كرامات الأولياء بين أهل السنة ومخالفيهم
(2-2)
عبد اللطيف بن محمد الحسن
فـي الحلقة الأولى: تقدم الكلام عن مفهوم الولاية والأولياء بين أهــل الـسـنـة والمـتصوفة، ومفهوم الخوارق والـكـرامــــات وما تتميز به عن الأحوال الشيطانية، ثم الإلهام والفراسة والرؤى.
وتـمــام الحـديـث: شــــرح موقف أهل السنة والجماعة من الكرامات مُدعَّماً ببعض الأدلة والأمثلة والضوابط والفوائــــد، وتبع ذلك ذكر مواقف المخالفين من المنكرين للكرامات، أو المتوسعين فيها المتفلتين من الضوابط الشرعية.
عقيدة أهل السنة في الكرامات:
من عاد إلى كتب أهل السنة وجـــــد موقفهم من الكرامة وسطاً بين إنكار الجافين، وتوسع الغالين. قال الطحاوي عن الأولياء: "ونـؤمـــــن بما جاء من كراماتهم وصح عن الثقات من رواياتهم"(1). وقال ابن تيمية: "ومن أصول أهـــــــل السنة والجماعة: التصديق بكرامات الأولياء وما يُجري الله على أيديهم من خوارق العادات في أنواع العلوم والمكاشفات، وأنواع القدرة والتأثيرات، كالمأثور عن سالف الأمم في سورة الكهف وغيرها، وعن صدر هذه الأمة من الصحابة والتابعين وسائر قرون الأمة، وهي موجودة فيها إلى يوم القيامة"(2).
و "لقد تواترت نصوص الكتاب والسنة والوقائع قديـمــــــاً وحديثاً على وقوع كرامات الله لأوليائه المتبعين لأنبيائه"(3) والأدلة كثيرة. منها: ما ذكـره الله من مجيء الرزق لمريم؛ لا من بشر، وكذا إنبات الرطب وإجراء النهر لها؛ ولم يكن شـيء منها قبل ذلك، ومنها: ازورار الشمس عن أهل الكهف، فلا تصيبهم مع أنهم في مـكـان مـنفـتــح انفـتاحـاً واسعاً، ومنها: ما وقع لسارة ـ رضي الله عنها ـ من حملها بإسحاق في سن اليأس، ومنها: إحضار الذي عنده علم من الكتاب عرش بلقيس إلى سليمان ـ عليه السلام ـ (4) وكذا: كـــفّ يــد الظالم عن سارة، ومنها: نجاة أصحاب الغار من الصخرة التي انطبقت عليهم، ومنها: تـكـلُّـم الـغــلام فـي الـمـهـد، ومنها: عجز الملك عن قتل الغلام حتى قال: بسم الله رب الغلام(5).
ومـــــن الكرامات الواقعة للصحابة ـ رضي الله عنهم ـ: أن عبد الله بن حرام والد جابر ـ رضي الله عـنهـما ـ توقّع مقتله في أول من يقتل يوم أحد، فحصل ذلك ودفن مع عمرو بن الجموح ـ رضي الله عـنـهـما ـ فأخرجه جابر بعد ستة أشهر فإذا هو كيوم دُفن غير أذنه، ثم دفنه في قبر وحده(6).
وعن أنس أن رجلين من أصـحـــاب النبي صلى الله عليه وسلم خرجا من عند النبي صلى الله عليه وسلم في ليلة مظلمة ومعهما مثل المصباحين بين أيديهما، فلما افترقا صار مع كل واحد منهما واحد حتى أتى أهله(7).
ضوابط قبول الكرامة:
أ - ضابط عام في الكرامات:
ليس من منهج الإسلام التعويل على الكرامات، وجعلها شرطاً للإيمان؛ فقد عاب الله على المشركين لما طلبوا من النبي صلى الله عليه وسلم آيات خارقة، فقال - تعالى -: وقالوا لن نؤمن لك حتى" تفجر لنا من الأرض يـنـبـوعـــــا [الإسراء: 90]، إلى قوله - تعالى -: قل سبحان ربي هل كنت إلا بشرا رسولا [الإسراء: 93] فقد كانت معجزاته صلى الله علـيــه وسلم معتمدة على الحجة والبرهان، وأجلُّها القرآن الكريم أعظم معجزة أعطيت لنبي،وهي أنفع المعجزات.
ولذا كانت حياته صلى الله علـيـه وسلم تجري موافقة للمألوف جرياً على العادة مع كونه أعـظــم الـخـلـق وأشــرفـهـم -صلىاللهعليهوسلم-؛ فكان يأخذ بالأسباب كما فعل يوم الهجرة(8). وهذه خاصية الدين والمنهج الذي يصلح للبقاء، خلافاً لما يظنه كثير من الناس من أن الأولياء يجب أن يتصرفوا في هذا الكون ويُعْطَوا مفاتيحه!(9).
