عرض مشاركة واحدة
قديم 17-09-08, 09:34 PM   رقم المشاركة : 5
السليماني
عضو ماسي








السليماني غير متصل

السليماني is on a distinguished road


الفصل الخامس‏:‏ الأصول والضوابط في مسألة التكفير


ونظرا لما حصل من تسرب المذهبين المذكورين المخالفين لمذهب أهل السنة إلى عقائد بعض المعدودين من أهل السنة ، وخفاء أصول هذه المسألة شرعاً على آخرين ؛ رأيت إيضاح ما يجب اعتباره شرعاً في هذه المسألة مما يُعْرَفُ به الحق بدليله ‏,‏ وبطلان ما خالفه من المذاهب المردية ‏,‏ والاتجاهات الفكرية الضالة ‏,‏ وأنها مسألة خطيرة ‏,‏ وعظيمة ‏,‏ مُحاطةٌ شرعا بما يحفظ للإسلام حرمته ‏,‏ وللمسلمين حرمتهم ‏,‏ وذلك فيما يأتي ‏:‏


1- التكفير حكم شرعي لا مدخل للرأي المجرد فيه ‏,‏ لأنه من المسائل الشرعية لا العقلية ‏,‏ لذا صار القول فيه من خالص - حق الله تعالى - لا حَقَّ فيه لأحد من عباده ، فالكافر من كفره الله تعالى ورسوله صلى الله عليه وسلم لا غير ‏.‏

وكذلك الحكم بالفسق ، والحكم بالعدالة ، وعصمة الدم ، والسعادة في الدنيا والآخرة ، كل هذه ونحوها من المسائل الشرعية ‏,‏ لا مدخل للرأي فيها ‏,‏ وإنما الحكم فيها لله ولرسوله صلى الله عليه وسلم ‏,‏ وهي المعروفة في كتب الاعتقاد باسم ‏:‏ ‏"‏ مسائل الأسماء والأحكام ‏"‏ ‏.‏


2- للحكم بالردة والكفر موجبات وأسباب هي نواقض الإيمان والإسلام ، من اعتقاد ‏,‏ أو قول ‏,‏ أو فعل ‏,‏ أو شك ‏,‏ أو ترك ، مما قام على اعتباره ناقضا الدليلُ الواضح ‏,‏ والبرهان الساطع من الكتاب أو السنة ‏,‏ أو الإجماع ‏,‏ فلا يكفي الدليل الضعيف السند ‏,‏ ولا مشكل الدلالة ، ولا عبرة بقول أحد كائنا من كان إذا لم يكن لقوله دليل صريح صحيح ‏.‏

وقد أوضح العلماء - رحمهم الله تعالى - هذه الأسباب في كتب الاعتقاد ‏,‏ وفرعوا مسائلها في ‏:‏ ‏"‏ باب حكم المرتد ‏"‏ من كتب الفقه ‏.‏

وأَوْلَوها عناية فائقة ‏,‏ لأنها من استبانة سبيل الكافرين ، والله - تعالى - يقول ‏:‏ ‏{‏ وكذلك نفصل الآيات ولتستبين سبيل المجرمين ‏}‏ ‏[‏ الأنعام/55 ‏]‏ ‏.‏

وفي استبانة سبيل المجرمين ‏:‏ تحذير للمسلم من الوقوع في شيء منها ، وهو لا يشعر ‏,‏ وليتبين له الإسلام من الكفر ، والخطأ من الصواب ويكون على بصيرة في دين الله تعالى ‏.‏

وبقدر ما يحصل من الجهل بسبيل المؤمنين ، وبسبيل الكافرين ، أو بأحدهما يحصل اللبس ويكثر الخلط ‏.‏

وكما أن للحكم بالردة والكفر موجباتٍ وأسباباً فله شروط وموانع ‏.‏

فيشترط إقامة الحجة الرسالية التي تزيل الشبهة ‏.‏

وخلوه من الموانع كالتأويل ‏,‏ والجهل ‏,‏ والخطأ ‏,‏ والإكراه ‏.‏

وفي بعضها تفاصيل مطولة معلومة في محلها ‏.‏



3- يتعين التفريق بين التكفير المطلق وهو ‏:‏ التكفير على وجه العموم في حق من ارتكب ناقضا من نواقض الإسلام ، وبين تكفير المعين ، فإن الاعتقاد ، أو القول ، أو الفعل ، أو الشك ، أو الترك ، إذا كان كفرا فإنه يطلق القول بتكفير من فعل ذلك الفعل ، أو قال تلك المقالة وهكذا ‏.‏‏.‏‏.‏ دون تحديد معين به ‏.‏ أما المعين إذا قال هذه المقالة ، أو فعل هذا الفعل الذي يكون كفرا ‏,‏ فينظر قبل الحكم بكفره ‏,‏ بتوفر الشروط ‏,‏ وانتفاء الموانع في حقه ، فإذا توفرت الشروط ‏,‏ وانتفت الموانع ، حكم بكفره وردته فيستتاب فإن تاب وإلا قتل شرعاً ‏.‏


