عرض مشاركة واحدة
قديم 19-08-20, 07:15 AM   رقم المشاركة : 74
السليماني
عضو ماسي








السليماني غير متصل

السليماني is on a distinguished road


بسم الله الرحمن الرحيم

سارة بنت فراج العقلا

المسائل والقضايا المتعلقة بالإسلام والإيمان والكفر والنفاق مسائلُ عظيمة جدًا،

فإن الله علّق بهذه الأسماء السعادة والشقاوة واستحقاق الجنة والنار، والاختلاف في مسمياتها أول اختلاف وقع في هذه الأمة، وهو خلاف الخوارج للصحابة حيث أخرجوا عصاة الموحدين من الإسلام بالكلية، وأدخلوهم في دائرة الكفر، وعاملوهم معاملة الكفار، واستحلوا بذلك دماء المسلمين وأموالهم، ثم بعد خلافهم هذا ظهرت بقية الفرق وصارت الأمة شيعًا وأحزابًا[ 1 ].

وكان من الفوائد التي أخذت من قوله صلى الله عليه وسلم: (إذا قال الرجل لأخيه: يا كافر، فقد باء بها أحدهما)[ 2 ] الزجرُ عن التكفير، والتحذيرُ منه، والوعيدُ الشديد لمن تلبس به[ 3 ].

فالتكفير من الأحكام الشرعية التي مردّها إلى الكتاب والسنة، فيجب التثبت فيه غاية التثبت، فلا يُكفّر ولا يُفسّق إلا من دلّ الكتاب والسنة على كفره أو فسقه،

والأصل في المسلمِ الظاهرِ العدالةِ: بقاءُ إسلامِه، وبقاءُ عدالته حتى يتحقق زوال ذلك عنه بمقتضى الدليل الشرعي[ 4 ].

فلا يُصار إلى التكفير بمجرد الظن والهوى، فهو من أعظم القول على الله بلا علم، قال تعالى: {قُلْ إِنَّمَا حَرَّمَ رَبِّيَ الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ وَالإِثْمَ وَالْبَغْيَ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَأَنْ تُشْرِكُوا بِاللَّهِ مَا لَمْ يُنَـزِّلْ بِهِ سُلْطَانًا وَأَنْ تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ مَا لاَ تَعْلَمُونَ}[الأعراف: 33].

فالحكم على إنسان ما بالكفر حكم شرعي، مضبوط بضوابط معلومة من الكتاب والسنة، فلا يُصار إليه إلا بأمر تجوز معه الشهادة عليه بالكفر، فإنه من أعظم البغي أن يُشهد على معين أن الله لا يغفر له، ولا يرحمه، بل يخلده في النار، فإن هذا حكم الكافر بعد الموت[ 5 ]، ولهذا ذكر أبو داود في سننه في كتاب الأدب: "باب النهي عن البغي" وذكر فيه عن أبي هريرة رضي الله عنه، قال: سمعت رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يقول: (كان رجلان في بني إسرائيل متواخيين، فكان أحدُهما يُذنب، والآخرُ مجتهدٌ في العبادة، فكان لا يزال المجتهدُ يرى الآخر على الذنب فيقول: أَقْصِر، [أي كُفَّ عن الذنب، وتوقف عن فعله] فوجده يومًا على ذنب فقال له: أَقْصِر، فقال: خلّني وربي، أَبُعِثْتَ عليّ رقيبًا؟ فقال: والله لا يغفر الله لك، أو لا يدخلك الجنة، فقبض أرواحهما فاجتمعا عند رب العالمين، فقال لهذا المجتهد: أكنت بي عالمًاً؟ أو كنت على ما في يدي قادراً؟ وقال للمذنب: اذهب فادخل الجنة برحمتي، وقال للآخر: اذهبوا به إلى النار) قال أبو هريرة: والذي نفسي بيده لتكلم بكلمة أوبقت دنياه وآخرته[ 6 ].

وقال القاضي عياض في مطلع فصل المُكفّرات القولية: "اعلم أن تحقيق هذا الفصل وكشف اللبس فيه مورده الشرع، ولا مجال للعقل فيه"[ 7 ].

وقال ابن تيمية مؤكداً على هذا: "الكفر: حكم شرعي متلقى عن صاحب الشريعة، والعقل قد يعلم به صواب القول وخطؤه، وليس كل ما كان خطأً في العقل يكون كفرًا في الشرع"[ 8 ].

وقال ابن الوزير: "إن التكفير سمعي محض لا مدخل للعقل فيه، وإن الدليل على الكفر لا يكون إلا سمعيًا قطعيًا، ولا نزاع في ذلك"[ 9 ].

فلا يُتكلم في هذه المسألة إلا بعلم وبرهان من الله، ولا يُخرج إنسان من الإسلام بمجرد الفهم واستحسان العقل، فإن إخراج رجل من الإسلام أو إدخاله فيه أعظم أمور الدين، وما تنازع العلماء في كونه كفراً، فالاحتياط للدين التوقف وعدم الإقدام ما لم يكن في المسألة نصّ صريح من الكتاب أو السنة[ 10 ]، فإن استباحة دماء المصلين الموحدين خطر عظيم، والخطأ في ترك ألف كافر أهون من الخطأ في سفك محجمة من دم مسلم واحد[ 11 ].