ب - ضوابط من تقع له الكرامات:
أولاً: أن يكون من وقعت له من عـبــاد الله المؤمنين. "فمن لم يكن له مصدقاً فيما أخبر به ملتزماً طاعته فيما أوجب وأمر به في الأمور الباطنة التي في القلوب والأعمال الظاهرة التي على الأبدان لم يكن مؤمناً فضلاً عـن أن يكون ولياً لله، ولو حصل له من خوارق العادة ما عسى أن يحصل؛ فإنه لا يكون مع تركه لفعل المأمور وترك المحظور - من أداء الواجبات من الصلاة وغيرها بطهارتها وواجباتها - إلا من أهل الأحوال الشيطانية المبعدة لصاحبها عن الله المقربة إلى سخطه وعذابه"(10).
ثانياً: أن لا يجزم في كل خارق يحصل له أنه كرامـة؛ بل الواجب عليه أن يعرض أقواله وأفعاله على الكتاب والسنة، فإن كـانـت مـوافـقـة لها فهي حق وصدق وكرامة من الله - سبحانه - وإن كانت مخالفة لشيء من ذلك فليعلم أنــــه مخدوع ممكور به، قد طمع منه الشيطان فلبَّس عليه"(11).
ثالثاً: أن لا يـدعــــي صاحبها الولاية؛ لتعذر الجزم بقبول العمل، كما وصف الله - عز وجل - حال أوليائه المؤمنين المتقين، فقال: والذين يؤتون ما آتوا وقلوبهم وجلة أنهم إلى" ربهم راجعون [ الـمـؤمنون: 60]. وقد سألت عائشة - رضي الله عنها - النبي صلى الله عليه وسلم عن هذه الآيــة فقالت: أَهُمُ الذين يشربون الخمر ويسرقون؟ قال: "لا، يا بنت الصديق؛ ولكنهم الذين يـصومون ويصلون ويتصدقون، وهم يخافون ألا يُقبَل منهم، أولئك يسارعون في الخيرات"(12). ثم إن في ادعاء الولاية تزكية للنفس وذلك منافٍ لحال الولاية.
رابعاً: أن لا تكون الكرامة غايته، يطلبها ويسعى في حصولها؛ فهو خلاف حال السلف.
ج - ضوابط الكرامة ذاتها:
أولاً: أن لا تشتمل الكرامة على ترك شيء من الواجبات، أو فعل شيء من المحرمات، أو التزام شيء من العبادات لم يرد فيه نص شرعي؛ وذلك لأن الولي إنما نال الكرامة بطاعته وإيمانه؛ فلا يمكن بحال أن تكون تلك الكرامة سبباً لتركه شيئاً مما نــالـهــا بــه، ثـم إن المحرَّم خبيث، والله لا يكرم عبده بخبيث؛ كـمـا أن مـن دلائـل الـولايــة الـوقـوف عند النصوص الشرعية فلا يكون ولياً لله من أحدث في دين الله - تعالى - ما ليس منه.
قال ابن الجوزي - رحمه الله: "وقد لبَّس إبليس على قوم من المتأخرين فوضعوا حكايات في كرامات الأولياء ليشيدوا - بزعمهم - أمر القوم؛ والحق لا يحتاج لتشييد بباطل" ثم سـاق قصـة تُروى عن سهل بن عبد الله فيها أن أحد الأولياء اشترط عليه أن يرمي ما معه مـن الــزاد حـتـى يعطيه نور الولاية فتكون له خوارق العادات، ففعل، إلى أن قال سهل: فـغـشـيـنـي نــور الـولايـة! ثم علَّق ابن الجوزي بقوله: "ويدل على أنها حكاية موضوعة قولهم: (اطَّرِحْ ما معك)؛ لأن الأولياء لا يخالفون الشرع، والشرع نهى عن إضاعة المال" (13) كما أمر بفعل الأسباب.
ومثال ذلك أيضاً: من تحمله الجن فيحج مع الناس بلا إحرام ولا مرور بميقات.. خداعاً من الجن له.
ثانياً: ألا تـشتتمل على ما عُلِم في الشريعة عدم وقوعه، كدعوى لقيا النبي صلى الله عليه وسلم يقظة، وكـأن يــرى شخصاً على صورة نبي أو ملك أو صالح يقول له: قد أبحت لك الحرام، وأحللت لك الحلال، أو أسقطت عنك التكاليف.