4- الحق عدم تكفير كل مخالف لأهل السنة والجماعة لمخالفته ‏,‏ بل ينزل حكمه حسب مخالفته من كفر ، أو بدعة أو فسق أو معصية ‏.‏


وهذا ما جرى عليه أهل السنة والجماعة من عدم تكفير كل من خالفهم وهو يدل على ما لديهم بحمدالله من العلم والإيمان والعدل والرحمة بالخلق ، وهذا بخلاف أهل الأهواء ، فان كثيرا منهم يكفِّرون كل من خالفهم ‏.‏


5- كما أن ‏"‏الإيمان‏"‏ شعب متعددة ورتبها متفاوتة أعلاها قول ‏"‏لا اله إلا الله‏"‏ وأدناها ‏:‏ إماطة الأذى عن الطريق، والحياء شعبة من الإيمان ، فكذلك ‏"‏الكفر‏"‏ الذي هو في مقابلة الإيمان ، ذو شعب متعددة ، ورتب متفاوتة أشنعها ‏"‏الكفر المخرج من الملة‏"‏ مثل ‏:‏ الكفر بالله ، وتكذيب ما جاء به النبي صلى الله عليه وسلم ‏.‏


وهناك كفر دون كفر ، ومنه تسمية بعض المعاصي كفراً ‏.‏



ولهذا نبه علماء التفسير ، والوجوه والنظائر في كتاب الله - تعالى- وشراح الحديث والمؤلفون في‏:‏ ‏"‏لغته‏"‏ وفي الأسماء المشتركة ، والمتواطئة ، أن لفظ ‏"‏الكفر‏"‏ جاء في نصوص الوحيين ، على وجوه عدة ‏:‏ ‏"‏الكفر الناقل عن الملة‏"‏ و ‏"‏كفر دون كفر‏"‏ و‏"‏كفر النعمة‏"‏ و‏"‏التبرؤ‏"‏ و‏"‏الجحود‏"‏ و‏"‏التغطية‏"‏ على أصل معناه اللغوي ‏.‏


وبناء على هذا ‏:‏ فانه لا يلزم من قيام شعبة من شعب الكفر بالعبد ، أن يصير كافراً الكفر المطلق ، الناقل عن الملة ، حتى يقوم به أصل الكفر ، بناقض من نواقض الإسلام ‏:‏ الاعتقادية أو القولية أو العملية عن الله ورسوله صلى الله عليه وسلم لا غير ‏.‏


كما أنه ليس كل من قام به شعبة من شعب الإيمان يكون مؤمنا حتى يقوم به أصل الإيمان ‏.‏


فالواجب وضع النصوص في مواضعها وتفسيرها حسب المراد منها من العلماء العاملين الراسخين ، وان الغلط هنا إنما يحصل من جهة العمل وتفسير النصوص وعلى الناصح لنفسه أن يحس بخطورة الأمر ودقته وأن يقف عند حده ويكل العلم إلى عالمه ‏.‏


6- إصدار الحكم بالتكفير لا يكون لكل أحد من آحاد الناس أو جماعاتهم وإنما مرد الإصدار إلى العلماء الراسخين في العلم الشرعي المشهود لهم به ، وبالخيرية والفضل الذين أخذ الله عليهم العهد والميثاق أن يبلغوا الناس ما علموه وأن يبينوا لهم ما أشكل عليهم من أمر دينهم امتثالا لقول الله تعالى ‏(‏وإذ أخذ الله ميثاق الذي أوتوا الكتاب لتبيننه للناس ولا تكتمونه‏)‏ ‏"‏آل عمران/187‏"‏ ‏.‏ وقوله سبحانه ‏(‏إن الذين يكتمون ما أنزلنا من البينات والهدى من بعد ما بيناه للناس في الكتاب أولئك يلعنهم الله ويلعنهم اللاعنون‏)‏ ‏"‏البقرة/159‏"‏ وقوله سبحانه ‏:‏ ‏(‏ فاسألوا أهل الذكر إن كنتم لا تعلمون‏)‏ ‏"‏النحل/43‏"‏ ‏.‏


