ربما تحرك بالفطرة ما لا يتحرك بالحكمة والعقل .
روى أحد الإخوة أن والدا بلغ من سخطه على ولده لسؤ سلوكه أن طرده من البيت . زاد على هذا أن تبرأ منه وطلب من كل جلسائه أن لا يأتوا على ذكر هذا الولد على مسمعه لا بخير ولا بشر . هام الولد على وجهه مع رفقة السؤ . كان من الطبيعي أن ينتهي به المطاف إلى السجن. وسجن في قضية حكم عليه فيها ببضع سنوات. بلغ والده خبر سجنه فتظاهر بعدم الاهتمام .
ظل الوالد متجاهلا عواطف الرحمة لهذا الابن بعد أن بلغه سجنه.
في يوم من الأيام وبعد أن خرج من المسجد من صلاة الفجر أحس الوالد بقشعريرة البرد تسري في جسده. سرى في جسده قشعريرة أخرى حين تذكر ولده المرمي في السجن, فأحس لو أن هذا البرد قد أحس به ولده. صارع أحاسيس متعارضة بين كبريائه وبين عاطفة أبوته , لكن الأمر انتهى بتغلب العاطفة على الكبرياء .
انتظر في البيت حتى انتشر الناس في الأسواق فذهب واشترى فراشا وبطانية وبعض المفارش. أخذ سيارة أجرة وطلب منه أن يوصله السجن. سأله صاحب الأجرة أي سجن تريد . قال: وهل في الرياض أكثر من سجن ؟ أجاب صاحب السيارة نعم . ولكن ما هي قضية ابنك حتى نسأل عنه في أي سجن.
أخبره على استحياء, سألوا عن السجن حتى وصلوا إليه. توقف صاحب السيارة وأشار للرجل كي ينزل, لكن الرجل تسمر في مقعده, طلب من السائق أن ينزل ويعطي هذه الفرش لأقرب حارس. استغرب السائق ولكنه قدر ارتباك الرجل واضطرابه . نزل وحمل الفرش وأعطاها للحارس وقال : أعطوها لفلان بن فلان. سأل الحارس . وممن هي ؟ سال صاحب السيارة الرجل, فقال له قله من فاعل خير ولا تزيد على ذلك. انصرف الرجل بسيارة الأجرة عائدا إلى بيته بعواطف مضطربة بين السرور بما فعل وبخواطر أخرى تحاول إحياء سورة الغضب القديمة على ولده. لكنه كان إجمالا مرتاحا لما قام به.
أوصلت الفرش للابن في السجن وقيل له إنها من فاعل خير. لكن الأمر لم يقبل الأمر بهذه البساطة . فمن فاعل الخير هذا الذي يقدم هذا ثم لا يذكر أسمه ؟ .
رفاقه أدرك بعد أن دخل السجن أن لا أحد منهم حري أن يقوم بذلك ثم يتورع عن ذكر اسمه . قرابته, فليس منهم من يكن له التقدير أو يعطف عليه. خاصة بعد أن تبرأ منه والده . قلب كل الاحتمالات فلم يستسغ أي منها سوى احتمال تسلل إلى نفسه وهو وإن كان بعيدا إلا أن نفسه تميل إليه. ذلك الاحتمال هو أن يكون الفاعل لهذا العمل الجيد أبوه. قبل الفكرة إلى حد ما وترك للأيام كي تثبت هذا الظن من عدمه.
بعد مدة كان لدى الوالد عزيمة كبيرة. وبعد أن فرغ منها أحس إحساسا قويا تمنى فيه لو أن ولده حاضرا هذا الغداء متغذيا من هذه الأطعمة الفاخرة. أحس بشيء من التأنيب والرحمة فأخذ سيارة أجرة واشترى بعض الأطعمة وانطلق بها إلى السجن, أعطاها الحارس وقال له أعطها فلان بن فلان وقل من فاعل خير.
وهكذا ظل هذا الأب يعاود إحضار الأطعمة بل حتى الحلويات ويدخلها على أبنه باسم فاعل خير .
أما الولد فبعد أن تكررت هذه الأطعمة والحلويات صار مؤكدا لديه أن من يقوم بذلك هو والده وليس غيره .