قال الشاطبي: "مخـالـفـة الـخـوارق للشريعة دليل على بطلانها في نفسها، وذلك أنها قد تكون في ظواهرها كالكرامات، ولـيـس كذلك؛ بل من أعمال الشيطان. كما يُحكى عن عبد القادر الجيلاني أنه عطش عطشاً شديداً، فإذا سحابة قد أقبلت وأمطرت عليه شبه الرذاذ حتى شرب، ثم نودي من سحابة: "يا فلان! أنا ربك، وقد أحللت لك المحرمات" فقال له: "اذهب يا لعين". فاضمحلت السحابة. وقيل له: بِمَ عرفت أنه إبليس؟ قال: بقوله: "قد أحللت لك المحرمات". هذا وأشـبـاهــه لــو لـم يـكـن الشرع حَكَماً فيه لما عرف أنها شيطانية"(14).
ثالثاً: ألا يستعين بالكرامة على معصية الله - عز وجل - فــإن أكــمـــل الكرامات ما كان معيناً على طاعة الله - عز وجل - أما الكرامة والكشف والتأثير إن "لم يكن فيه فائدة ـ كالاطّلاع على سيئات العباد، وركوب السبـاع لغـير حاجـة، والاجــتـمــاع بـالـجـن لغـير فائـدة، والمشـي علـى الماء مع إمكـان العبــور علــى الجســر ـ فهــذا لا منفعة فيه لا فـي الدنيا ولا في الآخرة، وهو بمنزلة العبث واللعب"(15).
رابعاً: ثبوتها: قال الطحاوي: "ونؤمن بما جاء من كراماتهم، وصـح عن الـثـقــات مـــن رواياتهم"(16). وقد يتعسر ذلك كثيراً بعد انقطاع عصر الرواية، ولقلة من يعتمد عليه فـي نقل الأخبار في الأعصر المتأخرة.
فوائد الكرامة:
الفائدة الأولى: دلالتها على قدرة الله وكمال مشيئته وعلى كمال علمه وكمال غناه.
الثانية: أن وقوع الكرامات للأولياء في الحقيقة معجزات للأنبياء، والمعجزات فيها دعوة للإيمان، والكرامات تدل على صحة الدين الذي جاء به الرسل(17).
الثالثة: أن الكرامات من البشرى المعجلة في الدنيا المذكورة في آية الأولياء: لهم البشرى" في الحياة الدنيا [يونس:64]. وهي "كل أمر يدل على ولايتهم وحسن عاقبتهم، ومن ذلك الكرامات"(18).
الرابعة: تقوية إيمان العبد وتثبيته، قال الله - تعالى -: إذ يوحي ربك إلى الملائكة أني معكم فثبتوا الذين آمنوا ... [الأنفال: 12] ولهذا قلَّت الكرامات في عهد الصحابة، وكثرت بعدهم؛ وذلك لقوة إيمانهم، وضعف من بعدهم بالنسبة إليهم، وذلك أن الصحابة شاهدوا التنزيل وعايشوا النبي صلى الله عليه وسلم ، ومن بعدهم آمن بالغيب فاحتاج إلى شيء يزيد يقينه(19).
الخامسة: إقامة الحجة على العدو، كما حصل لخالد - رضي الله عنه - في شرب السم، وكـقـصــة أبـي مـسلـم الخولاني(20). وفي هذا نصرة لدين الله ورفعة لكلمته إحقاقاً للحق وإبطالاً للباطل، كما حصل لأصحاب الكهف.
السادسة: إكرام من الله - تعالى - لعباده لصلاحهم وقوة إيمانهم، كما حصل لمريم من الرزق(21).
السابعة: قضاء حاجة صاحب الكرامة أو حاجة غيره، وإنقاذه أو إنقاذ غيره، كما حصل لسعد - رضي الله عنه - في قصة مرورهم على الماء، وكما حصل لسارية حيث نُجِّي الجيش عامة، وليس هو وحده.
الثامنة: ابتلاء من وقعت له الكرامة أيشكر أم يكفر؟ أيتواضع لله أم يغتر بعمله فيهلك؟
التاسعة: في وقوع الكرامة لناس دون آخرين ابتلاء لمن لم تقع لهم: هل الكرامة غايتهم من الاستقامة؟ وهل يثبتون بلا كرامة أم يتزعزع إيمانهم؟
العمل بمقـتـضـى الكرامات:
من فوائد الكشف والإلهام والـفـراسـة والــرؤى - وهــي من الكرامات -: تحصيل الخير وتوقي الشر قبل وقوعه.
