8 ) – وصية ابو ذر الغفارى ( رضى الله عنه )
لما لحق رسول الله صلى الله عليه و سلم بالرفيق الاعلى , لم يطق ابو ذر الغفارى صبرا على الاقامة فى المدينة المنورة , فرحل الى بادية الشام و اقام فيها مدة خلافة الصديق و الفاروق رضى الله عنهما , و فى خلافة عثمان بن عفان رضى الله عنه نزل الى دمشق , فرأى من اقبال المسلمين على الدنيا و انغماسهم فى الترف ما اذهله و دفعه الى الاستغراب و الاستنكار , فإستدعاه عثمان بن عفان الى المدينة فقدم اليها , لكنه ايضا ضاق برغبة الناس فى الدنيا , فأمره عثمان بالإنتقال الى ( الربذة ) و هى قرية صغيرة من قرى المدينة , فرحل اليها و اقام فيها بعيدا عن الناس , زاهدا بما فى ايديهم من عرض الدنيا , مستمسكا بما كان عليه رسول الله صلى الله عليه و سلم و صاحبيه ( الصديق و الفاروق ) من ايثارو تفضيل الباقية ( الآخرة ) على الفانية ( الدنيا ) .
و دخل عليه رجل ذات مرة فجعل يقلب بعينه بيت ابو ذر فلم يجد متاعا , فقال : يا ابا ذر اين متاعكم ؟
فقال : لنا بيت هناك ( يقصد الآخرة ) نرسل اليه صالح متاعنا .
و لما حضر ابا ذر الغفارى الوفاة ظلت زوجته تبكى فقال لها : ما يبكيكى ؟ فقالت : مالى لا ابكى و انت تموت بفلاة من الارض ( اى منعزل عن الناس ) , و لا طاقة و لا قدرة لنا على تجهيزك و دفنك و نعشك , و ليس عندنا ثوب يسعك كفنا و لا عندنا ... كذا ,, و كذا
فقال : لا تبكى , و ابشرى فإنى سمعت رسول الله صلى الله عليه و سلم يقول : (( ليموتن رجل منكم بفلاة من الارض تشهده عصبة من المؤمنين )) , و ليس من اولئك النفر احد إلا و قد مات فى قرية او جماعة , و انى انا الذى اموت بفلاة من الارض , و الله ماكذبت , فأبصرى الطريق .
فقالت : أنى و قد ذهب الحجيج , و تقطعت الطرق ؟
فقال : انظرى
فكانت تطلع على تل مرتفع من الرمل فتنظر ثم تعود لتمرضه , فبينما هى كذلك , اذ برجال قادمون , فألاحت لهم بثوبها , فأسرعوا اليها , و قالوا : مالك يا امة الله ؟ فقالت : امرؤ من المسلمين تكفنونه يموت .
فقالوا : و من هو ؟ فقالت : ابو ذر الغفارى
قالوا : صاحب رسول الله صلى الله عليه و سلم ؟ فقالت : نعم .. ,
ففدوه بآبائهم و امهاتهم , و اسرعوا اليه حتى دخلوا فسلموا عليه , فرحب بهم , و قال : انى سمعت رسول الله صلى الله عليه و سلم يقول (( ليموتن رجل منكم بفلاة من الارض تشهده عصبة من المؤمنين )) و انا الآن اموت بفلاة من الارض , و والله لو كان عندى كفنا , لم اكن لاكفن الا فى كفن لى او لزوجتى , و انى انشدكم الله : لا يكفنى رجل منكم كان اميرا او عريفا ( نائبا للامير ) او بريدا او نقيبا .
فلم يكن فى القوم احد الا و قد قارف من ذلك شيئا , الا فتى من الانصار , فقال انا اكفنك فى ردائى هذا و فى ثوبين من عيبتى ( شنطتى او كيس اغراضى ) .
فقال : اذن انت من تكفنى ... فكفنه الانصارى و دفنه من النفر الذين كانوا معه و كانوا فعلا عصبة من المؤمنين , فصدق رسول الله صلى الله عليه و سلم .
و مات ابو ذر الغفارى فى السنة الثانية و الثلاثون للهجرة , حيث استأثرت يد المنون بالعابد الزاهد الذى قال فيه رسول الله صلى الله عليه و سلم : ما اقلت الغبراء ( اى ما حملت الارض ) و لا اظلت الخضراء ( السماء ) من رجل اصدق من ابى ذر .