فما أمر الله بالسؤال حتى أخذ سبحانه العهد والميثاق على العلماء بالبيان ‏.‏


7- التحذير الشديد ، والنهي الأكيد عن سوء الظن بالمسلم فضلا عن النيل منه فكيف بتكفيره والحكم بردته والتسرع في ذلك بلا حجة ولا برهان من كتاب ولا سنة ‏.‏


ولهذا جاءت نصوص الوحيين الشريفين محذرة من تكفير أحد من المسلمين وهو ليس كذلك كما قال الله تعالى ‏(‏يا أيها الذين آمنوا إذا ضربتم في سبيل الله فتبينوا ولا تقولوا لمن ألقى إليكم السلام لست مؤمنا تبتغون عَرَض الحياة الدنيا فعند الله مغانم كثيرة كذلك كنتم من قبل فمنَّ الله عليكم فتبينوا إن الله كان بما تعلمون خبيرا ‏)‏ ‏"‏النساء/94‏"‏ ‏.‏


وفي عموم قول الله سبحانه ‏:‏ ‏(‏والذين يؤذون المؤمنين والمؤمنات بغير ما اكتسبوا فقد احتملوا بهتانا وإثما مبينا‏)‏ ‏"‏الأحزاب/58‏"‏ ‏.‏


وقد تواترت الأحاديث النبوية في النهي عن تكفير المسلم بغير حق ، منها ‏.‏‎‏:‏


حديث أبي ذر -رضي الله عنه- أنه سمع النبي صلى الله عليه وسلم يقول ‏"‏لا يرمي رجل رجلا بالفسوق ، ولا يرميه بالكفر ،إلا ارتدت عليه إن لم يكن صاحبه كذلك ‏"‏ متفق على صحته ‏.‏


وعن ابن عمر -رضي الله عنهما -أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال ‏:‏أيَّما رجل قال لأخيه ‏:‏يا كافر فقد باء بها أحدهما ‏"‏ متفق على صحته ‏.‏


وعن أبي ذر - رضي الله عنه - أنه سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول ‏"‏ومن دعا رجلا بالكفر ، أو قال ‏:‏ عدو الله ، وليس كذلك ، إلا حار عليه ‏"‏ متفق على صحته ‏.‏


ومعنى حار عليه ‏:‏ رجع عليه ‏.‏



وفي حديث ثابت بن الضحاك -رضي الله عنه- أن النبي صلى الله عليه وسلم قال ‏:‏ ‏"‏ومن رمى مؤمنا بكفر فهو كقتله‏"‏ رواه البخاري في صحيحه ‏.‏


فهذه النصوص وغيرها فيها الوعيد الشديد لمن كَفَّر أحداً من المسلمين وليس هو كذلك ، وهذا والله أعلم - لما في إطلاق الكفر بغير حق على المؤمن من الطعن في نفس الإيمان ، كما أن فيها التحذير من إطلاق التكفير إلا ببينة شرعية ، إذ هو حكم شرعي لا يصار إليه إلا بالدليل ، لا بالهوى والرأي العاطل من الدليل ‏.‏


وهذه الحماية الكريمة والحصانة العظيمة للمسلمين في أعراضهم وأديانهم من أصول الاعتقاد في ملة الإسلام ‏.‏


بناء على جميع ما تقدم فليحذر المسلم أن يخوض مع الخائضين في هذا الأمر الخطير في المجالس الخاصة ، والمجتمعات العامة ، وفي الصحف والمجلات وغيرها ، من غير قدرة شرعية ولا قواعد علمية ولا أدلة قطعية فهذا تصرف يأباه الله ورسوله والمؤمنون ، وفاعله مأزور غير مأجور ، فالله تعالى ، يقول ‏:‏‏(‏ ولا تقف ما ليس لك به علم أن السمع والبصر والفؤاد كل أولئك كان عنه مسؤولا ‏)‏ ‏"‏الإسراء/36‏"‏ ‏.‏


ويقول -سبحانه- ‏:‏ ‏(‏قل إنما حرم ربي الفواحش ما ظهر منها وما بطن والإثم والبغي بغير الحق وأن تشركوا بالله ما لم ينزل به سلطانا وأن تقولوا على الله ما لا تعلمون ‏)‏ ‏"‏الأعراف


وبذلك يكون المسلم في مأمن من الإثم والتبعة في الدارين ، وتسلم المجتمعات الإسلامية من مظاهر الانحراف التي سببها الجهل والميل إلى الهوى ‏.‏ والله المستعان ‏.‏


وفي هذا الفصل نقض لمذهب الخوارج في غلوهم وإفراطهم ‏.‏