كان هذا الابن نتيجة هذه العواطف الأبوية الحانية رغم غضبه عليه جعلت الابن يعيد حساباته, ويراجع مواقفه ليكتشف خطأ طريقه الذي سلك. ثم يرجع إلى ربه ويمن الله عليه بالهداية . خاصة والسجن لم يخل من موجهين كانوا عونا له على المضي فيما أستقر رأيه عليه من العودة إلى الله تعالى.
كان مدير السجن قد لاحظ تردد هذا الرجل ببعض الأطعمة والملابس. ولما كان لم يبين اسمه كان هذا مثار شك لدى مدير السجن فقد يكون وراء هذا الرجل سرا مع هذا السجين. كان مدير السجن قد علم بما آل إليه حال السجين واستقامته وصلاح أمره.
طلب مدير السجن من الحراس أن يحضروا له هذا الرجل كي يعرف أمره. حضر الرجل ذات مرة ببعض الأطعمة فقال له الحارس إن مدير السجن يريد مقابلتك . تردد , لكن إصرار الحارس على مقابلته لمدير السجن جعله يصحبه لمدير السجن .
سلم الرجل على المدير . سأله عن اسمه وعن علاقته بالسجين المذكور, لم يجد الوالد بدا من إخباره أن هذا لسجين هو ابنه. غير أنه ترجاه أن يخفي هذا الأمر فلا يرغب أن يعلم ابنه بالأمر. لكن مدير السجن ذكر للأب أن ابنه قد استقامت حاله وصار صالحا ومن أفضل النزلاء. لكن الأب لم يقتنع . أو ربما هاب من الموقف والمشاعر المتضاربة التي انتابته . لهذا فقد أصر على موقفه الرافض بأن يعلم الابن بما قام به الأب.
خرج مدير السجن من المكتب وترك الرجل جالسا فيه, وذهب وطلب إحضار الابن وإدخاله على أبيه دون أن يعلم.
أحضروا الابن وأدخلوه على الأب وهو لا يعلم. وقع نظر كل منهم على الآخر . فما كان من الابن إلا أن ارتمى في أحضان والده باكيا مقبلا, وظلا في حالة عناق ونشيج غريب متباين المصدر بين سرور وندم ورحمة. بعد برهة أفاقا مما هما فيه. حضر مدير السجن وقد هدأ روعهما . تبادلا أطراف الحديث مع مدير السجن الذي اغتنم الفرصة كي يصفي نفس الوالد على ولده. وكي يكرس مشاعر الندم والتوبة في نفس الابن التائب .
غادر الوالد , وكانت محكوميه الابن قاد شارفت على الانتهاء . خرج الابن . استقبله الوالد وكل أهل البيت بالترحاب والفرح الشديد .
أقام الوالد حفلا بهيجا بهذه المناسبة . وربما كان ابتهاج بتغير حاله أكثر من فرحه بخروجه من السجن.
ظل الابن بعد ذلك ملازما لوالده في أعماله وفي المناسبات العائلية وغيرها. كان من الأقرباء من لم يكن موفقا في الحديث. وفي أحد اللقاءات العائلة التفت هذا الرجل للابن وقال له : يا فلان : انظر . بعد أن استقامت أمورك صرنا نسلم عليك بعد أن كنا نتحاشى ذلك. عندها رد الابن بغضب على الرجل وقال له: لو كنت عدت للصواب من أجل السلام عليك وأمثالك ما عدت أبدا. لكنني عدت بتأثر حب هذا الأب الذي غالب غضبه ولبى نداء الفطرة بعطفه علي في السجن. هذا الفعل هو الذي جعلني أراجع وضعي وأعود إلى الصواب وليس رغبة في سلامك وأمثالك.
وهكذا تغلبت مشاعر الأبوة الحانية على مشاعر الغضب . وهكذا تغلبت مشاعر العرفان بالجميل على نوازع الشر في النفس . فتخلى الوالد الغاضب عن غضبه على ابنه . وتخلى الابن عن صلفه وعربدته بتأثير عواطف الأبوة الحانية .
منقول