وشرط ذلك: ألا يعارض العملُ - بناءً عليها - حكماً شرعياً ولا قاعدة دينية، ومثاله: لو شهد شاهدان عدلان في أمر، فرأى القاضــي في منامه النبي صلى الله عليه وسلم يقول له: (لا تحكـم بهــذه الشهـــادة؛ فإنها باطل)، فإنـــه لا يجوز له العمل بمقتضى هذه الرؤيا؛ لأنها تهدم قواعد الشريعة. وكذا: لو حصلت له مكاشفة بأن الماء الذي يريد الوضوء به مغصوب أو نجس، فإنه لا يتركه ويتيمم؛ لأن فتح هذا الباب يبطل العمل بالظاهر، ويلغي الشريعة.
وقد ذكر الشاطبي - رحمه الله - أوجهاً مما يسوغ العمل بالخوارق على وفقها، منها:
1- أن يكون في أمر مباح، كأن يرى رؤيا بأن فلاناً سيأتيه في وقت ما، فيتأهب لاستقباله، لكن لا يعامله إلا بما هو مشروع.
2- أن يـكـون الـعـمـل عليها لفائدة يرجو نجاحها، كما أخبر النبي صلى الله عليه وسلم أصحابه أنه يراهم من وراء ظهره؛ لفائدة إقامة الصفوف، وأخرى هي تقوية إيمان من سمعه.
3 - أن يكون فيه تحذير أو تبشير ليستعد ويتأهب.
وقال: "إنما ذكرت هذه الأوجه الثلاثة لتكون مثالاً يحتذى حذوه، وينظر في هذا المجال إلى جهته"(22).
أعظم الكرامة لزوم الاستقامة:
ليس وقوع الخارق أمراً لازماً للولي، فكم من الأولياء الصادقين - من الصحابة فمن بعدهم - قلم تقع لهم خوارق! وكم من السحرة والمبطلين من وقعت لهم الخوارق!
ولا شك أن الخوارق ابتلاء للعبد من جنس النعم، وليس حصولها برهاناً على فضل الرجل عـنـد الله، ولا عدمها دليلاً على هوانه. قال الله - تعالى -( فأما الإنسان إذا ما ابتلاه ربه فأكرمه ونعمه فيقول ربي أكرمن . وأما إذا ما ابتلاه فقدر عليه رزقه فيقول ربي أهانن .كلا )) [الفجر:15 - 17].
لـكـن الكرامة الحقة - التي بها نجاة العبد - إنما هي استقامته على أمر الله - عز وجل - حتى يأتيه اليقين.
قيل لأبي محمد المرتعش: "فلان يمشي على الماء! قال: عندي أن من مكّنه الله من مخالفة هواه فهو أعظم ممن يمشي على الماء!"(23).
قال ابن أبي العز الحنفي - رحمه الله : "قال أبو علي الجوزجاني: كن طالباً للاستقامة لا طالباً للكرامة؛ فإن نفسك متحركة في طلب الكرامة، وربك يطلب منك الاستقامة. قال الشيخ السُهروردي في عـوارفـه: وهــذا أصــل كـبـيـر في الباب؛ فإن كثيراً من المجتهدين المتعبدين سمعوا عن سلف الصالحين الـمـتـقـدمـيـن ومـــا مُنحوا به من الكرامات وخوارق العادات؛ فنفوسهم لا تزال تتطلع إلى شيء من ذلك، ويحبون أن يرزقوا شيئاً منه، ولعل أحدهم يبقى متهماً لنفسه في صحة عمله؛ حيث لم يحصل له خارق(24)، ولو علموا بسر ذلك، لهان عليهم الأمر، فيُعلم أن الله يفتح على بعض المجاهدين الصادقين من ذلك باباً. والحكمة فيه أن يزداد بما يرى من خوارق العادات وأمارة القدرة يقيناً، فيقوى عزمه على الزهد في الدنيا والخروج عن دواعي الهوى، فسبيل الصادق مطالبة النفس بالاستقامة؛ فهي كل الكرامة"(25).
ولا شــك أن مــن أعـظـم الـكـرامـــات: مـا أكرم الله به سلف الأمة وعلماءها والمجددين والمصلحين فيها؛ حيث بارك في أوقاتهم، وأعــمـارهم، وأعمالهم؛ فكتب بعضهم ما يعجز غيره على نسخه في مدة عمره(26)، وكان لعلومهم من الأثر ما نراه إلى يومنا هذا، وكتب الله لها البقاء والنماء، وكم كان للمصلحين من الأثر، وكم يترتب على مواقفهم الحميدة من آثار تجنيها الأمة طيلة سنين أو قرون! وتأمّل قوله - تعالى - في فضل من آتاهم العلم: (( يؤتي الحكمة من يشاء ومن يؤت الحكمة فقد أوتي خيرا كثيرا وما يذكر إلا أولوا الألباب )) [البقرة: 269]. فـأيـن هـذا مـمـن تـكـون كـرامته: الإكرام بمال، أو طعام، أو كشف في حادثة، أو قدرة على أمر؟!
