وصوفي على زنة عوفي , أي عافاه الله فعوفي وكوفي , أي كافاه الله فكوفي , وجوزي , أي جازاه الله , ففعل الله به ظاهر في اسمه والله المتفرد به )(1) .
هذا ما تخبط به الكلاباذي من الخلط والغلط قطع النظر عن ضعف أكثر الروايات التي ساقها وسردها .
ويكتب من الصوفية المتقدمين أبو العباس أحمد بن زروق(2) في كتابه قواعد التصوف : وقد كثرت الأقوال في اشتقاق التصوف , وأمسى ذلك بالحقيقة خمسة .
الأول : قول من قال : من الصوفة , لأنه مع الله كالصوفة المطروحة لا تدبير له .
الثاني : أنه من صوفة القفا , للينها , فالصوفي هيّن ليّن كهي .
الثالث : أنه من الصفة , إذ جعلته اتصاف بالمحاسن وترك الأوصاف المذمومة .
الرابع : أنه من الصفاء , وصحح هذا القول حتى قال أبو الفتح البستي رحمه الله :
تنازع النــــاس في الصوفي واختلفوا = وظنه البعض مشتقا من الصــــوف
ولست أمنح هذا الاســـم غيــــر فتــى = صافي فصوفي حتى سمى الصوفي
الخامس : أنه منقول من الصفة لأن صاحبه تابع لأهلها فيما أثبت الله لهم من الوصف حيث قال تعالى : { يَدْعُونَ رَبَّهُم بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ } . وهذا هو الأصل الذي يرجع إليه كل قول فيه )(3) .
وقال أبو نعيم الأصبهاني المتوفى 430هـ في حليته :
أبو نعيم الأصبهاني المتوفى 430هـ في حليته :
واشتقاقة من حيث الحقائق التي أوجبت اللغة فإنه تفعل من أحد أربعة أشياء , من الصوفانة , وهي بقلة رعناء قصيرة , أو من صوفة وهي قبيلة كانت في الدهر الأول تجيز الحاج وتخدم الكعبة , أو من صوفة القفاء وهي الشعرات النابتة في متأخره , أو من الصوف المعروف على ظهور الضأن )(4) .
وقال مرجحا كونه مأخوذا من الصفاء :
( اشتقاقه عند أهل الإشارات والمنبئين عنه بالعبارات من الصفاء والوفاء )(5) .
وذهب إلى هذا الرأي فريد الدين العطار المتوفى 586 هـ تقريبا نقلا عن بشر الحافي(6) .
وكذلك الصوفي الهندي الملقب بكنج شكر المتوفى 669 هـ(7) .
ولكن السهروردي الذي فصل القول في هذا يرى رأيا آخر , وهو أنه مشتق من الصوف ولبسه , فإليكم ما قاله في كتاب ( عوارف المعارف ) في الباب السادس تحت عنوان : ذكر تسميتهم بهذا الاسم :
( أخبرنا الشيخ أبو زرعة طاهر بن محمد بن طاهر , وقال أخبرني والدي , قال أخبرنا أبو علي الشافعي بمكة حرسها الله تعالى , قال أخبرنا أحمد بن إبراهيم , قال أخبرنا أبو جعفر محمد بن إبراهيم , قال : أخبرنا أبو عبد الله المخزومي , قال حدثنا سفيان عن مسلم عن أنس بن مالك , قال : كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يجيب دعوة العبد ويركب الحمار ويلبس الصوف , فمن هذا الوجه ذهب قوم إلى أنهم سموا صوفية نسبة لهم إلى ظاهر اللبسة , لأنهم اختاروا لبس الصوف لكونه أرفق ولكونه كان لباس الأنبياء عليهم السلام .
وروى عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال : ( مر بالصخرة من الروحاء سبعون نبيا حفاة عليهم العباء يؤمون البيت الحرام ) .
وقيل : إن عيسى عليه السلام كان يلبس الصوف والشعر , ويأكل من الشجر ويبيت حيث أمسى .
وقال الحسن البصري رضي الله عنه : لقد أدركت سبعين بدريا كان لباسهم الصوف , ووصفهم أبو هريرة وفضالة بن عبيد فقالا : كانوا يخرون من الجوع حتى يحسبهم الأعراب مجانين , وكان لباسهم الصوف حتى إن بعضهم كان يعرق في ثوبه فيوجد منه رائحة الضأن إذا أصابه الغيث . وقال بعضهم : إنه ليؤذيني ريح هؤلاء , أما يؤذيك ريحهم يا رسول الله صلى عليه وسلم بذلك , فكان اختيارهم للبس الصوف لتركهم زينة الدنيا , وقناعتهم بسد الجوعة وستر العورة , واستغراقهم في أمر الآخرة , فلم يتفرغوا لملاذ النفوس وراحاتها , لشدة شغلهم بخدمة مولاهم , وانصراف هممهم إلى أمر الآخرة , وهذا الاختيار يلائم ويناسب من حيث الاشتقاق , لأنه يقال ( تصوف ) إذا لبس الصوف , كما يقال ( تقمص ) إذا لبس القميص .
