ارتفع المد الشيعي في سوريا.. الهواجس ترسم المشهد
مصطفى عاشور
ارتفع المد الشيعي في سوريا مؤخرا
صدر منذ أيام على شبكة الإنترنت كتاب مثير بعنوان "البعث الشيعي في سوريا 1919-2007" عن "المعهد الدولي للدراسات السورية" في لندن، وسيصدر ورقيا الأيام القادمة، يتحدث عن المد الشيعي المتزايد في سوريا، ويسرد أرقاما وإحصاءات وجداول عن حالات التشيع في أوساط السوريين، محاولا قراءة هذا الانتشار الشيعي على خلفيات وسياقات سياسية.
من يطالع موقع "المعهد الدولي للدراسات السورية" سيجد أن الموقع لا يحتوي على مواد بحثية باستثناء النسخة الديجيتال من الكتاب، وكما هو معلوم من الدراسات الإعلامية فإن أخطر أنواع الدعاية التي يواجه بها أي نظام سياسي أو مجتمع هي الدعاية البنية التي تستند إلى قدر ما من الحقائق، ثم يتم إكمال بقية المشهد بمعلومات مغلوطة ومكذوبة، أو تحميل المعلومة بحمولات أكبر مما يتطلب الحدث بقصد توجيه السلوك والتأثير في نفسية الطرف المستهدف.
المحور الإيراني السوري
وهنا تبقى المشكلة الأزلية للمعلومة والتي تكمن في التفسير والتوظيف، فالكتاب يحمل أرقاما وإحصاءات وجداول ومعلومات، وذكرها يضعف درجة التحفز داخل الوعي الإنساني في مقاومة آراء معينة، وبالتالي تسهل عملية التشكيل للوعي ويصبح وعي الشخص قابلا للسماح بتسرب بعض الحمولات التفسيرية والتوظيفية التي تحملها البيانات والإحصاءات.
لكن ذلك لا يمنع أن هناك شيئا ما يجري على الأرض، وأن التفسيرات والتوظيفات لها قدر من التجلي في الواقع، ومن ثم فإن الحكم على ما جاء في الكتاب لا يمكن أن يكون من خلال الصدق والكذب، ولكن من خلال التهويل أو التوظيف، وهذا ما يدفعنا إلى طرح ضرورة إدراك السياق السياسي الذي يصدر فيه الكتاب.
فسوريا تعاني من سياق متأزم، ففي ظل الرغبة الأمريكية والإسرائيلية لتفكيك وإضعاف التحالف السوري الإيراني، يتم التوسل بما هو مذهبي في مواجهة سياسية، ومحاولة تفجير الخلافات المذهبية في إطار المواجهة مع المحور الإيراني – السوري الممتد إلى حزب الله في لبنان وإلى بعض حركات المقاومة في فلسطين، والذي يتزايد التحاما مع الضغوط الأمريكية، لكنه التحام يخلق قدرا من الهيمنة لإيران على المشهد، وخاصة أن كلا من دمشق وطهران موضوعتان -حسب الرؤية الأمريكية- ضمن محور الشر.
فنحن إزاء نوعية من الكتب قد لا تكون مبرأة عن السياسة، والدفع بالمذهبي لخدمة الأغراض السياسية.. لكن ذلك لا يغطي على حقيقة أن هناك نفوذا إيرانيا يتمدد في المنطقة متجاوزا حدوده التقليدية وفارضا نفسه على معادلة الصراع والقوة في الشرق الأوسط التي تعاني من فراغ سياسي، فالفراغ جاذب على الدوام للمشاريع الكبرى.
التاريخ المقلق
غلاف النسخة الإلكترونية من الكتاب
الكتاب يقع في (140) صفحة وأسهب في التأكيد على المنهجية التي اتبعها والمصادر التي استقى منها معلوماته، وكيفية البحث الميداني، وهو ما يوحي للقارئ بأن ما يحويه من أرقام وإحصاءات صادقة وعلمية، لكن بعيدا عن ذلك الكساء العلمي المنهجي الذي حاول الكتاب أن يضفيه على محتواه.