ومن أوجه تفضيل الاستقامة على الكرامة:
1 - أن الدين لا يُنال إلا من جهة الرسول صلى الله عليه وسلم ، واختصاصه به يفضله على بقية الخوارق.
2 - أن الدين لا يعمل به إلا المؤمنون، أما الخوارق فإنها لهم ولغيرهم.
3 - أن العلم بالدين والعمل به ينفع صاحبه ولا يضره، وقد يقع له من حصول الخارق مضرة من عُجْبٍ ونحوه.
4 - أنه يدفع مضرة الدنيا والآخرة من غير حاجة إلى كشف.
5 - أن الكشف والتأثير قد يكون فيه فائدة وقد لا يكون.
6 - أن الدين إذا صح أوجب خرق العادة إذا احتاج إليه صاحبه؛ لقول الله - تعالى -: ((ومن يتق الله يجعل له مخرجا . ويرزقه من حيث لا يحتسب ...)) [الطلاق: 2، 3].
7 - أن الدين هو إقامة حق العبودية، وهو فعل ما وجب عليك، وأما الخوارق فهي من حق الربوبية؛ إذ لم يؤمر العبد بتحصيلها وفعلها(27).
المخالفون لأهل السنة في الكرامات:
وهم فئتان: متوسعون في إثبات الكرامة، ومنكرون لوقوع ما سوى المعجزات. فأما المتوسعون فهم: الأشاعرة والماتريدية والصوفية والرافضة.
الأشاعرة والماتريدية:
خالف الأشاعرة أهل السنة في بعض تفاصيل مسائل النبوات والمعجزات والكرامات. ومن ذلك: "قولهم: إن كرامات الأولياء ليست من آيات الأنبياء" وهذا راجع إلى مذهبهم "في شروط المعجزة؛ حيث جعلوا منها: أن تقارن دعوى النبوة، وهذا مخالف لمذهب الجمهور الذين جعلوها من آيات الأنبياء؛ لأنها مستلزمة لنبوتهم وتصديقهم فيها، ولولا تصديقهم للأنبياء واتباعهم لهم، لم تكن لهم كرامات"(28).
وزعم الباقلاني أن "الخوارق تدل على الولاية بالإجماع، مع تجويزه ظهورها فيه على أيدي الكفرة والسحرة. وهذا تناقض"(29).
ومما غلط فيه الأشاعرة والماتريدية(30): زعمهم: أن كل ما وقع معجزة لنبي جاز وقوعه كرامة لولي(31)، وهذا توسع في إثبات الكرامة، وهو مردود بكون "معجزات الأنبياء التي هي دليل صدقهم لا يجوز أن يأتي بها أحد غيرهم لا من المخالفين، ولا من الموافقين؛ لأن المعنى في إعجازها أنها لا تتكرر لغيره ممن ليس في منزلته؛ لأنها إذا أتت على يد غيره لا تصلح أن تكون شاهدة على صدقه هو فقط؛ لأن أساس هذه الشهادة هو عجز غيره عن الإتيان بمثل ما أتى به حتى تبقى حاملة أسرار الإعجاز كلها"(32).
الصوفية والكرامات:
غلا الصوفية في أمر الخوارق، فشرَّقوا فيها وغرَّبوا، ولعل أهم ما يميزهم عن أهل السنة - في هذا الباب - أمور أهمها(33):
أولاً: اعتبار الخوارق معياراً للولاية، وأن من لا كرامة له لا ولاية له. قال الشعراني في ترجمة محمد الغمري عن قوله: "وكان سيدي أحمد لا يأذن قط لفقير [لمريد أو صوفي[ أن يجلس على سجاده إلا إن ظهرت له كرامة"(34).
ثانياً: الشغف بالخوارق، وتفسير كل خارق أو أمر غريب بأنه كرامة حتى صارت همهم، قال ابن الجوزي: "عن إبراهيم الـخـراساني أنه قال: احتجت يوماً إلى الوضوء، فإذا أنا بكوز من جوهر، وسواك من فضة رأسه ألين من الخز، فاستكت بالسواك، وتوضأت بالماء، وتـركـتـهـمـا وانصرفـت" ثـم عـلـق عليها ابن الجوزي فقال: "في هذه الحكاية من لا يوثق بروايته، فإن صحت دلت على قلة علم هذا الرجل؛ إذ لو كان يفهم الفقه علم أن استعمال السواك الفضة لا يجوز؛ ولكن قلَّ علمه فاستعمله، وإن ظن أنه كرامة، والله - تعالى - لا يكرم بما يمنع من استعماله شرعاً"(35).
