم نعمتي} فإنما أراد أكمل وضعه لهم؛ وفي ذلك دلالة على أن الطاعات كلها دين وإيمان وإسلام.
الخامسة والعشرون: قوله تعالى {ورضيت لكم الإسلام دينا} أي أعلمتكم برضاي به لكم دينا؛ فإنه تعالى لم يزل راضيا بالإسلام لنا دينا؛ فلا يكون لاختصاص الرضا بذلك اليوم فائدة إن حملناه على ظاهره. و {دينا} نصب على التمييز، وإن شئت على مفعول ثان. وقيل : المعنى ورضيت عنكم إذا أنقدتم لي بالدين الذي شرعته لكم. ويحتمل أن يريد {رضيت لكم الإسلام دينا} أي ورضيت إسلامكم الذي أنتم عليه اليوم دينا باقيا بكماله إلى آخر الآية لا أنسخ منه شيئا. والله أعلم. و{الإسلام} في هذه الآية هو الذي في قوله تعالى {إن الدين عند الله الإسلام} [آل عمران : 19] وهو الذي يفسر في سؤال جبريل للنبي عليهما الصلاة والسلام، وهو الإيمان والأعمال والشعب.