* السادس من تلك الضوابط والقواعد :
أن للقول والعمل في الفتن ضوابط ؛ فليس كل مقال يبدو لك حسناً تظهره , وليس كل فعل يبدو لك حسناً تفعله ؛ لأن الفتنة قولك فيها يترتَّب عليه أشياء , ولأن الفتنة عملك فيها يترتَّب عليه أشياء .
فلا غرو أن سمعنا أبا هريرة رضي الله عنه يقول : حفظت من رسول الله صلى الله عليه وسلم وعاءين : أما أحدهما ؛ فبثثته , وأما الآخر ؛ فلو بثثته ؛ لقطع هذا الحلقوم ! رواه البخاري في صحيحه .
قال أهل العلم : قول أبي هريرة : لقطع هذا الحلقوم ؛ يعني : أنه كتم الأحاديث التي في الفتن , والأحاديث التي في بني أمية , ونحو ذلك من الأحاديث وهو قال هذا الكلام في زمن معاوية رضي الله عنه , ومعاوية اجتمع الناس عليه بعد فرقة وقتال , تعلمون ما حصل فيه , وتعلمون تاريخه , فأبو هريرة كتم بعض الأحاديث ؛ لماذا وهي أحاديث رسول الله صلى الله عليه وسلم ؟! ليست في الأحكام الشرعية , وإنما في أمر آخر , لماذا كتمها ؟! لأجل أن لا يكون هناك فتنة في الناس , ولم يقل : إن قول الحديث حقِّ , وأنه لا يجوز أن نكتم العلم ؛ لماذا ؟ لأن كتم العلم في هذا الوقت الذي تكلَّم فيه أبو هريرة لا بدَّ منه ؛ لكي لا يتفرَّق الناس بعد أن يجتمعوا في عام الجماعة على معاوية بن أبي سفيان رضي الله عنه .
ويقول ابن مسعود فيما رواه مسلم في صحيحه : ما أنت بمحدِّثٍ قوماً حديثاً لا تبلعه عقولهم ؛ إلا كان لبعضهم فتنة .
الناس لا يتصورون كل كلام يقوله القائل فيما يتحدث به في كل أمر في الفتن ؛ فقد يسمعون منه أشياء لا تبلغها عقولهم , فيفهمون أشياء يبنون عليها اعتقادات , أو يبنون عليها تصرفات , أو يبنون عليها أحوالاً وأعمالاً وأقوالاً لا تكون عاقبتها حميدة .
لهذا كان السلف يعملون بذلك كثيراً .
أنظر إلى الحسن البصري رحمه الله تعالى حيث أنكر على أنس بن مالك رضي الله عنه حين حدث الحجاج بن يوسف بحديث قتل النبي صلى الله عليه وسلم للعًرَنيين ؛ قال لأنس وأنكر عليه : لم تحدث الحجاج بهذا الحديث ؟! قال له لأن الحجاج عاث في الدماء , وسيأخذ هذا الحديث يتأول به صنيعه , فكان واجباً أن يُكتم هذا الحديث وهذا العلم عن الحجاج ؛ لكي لا يكون في فهمه وعقله – الذي ليس على السواء وليس على الصحة – أن هذا الحديث يؤيده , أو أن هذا الحديث دليل معه , فيفهمه على غير فهمه .
فالحسن رحمه الله أنكر على أنس رضي الله عنه –وهو الصحابي – تحديثه , وندم أنس رضي الله عنه بعد ذلك على تحديثه الحجاج بحديث العُرَنيين .
وحذيفة – قبل أبي هريرة – كتم أحاديث من أحاديث الفتن , لأنه رأى أن الناس لا يحتاجونها .
والإمام أحمد كره أيضا التحدث بالأحاديث التي فيها الخروج على السلطان , وأمر أن تشطَب من مسنده ؛ لأنه قال : لا خير في الفتنة , ولا خير في الخروج .
وأبو يوسف كره التحدث بأحاديث الغرائب.
ومالك رحمه الله كره التحديث بأحاديث فيها ذكر لبعض الصفات .
المقصود من هذا : أنه في الفتن ليس كل ما يعلم يُقال , ولا كل ما يُقال يُقال في كل الأحوال.
لا بدَّ من ضبط الأقوال ؛ لأنك لا تدري ما الذي سيحدثه قولك ؟ وما الذي سيحدثه رأيك ؟ وما الذي سيحدثه فهمك؟
والسلف رحمهم الله أحبو السلامة في الفتن , فسكتوا عن أشياء كثيرة ؛ طلباً للسلامة في دينهم , وأن يلقوا الله جلَّ وعلا سالمين .
وقد ثبت أن سعد بن أبي وقاص رضي الله عنه قال لابنه حين حدَّث في القيام ببعض الأمر في الفتنة ؛ قال لابنه : يا هذا ! أتريد أن تكون رأساً في الفتنة ! لا , لا والله .
فنهى سعد بن أبي وقاص ابنه عن أن يكون سعد أو أن يكون أبنه رأساً في الفتنة , ولو بمقال أو بفعال , ولو رآها حسنة صائبة ؛ فإنه لا يأمن أن تكون عاقبتها غير حميدة .
والناس لا بدَّ أن يزنوا الأمور بميزان شرعي صحيح , حتى يَسْلَموا, وحتى لا يقعوا بالخطأ .
ثم إن للأعمال وللأفعال وللتصرفات ضوابط لا بدَّ من رعايتها ؛ فليس كل فعل يُحمد في حال يُحمد في الفتنة إذا كان سيفهم منه غير الفهم الذي يُراد أن يُفهم منه .
فالنبي صلى الله عليه وسلم – كما روى البخاري في الصحيح – قال لعائشة : لولا حدثان قومك بالكفر ؛ لهدمت الكعبة , ولبنيتها على قواعد إبراهيم , ولجعلت لها بابين .
النبي صلى الله عليه وسلم خشي أن يفهم كفار قريش الذين أسلموا حديثاً من نقضه الكعبة , ومن بنائه إياها على بناء إبراهيم , ومن جعله لها بابين : باب يدخل منه الناس , وباب يخرجون منه ؛ خشي أن يفهم منه الناس فهماً غير صائب , وأن يفهموا أنه يريد الفخر , أو أنه يريد تسفيه دينهم – دين إبراهيم - , أو نحو ذلك ؛ فترك هذا الفعل.
ولهذا ؛ بوَّب البخاري – رحمه الله – باباً عظيماً استدلَّ عليه بهذا الحديث ؛ ماذا قال ؟ قال : باب : من ترك الاختيار مخافة أن يقصر الناس عن فهمه فيقعوا في أشد منه .
وذكر البخاري تحت هذا الباب هذا الحديث النبوي .
وعند ذلك نعلم أنه لا بد َّ من الفهم ؛ فالسرعة والتعجُّل أمور غير محمودة , فمَن الذي يلزمك بأن تتكلَّم في كل مجلس أو أن تتكلَّم في كل مجتمع بما تراه حقَّاً في الفتن ؟
فالحق يبيِّنه علماء السنة والجماعة , فإن كان عندك رأي أو فهم ؛ فاعرضه عليهم , فإن قبلوا ؛ فذاك , وإلا ؛ فقد برئت ذمتك من إطلاع عامة المسلمين على رأيك .
يتبع....