ثالثاً: لما جعل الصوفية الكرامة أساس الولاية حرصوا على جمع الكرامات لمن ادعوا لهم الولاية، وتعدى الأمر إلى الاختلاق والكذب، ومما نسجوه ما ذكره الشعراني عن أبي بكر البطائحي أنــه "أول من ألبسه أبــو بكر الصديق - رضي الله عنه - الخرقة ثوباً وطاقية في النوم، فاستيقظ فوجدهما عليه، وكان يقول: أخذت من ربي - عز وجل - عهداً أن لا تحرق النار جسداً دخل تربتي، ويقال: إنها ما دخلها سمك ولا لحم قط فأنضجته النار أبداً"(36).
وكأن الـكـذب بــدأ فيهم من قديم، فتنبه له بعض كبارهم؛ فقد قيل لرابعة العدوية: "يا عمة! لِمَ لا تأذنين لـلـنــاس يدخلون عليك؟ قالت: وما أرجو من الناس؟ إن أتوني حكوا عني ما لم أفعل. ثم قالت: يبلغني أنهم يقولون: إني أجد الدراهم تحت مصلاي، ويطبخ لي القدر بغير نار، ولو رأيت مثل هذا فزعت منه" قيل لها: إن الناس يكثرون فيك القول، يقولون: إن رابعة تصيب في منزلها الطعام والشراب؛ فهل تجدين شيئاً فيه؟ قالت: يا بنت أخي! لو وجدت في منزلي شيئاً ما مسسته، ولا وضعت يدي عليه"(37).
رابعاً: كرامات الصوفية وخوارقهم كما أنها لا مكان لها عند العقلاء، فإنها لا كرامة لها عند العلماء بشريعة الله - عز وجل - وكم في كراماتهم المحكية من معارضات ومخالفات للشريعة المحمدية! ومن ذلك: أن أحدهم كان يتشوش من قول المؤذن: الله أكبر فيرجمه، ويقول: عليك يا كلب، نحن كفرنا يا مسلمون حتى تكبروا علينا؟!(38).
أما ما يذكرونه عن بعض من يذكرون بالخير من الشطحات والأحوال المُنْكَرَةِ، فإن الواجب التثبت منه؛ لعدم الثقة في نقلهم، وما ثبت منه فإن منه ما يكون عوارض تعرض لهم بسبب بعض أعمالهم؛ فإن من خلط في عمله اختلطت خوارقه، ولهذا أمرنا أن نقول كل صلاة: اهدنا الصراط المستقيم [الفاتحة: 6] (39).
الرافضة والكرامات:
يفضل غلاة الرافضة أئمتهم على الأنبياء، ثم صار ذلك من أصول الشيعة الاثني عشرية(40).
ويرى الرافضة أن خوارق الأولياء "معجزات لإثبات الإمامة وإقامة الحجة"، وأنها ليست من قبيل الكرامات بل هي كمعجزات الأنبياء أو أعظم، وقد بوَّب صاحب كتاب بحار الأنوار لهذا المعنى باباً بعنوان: "إنهم يقدرون على إحياء الموتى، وإبراء الأكمه والأبرص، وجميع معجزات الأنبياء". وأورد فيه جملة من أحاديثهم(41).
"وللقوم ولع غريب وتعلق عجيب بسرد الحكايات وغرائب الأساطير التي هي أحياناً أشبه بعمل السحرة والمشعوذين، وحيناً هي من ضروب الخيال، وغرائب الأحلام. وهذه المعجزات لا تزال تتولد عند الشيعة وتتجدد"(42).
المنكرون للكرامات:
وهم: الفلاسفة(43)، والمعتزلة(44)، ومن تأثر بهم(45)، وابن حزم(46)، وبعض الأشاعرة كالإسفراييني(47). وتبعهم معاصرون من مدعي العقلانية، ويرون أنه لا يقع من الخوارق غير معجزات الأنبياء.
وهذه بعض شُبَهِ القوم مع مناقشتها:
الشبهة الأولى: قالوا: إن تـجـويـز الـكـرامــات يفـضي إلى السفسطة؛ لأنه يقتضي تجويز انقلاب الحجر ذهباً، والبحر دماً عبيطاً. والرد على هذا من ثلاثة أوجه:
الأول: أنه لا يُسلَّم ببلوغها هذا المبلغ.
والثاني: أن ذلك يجوز ولا يقتضي سفسطة؛ لأن ما ذكرتم وارد عليكم في زمن النبوة.
والثالث: أن التجويزات العقلية لا تقدح في العلوم المادية؛ وجواز تغير العادة بسبب الكرامة تجويز عقلي فلا يقدح فيها(48).