فمع السطور الأولى تجد استدعاء للتاريخ، فيذهب إلى أن ما يجري من عمليات "تبشير شيعي" في سوريا وفي دمشق هو نوع من الرد على الاضطهاد الذي تعرض له الشيعة وآل البيت على أيدي الأمويين والذين كانوا يتخذون من دمشق عاصمة لخلافتهم، وبالتالي فـ"تشييع" دمشق هو نوع من الانتصار الرمزي على ما جرى في التاريخ من أحداث.
كذلك تم استدعاء بعض المعتقدات كنوع من الدلالة الرمزية للتأكيد على أن "تشييع" سوريا ذو أهمية خاصة، ومنها التصورات الدينية السنية بأن "المهدي المنتظر" سيظهر في الشام، والتصورات الشيعية أن هذا المهدي سيقاوم في الشام، ومن ثم فسوريا أرض معركة بين مذهبي الإسلام الكبيرين.
لكن محور الارتكاز الحقيقي للكتاب في طرحه لمسألة "التشيع" في سوريا هو: أنه لا يمكن فك الارتباط بين "النشاط التبشيري الشيعي" في سوريا بمعزل عن السياسة، فلابد من فهم العلاقة التي حكمت المجال الديني بالفضاء العام في سوريا، خاصة في ظل عهد الرئيسين الأسد الأب والابن؛ نظرا لأن علماء الدين والمؤسسة الدينية تمتعت في الفترة من 1919 - 1963م بنوع من الاستقلالية والحضور في الفضاء العام، رغم قيام الرئيس حسني الزعيم عام 1949 م بإلغاء مؤسسة الوقف التي كانت تدعم استقلالية المؤسسة الدينية عن الدولة.
وأشار الكتاب أنه مع سيطرة حزب البعث على السلطة بعد انقلاب 1963م دخلت البلاد في دوامة الدولة الأمنية وأصبحت جميع خيوط اللعبة تتجمع في يد الحاكم، ولذا تعرضت المؤسسة الدينية لعملية تطويع كبيرة لإجبارها على الخضوع للمنطق الجديد، فتم إضعاف تأثيرها في الشأن العام وأصبحت لا تتدخل إلا بقدر إضفاء الشرعية على السلطة القائمة.
التشيع في سوريا
الشيخ وهبة الزحيلي
من يطالع عناوين الكتاب الداخلية سيلحظ حجم القلق الذي يبديه واضعو الكتاب تجاه المسألة فالعناوين اختيرت بعناية كبيرة مثل (المنبوذون - موطئ قدم- ظاهرة العمائم السود - طلائع الغزو الشيعي – الاستيطان - قم الصغرى السورية - احتلال المركز) وأضاف إلى تلك العناوين قدرا من المعلومات والإحصاءات عن بدايات وحجم الانتشار الشيعي في سوريا، والظرف السياسي الذي تولدت فيه المسألة.
فأشار إلى أن التشيع في بلاد الشام كان أشبه بالجيوب القليلة الضعيفة المتفرقة التي ليس لها تأثير في المجال العام، وكانت نسبة الشيعة حتى عام 1953م لا تزيد عن 0.4% من سكان سوريا، وكان الشيعة لديهم قدر من الانحرافات التي استدعت أن ينشئ أحد علمائهم وهو "محسن الحسيني" مدرسة لتصحيحها والتي كانت أول مدرسة للتعليم الشيعي في سوريا عرفت فيما بعد بـ"المدرسة المحسنية"، فبدأت تدب الحياة في الطائفة الشيعية، وشارك أحد الشيعة في وزارة في الستينيات.
وأشار الكتاب إلى أن النصوص الفقهية الإثني عشرية كانت تنظر إلى الطائفة العلوية أو النصيرية على أنهم "كفار" رغم أن العلويين هم فرع منشق عن الشيعة الإمامية، ومع تغلغل العلويين في الجيش السوري واحتلالهم لمواقع نافذة فيه بدأت تتغير مع الوقت الرؤية الإمامية للطائفة العلوية وساعد على ذلك الأحداث السياسية.