ولما أنْ كان التكفير حكماً شرعياً فقد كان أهل العلم والسنة لا يُكفرون من خالفهم، وإن كان ذلك المخالف يكفّرهم! فمن عيوب أهل البدع تكفير بعضهم بعضاً، ومن ممادح أهل العلم أنهم يُخَطئون ولا يكفرون، فالكفر حكم شرعي، فليس للإنسان أن يعاقب بمثله، فكما لا يجوز للإنسان أن يكذب على من كذب عليه، أو يزني بأهل من زنى بأهله، لأن الكذب والزنا حرام لحق الله تعالى، فكذلك التكفير حق الله تعالى، فلا يكفر إلا من كفره الله ورسوله[ 12 ].

ومن الآثار المترتبة على التكفير والدالّة على خطورته: ما ذكره الفقهاء من الأحكام الخاصة بالمرتد مثل: قتله لقوله صلى الله عليه وسلم: (لا يحل دم امرئٍ مسلم إلا بإحدى ثلاث: الثيب الزاني، والنفس بالنفس، والتارك لدينه المفارق للجماعة)[ 13 ]، وكون ماله يصير فيئًا لا يرث ولا يُورث، وعدم صحة تزويجه لأنه لا ولاية له، وتحريم ذبيحته، وترك الصلاة عليه، وما إلى ذلك من أحكام[ 14 ]،

بل إنّ عقوبة الكافر المرتد أعظم من عقوبة الكافر الأصلي من وجوه، منها: أن المرتد يقتل بكل حال، ولا يضرب عليه جزية، ولا تعتمد له ذمة، بخلاف الكافر الأصلي، ومنها: أن المرتد يقتل وإن كان عاجزًا عن القتال، بخلاف الكافر الأصلي الذي ليس هو من أهل القتال، فإنه لا يقتل عند أكثر العلماء، ومنها: أن المرتد لا يُزوّج ولا تؤكل ذبيحته، بخلاف الكافر الأصلي، فهو -أي المرتد- شرّ من اليهود والنصارى[ 15 ].

ثم مما يبيّن خطورة التكفير والحكم على شخص بأنه كافر مستحق للقتل: خطورة القتل، روى الترمذي من حديث ابن عباس –رضي الله عنهما- أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قال: (يجيء المقتول بالقاتل يوم القيامة، ورأسه وناصيته بيده، وأوداجه تشخب دمًا، يقول: يا رب سلْ هذا فيم قتلني؟) وقال: حديث حسن[ 16 ].

وفيه أيضاً عن نافع قال: "نظر عبد الله يومًا إلى الكعبة، فقال: ما أعظمك، وأعظم حرمتك، والمؤمن أعظم حرمة عند الله منك"[ 17 ].

وفي صحيح البخاري: (ومن استطاع أن لا يحول بينه وبين الجنة كف من دم أهراقه فليفعل)[ 18 ].

وفي صحيحه أيضًا عن ابن عمر قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (لا يزال المؤمن في فسحة من دينه ما لم يصب دماً حراماً)[ 19 ].

وفيه: (من قتل معاهداً لم يرح رائحة الجنة، وإن ريحها ليوجد من مسيرة أربعين عاماً)[ 20 ]، فإذا كانت هذه عقوبة قاتل عدو الله إذا كان في عهده وأمانه، فكيف عقوبة قاتل عبده المؤمن الذي صحّ أن الله يعادي من يؤذيه ويؤذنه بالحرب[ 21 ].

فإذا كان للتكفير هذه الآثار والتي من أعظمها القتل،

فإنه لا يحكم به إلا القضاةُ الذين يتولّون الفصل والقضاء في سائر الحدود، فمن باب أولى ألا يحكم بارتداد المرتد غيرهم.

ويؤخذ من قول الفقهاء وعامة أهل العلم: أن قتل المرتد إلى الإمام حرًا كان أو عبدًا، أن الإمام أو نائبه هو الذي يتولى إقامة حد القتل[ 22 ].

المصدر: مجلة البحوث الإسلامية، (83 / 156- 163)، جزء من بحث بعنوان: "الكفر مفهومه وأنواعه والغلاة فيه"

--------------------------------------

1 - جامع العلوم والحكم لابن رجب، (1/ 114)
2 - رواه مسلم (60)
3 - شرح النووي (2/ 49)، وفتح الباري لابن حجر (10/466)
4 - القواعد المثلى في صفات الله وأسمائه الحسنى لابن عثيمين، (1/237)
5 - ينظر شرح الطحاوية لابن أبي العز (2/485)
6 - حديث رقم (4901)
7 - الشفاء (2/ 604)
8 - درء تعارض العقل والنقل (1/ 442)
9 - العواصم والقاصم (4/ 178-179)
10 - رسالة في حكم من يكفر غيره من (5 /522)
11 - الشفا للقاضي عياض، (2/595)
12 - ينظر الرد على البكري لابن تيمية ص (257)
13 - البخاري (6878) ومسلم (1676)
14 - المغني (12/264)
15 - ينظر مجموع الفتاوى لابن تيمية (28/234) ومجموع الرسائل والمسائل (4/43)
16 - حديث رقم (3029)
17 - أخرجه الترمذي (2032) موقوفا على ابن عمر، وأخرجه ابن ماجه (3932) مرفوعاً بإسناد فيه مقال كما قال البوصيري في زوائد ابن ماجه (1/245)
18 - حديث رقم (7152)
19 - حديث رقم (6862)
20 - حديث رقم (3166)
21 - العواصم والقاصم لابن الوزير (9/34)
22 - المغني لابن قدامة (12/ 272)