الشبهة الثانية: أن الكرامة لو جازت لاشتبهت بالمعجزة، فلا يبقى لها دلالة على النبوة.
والـرد علــى هــذه الشبهة بمنــع الاشتباه - كما تقـدم التفريق بينهما في مبحث سابق -. ثم إن الولي لو ادعى النبوة بعد ظهور الكرامة له لكان كاذباً، ولم يكن ولياً(49).
الشبهة الثالثة: أن الكرامة لو ظهرت لولي لجاز الحكم له بمجرد دعواه أنه يملك شيئاً من غير بينة لظهور درجته المانعـة مــن كذبـــه، وهـــذا خلاف قاعدة: "البينة على المدعي" والرد: أن الكرامــة لا تـوجب عصمته ولا صدقَهُ في كل الأمور، وهذا يضبطه الشرع ولا يخرج عنه(50).
الشبهة الرابعة: أنها لو جازت سراً وهو أولى من العلن، وهذا يفضي إلى أن لا يستدل بها على النبوة، ثم إن تكرارها يفضي إلى التحاق الخوارق بالعادات فلا تصدق معجزات الأنبياء! والرد من وجهين :
الأول أنها تجوز على وجه لا يصير ادة.
الثاني: وهو أنها تجوز بحيث لا تظهر ولا تشيع ولا تلتحق بالمعتاد. وتكررها للولي لا يخرجه عن طريق السداد، وإلا فلا يكون ولياً على التحقيق، ثم إن المعجزة تتميز عن الكرامة كما سبق. وهذه الشبهة لو جاز إيرادها لكان في كرامات الأمم السابقة، دون هذه الأمة.
الشبهة الخامسة: أنه لو كان لها أصل لكان أولى الناس بها الصدر الأول، ولم يظهر عنهم شيء منها.
قال ابن السبكي :"وهذا قول مرذول، فلو حاول مستقصٍ استقصاء كرامات الصحابة - رضي الله عنهم - لأجهد نفسه ولم يصل إلى عشر العشر"(51).
وموردو هذه الشبهة يراوغون في الكلام، فمثلاً: القاضي عبد الجبار في المغني لم يعرض للأدلة المثبتة للكرامات من القرآن، والزمخشري يقول بخصوصٍ منفي على إبطال العموم، كما استدل بقوله - تعالى -: (( عالم الغيب فلا يظهر على غيبه أحدا )) [الجن:26]، على إبطال جميع الكرامات . ورد بقول الاسكندري في الانتصاف(52).
الشبهة السادسة: أن مشاركة الأولياء للأنبياء في ظهور الخوارق يخل بعظيم قدر الأنبياء ووقعهم في النفوس(53).
وهذا مردود؛ فلا يخفى أن في الكرامة تصديقا للأنبياء، وما حصلت لهم إلا ببركة اتباعهم للرسل(54)، وقد ناقش شيخ الإسلام ابن تيمية - رحمه الله - المنكرين ورد عليهم في النبوات(55)، كما ناقش المعتزلة في خوارق العادات من أحد عشر (56).
وبعد؛ فليس إنكار الكرامات سديداً؛ لمعارضته من قبل الشرع والواقع، ولا التوسع فيها جائزاً؛ لمخالفته نهج الصواب.
إننا نثبت الكرامات لأولياء الله الصالحين، ونقول: ليس كل من أتانا بخارق عددناه ولياً، ما لم يكن ملتزماً بهدى السابقين الأولين -رضي الله عنهم- . وفي الوقت نفسه: لا ننتقص أحداً من الصالحين؛ لأنه لم تقع له كرامة؛ فكم من ولي لم يحصل له خارق! وإن أعظم كرامة لزوم الاستقامة. نسألك اللهم حسن الختام.
الهوامش :
(1) شرح الطحاوية : 2/745.
(2) الفتاوى ، 3/156 ، وانظر شرح الواسطية لخليل هراس ، ص 176 ، وانظر الإنصاف في حقيقة الأولياء وما لهم من الكرامات والألطاف للصنعاني ، ص20.
(3) التنبيهات اللطيفة على ما احتوت عليه العقيدة الواسطية من المباحث المنيفة للشيخ السعدي ، ص 97 ، وانظر لوامع الأنوار ، 2/294.
(4) هذه الكرامات تجدها في السور التالية : آل عمران : 37 ، مريم : 25 ، الكهف : 17 ، هود : 71 ،72 ، النمل : 40.
(5) انظر : صحيح البخاري ، ح/2358 ، 5084 ، 3465 ، 3436 ، 206.
(6) رواه البخاري ، ح/1351.
(7) رواه البخاري ، ح/456.
(8) مع أنه حصلت له معجزات في هجرته .
(9) انظر تقديس الأشخاص ، 2/288-289.