ففي مطلع السبعينيات لجأت أعداد كبيرة من العراقيين إلى سوريا هربا من نظام صدام حسين، وكان من بينهم "حسن مهدي الشيرازي" أحد علماء الشيعة الذي أسس عام 1976 أول حوزة علمية في سوريا عرفت باسم "الحوزة الزينبية" ، ويرى الكتاب أن الشيرازي قام بـ"التبشير الشيعي" في أوساط الطائفة العلوية في محاولة لاستعادة هذا الفرع إلى أصله الإمامي الإثني عشري.
كذلك أثرت السياسة عندما تدخلت سوريا في لبنان مع الحرب الأهلية اللبنانية عام 1976 عندما أخذ عشرات الآلاف من العمال السوريين يعملون في لبنان وتأثر بعضهم بالمذهب الشيعي.
كما أن شيعة لبنان لعبوا دورا -حسب الكتاب- في مد جسور التواصل بين الرئيس حافظ الأسد وبين الإمام الخميني قبل الثورة الإسلامية في إيران، حتى إن الأسد عرض استضافة الخميني بعد خروجه من العراق قبيل الثورة، لكن بعد الثورة الإسلامية عام 1979 كانت قناعات الرئيس حافظ الأسد هو أن تبقى العلاقات مع طهران في إطارها السياسي بعيدا عن أي تأثيرات مذهبية.
المد الشيعي و بشار الأسد
هذا لم يمنع من وجود تسرب شيعي إلى سوريا، وتبشير شيعي داخل العلويين وهو ما استرعى اهتمام بعض المراجع الشيعية في العراق وإيران لرعاية الصحوة النامية في جبل العلويين، حتى إنه عام 1980م تم إرسال ما يقرب من (500) شاب علوي للدراسة في حوزة "قم"، وتوافد بعض كبار علماء الشيعة على سوريا لإلقاء بعض الدروس والمحاضرات، وتم بث حلقات تلفزيونية أسبوعية لأحد علماء الشيعة العراقيين وهو "عبد الحميد المهاجر" في التلفزيون الرسمي السوري عام 1992، كما تم افتتاح العديد من الحسينيات والمكتبات الشيعية في دمشق.
ويذكر الكتاب أنه لم يكن في عام 1995 سوى حوزتين في سوريا، ولم تمض خمس سنوات حتى أنشئت خمس حوزات، كما زاد عدد الحوزات في عهد الرئيس بشار الأسد، فأنشئت في الفترة من 2000 - 2006 حوالي (12) حوزة شيعية وثلاث كليات للتعليم الشيعي، وهو ما أزعج بعض علماء سوريا مثل العلامة الفقيه "وهبة الزحيلي" الذي صرح بأن "ما يجري في سوريا يجب إيقافه" أو حتى الشيخ "رمضان البوطي" القريب من النظام في سوريا الذي أبدى قلقه -في خطبة منشورة على موقعه في أبريل 2006- من دخول التشيع إلى مناطق في سوريا لم يدخلها التشيع يوما ما.
لكن تبقى صدقية المعلومات والإحصاءات التي أوردها الكتاب محل تساؤل كبير، وخاصة أن بعض المصادر البشرية التي اعتمد عليها مجهول، كما أن توقيت ظهور الكتاب محل تساؤل، و يبقى التساؤل الأكبر المطروح هو لماذا أصبحت العقائد محل استهداف من الجميع في المنطقة سواء بالاستلحاق والاستتباع والتبشير أو الاستنفار والاستفزاز والتحريض، أو بالتوظيف.. ربما تتأخر الإجابة لكن لا يخطئ المنطق القائل بأن الدين مازال له حضور داخلنا وقابلية للاستنفار.
--------------------------------------------------------------------------------
مدير تحرير نطاق "ثقافة وفن" في شبكة إسلام أون لاين.