(10) الفتاوى ، 10/431.
(11) قطر الولي ، ص272.
(12) أخرجه الترمذي ، ح/3175 ، وصححه الألباني ، ح/2537.
(13) تلبيس إبليس ، ص285.
(14) الموافقات ، 2/275-276.
(15) مجموع الفتاوى ، 11/328.
(16) شرح الطحاوية ، 2/746.
(17) النبوات : 19 - 20
(18) انظر : التنبيهات اللطيفة ، للسعدي : 99-100.
(19) طبقات الشافعية ، 2/333 ، وانظر شرح الطحاوية ، 2/747 ، 748 ، وتعليقات الشيخ ابن باز ـ رحمه الله ـ على التعليقات المنيفة ، ص98 ، والفرقان: 128 : 4/534. والسير: 4/934.
(20) انظر: تعليقات ابن باز ، والرسل والرسالات للأشقر ، ص 155 ، وانظر: الفتح ، 7/443 فيما نقل عن ابن بطال.
(21) الرسل والرسالات ، للأشقر ، 155.
(22) الموافقات : 2/275 ، انظر : 2/266 ، وما بعدها .
(23) سير أعلام النبلاء ، 15/231.
(24) الواجب أن يبقى الإنسان متهما لنفسه في صحة عمله ، سواء وقعت له الكرامة أم لا لأنه جزم بقبوله شهادة لنفسه بأن من المتقين وأنه من اهل الجنة وقد كان داب الصالحين وسنتهم البقاء بين الخوف والرجاء بعد أداء الطاعات .
(25) شرح الطحاوية ، 2/747 - 748.
(26) عد السبكي هذا الأمر من الأدلة على وقوع الكرامات ، انظر طبقات الشافعية ، 2/333-334.
(27) قاعدة في المعجزات والكرامات 29 ، 37.
(28) موقف ابن تيمة من الأشاعرة ، د. عبد الرحمن المحمود ، 3/1378 ، 1782.
(29) المصدر السابق : 3/1382.
(30) انظر : المتريدية دراسة وتقويما ، أحمد بن عوض الله الحربي ، ص 386.
(31) انظر: أصول الدين ، للبغدادي : 174 ، 175. والإرشادية للجويني : 267 ، 269. والمواقف للإيجي : 240.
(32) موقف الإمام ابن تيمية من التصوف والصوفية ، د. أحمد بناني ، ص231.
(33) انظر: تقديس الأشخاص في الفكر الصوفي ، محمد أحمد لوح ، 2/293 ، 311.
(34) الطبقات الكبرى ، للشعراني 2/88.
(35) تلبيس إبليس ، ص382.
(36) الطبقات الكبرى ، للشعراني ، 2/132.
(37) انظر : تلبيس إبليس ، ص 383، وانظر: تقديس الأشخاص ، 2/298 ، وانظر امثلة أخرى في الطبقات الكبرى للشعراني : 2/107 ، 126. ، 136 ، 140 .
(38) الطبقات الكبرى ، 2/140 وانظر : بدع الاعتقاد ، محمد الناصر ، ص 223.
(39) انظر : أولياء الله عقلاء ، لابن تيمية : 75.
(40) انظر : أصول مذهب الشيعة ، د. ناصر بن عبد الله القفاري . 2/614.
(41) انظر: بحار الأنوار : للمجلسي : 27/29-31.
(42) أصول مذهب الشيعة : 2/623 - 262.
(43) انظر : شرح الواسطية ، لهراس ، ص 178.
(44) انظر: المعغني لعبد الجبار ، 15/241. والكشاف للزمخشري ، 4/172 ، والنبوات ص 16 ، وشرح الطحاوية ، ص752.
(45) انظر رسالة التوحيد ، لمحمد رشيد رضا ، ص176 ، 177 ، وتسفير المنار 12/293 ، 2/74 ، 2/316.
(46) انظر : الدرة فيما يجب اعتقاده ، ص 194 ، 197 .
(47) انظر : طبقات الشافعية 4/260.
(48) انظر: طبقات الشافعية ، 4/260 وما بعدها ، وانظر حول الأولياء والكرامات ، د. الأنور : 35.
(49) المرجع السابق ، شرح الطحاوية ، 2/75. ولوامه الأنوار ، 2/394.
(50) المرجع السابق ، 35.
(51) طبقات الشافعية : 4/260.
(52) الانتصاف فيما بتضمنه الكشاف من الاعتزال مع الكشاف ص 172.
(53) لوامع الأنوار ، ج2 ، ص394.
(54) الفرقان ، 120 .
(55) انظر : النبوات ص 204 ، 206 .
(56) انظر : النبوات ، ص 175 - 191.