ولما كان حالهم بين سير وطير لتقلبهم في الأحوال وارتقائهم من عال إلى أعلى منه , لا يفيدهم وصف ولا يحسبهم نعت , وأبواب المزيد علماً وحالاً عليهم مفتوحة , وبواطنهم معدن الحقائق ومجمع العلوم , فلما تعذر تقيدهم لتنوع وجدانهم وتجنس مزيدهم , نسبوا إلى ظاهر اللبسة . وكان ذلك أبين في الأشارة إليهم , وأدعى إلى حصر وصفهم , لأن لبس الصوف كان غالبا على المتقدمين من سلفهم , وأيضا لأن حالهم حال المقربين كما سبق ذكره , ولما كان الإعتزاء إلى القرب وعظم الإشارة إلى قرب الله تعالى أمر صعب يعز كشفه والإشارة إليه .. وقعت الإشارة إلى زيهم سترا لحالهم وغيرة على عزيز مقامهم أن تكثر الإشارة إليه وتتداوله الألسنة , فكان هذا أقرب إلى الأدب , والأدب في الظاهر والباطن والقول والفعل عماد أهل الصوفية .
وفيه معنى آخر : وهو أن نسبتهم إلى اللبسة تنبئ عن تقللهم من الدنيا وزهدهم فيما تدعو النفس إليه بالهوى من الملبوس الناعم , حتى إن المبتدئ المريد الذي يؤثر طريقهم ويحب الدخول في أمرهم يوطن نفسه على التقشف والتقلل , ويعلم أن المأكول أيضا من جنس الملبوس فيدخل في طريقهم على بصيرة , وهذا أمر مفهوم معلوم عند المبتدئ , والإشارة إلى شيء من حالهم في تسميتهم بهذا أنفع وأولى , وأيضا غير هذا المعنى مما يقال إنهم سموا صوفية لذلك يتضمن دعوى وإذا قيل سموا صوفية للبسهم الصوف كان أبعد من الدعوى , وكل ما كان أبعد من الدعوى كان أليق بحالهم , وأيضا لأن لبس الصوف حكم ظاهر على الظاهر من أمرهم , ونسبتهم من أمر آخر من حال أو مقام أمر باطن , والحكم بالظاهر أوفق وأولى , فالقول بأنهم سموا صوفية للبسهم الصوف أليق وأقرب إلى التواضع , ويقرب أن يقال : لما أثاروا الذبول والخمول والتواضع والإنكار والتخفي والتواري , كانوا كالخرقة الملقاة والصوفية المرمية التي لا يرغب فيها ولا يلتفت إليها , فيقال ( صوفي ) نسبة إلى الصوفة , كما يقال ( كوفي ) نسبة إلى الكوفة , وهذا ما ذكره بعض أهل العلم , والمعنى المقصود به قريب ويلائم الإشتقاق , ولم يزل لبس الصوف اختيار الصالحين والزهاد والمنشقين والعباد .
أخبرنا أبو زرعة طاهر عن أبيه , قال أخبرنا عبد الرزاق بن عبد الكريم , قال أخبرنا أبو الحسن محمد بن محمد , قال حدثنا أبو علي بن إسماعيل بن محمد , قال حدثنا الحسن بن عرفة , قال حدثنا خلف بن خليفة عن حميد بن الأعرج عن عبد الله بن الحارث عن عبد الله بن مسعود رضي الله قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : يوم كلم الله تعالى موسى عليه السلام كان عليه جبة صوف وسراويل صوف وكمه من صوف ونعلاه من جلد حمار غير مذكى .
وقيل : سموا صوفية لأنهم في الصف الأول بين يدي الله عز وجل بارتفاع هممهم وإقبالهم على الله تعالى بقلوبهم ووقوفهم بسرائرهم بين يديه . وقيل : كان هذا الاسم في الأصل صفوي , فاستثقل ذلك وجعل صوفيا . وقيل سموا صوفية نسبة إلى الصفة التي كانت لفقراء المهاجرين على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم , الذين قال الله تعالى فيهم { للفقراء الذين أحصروا في سبيل الله لا يستطيعون ضربا في الأرض } الآية , وهذا وإن كان لا يستقيم من حيث الاشتقاق اللغوي ولكنه صحيح من حيث المعنى , لأن الصوفية يشاكل حالهم حال أولئك لكونهم مجتمعين متآلفين متصاحبين لله وفي الله , كأصحاب الصفة , وكانوا نحوا من أربعمائة رجل لم تكن لهم مساكن بالمدينة ولا عشائر , جمعوا أنفسهم في المسجد كاجتماع الصوفية قديما وحديثا في الزوايا والربط , وكانوا لا يرجعون إلى زرع ولا ضرع ولا إلى تجارة , كانوا يحتطبون ويرضخون النوى بالنهار , وبالليل يشتغلون بالعبادة وتعلم القرآن ( تلاوته ) وكان رسول الله صلى اله عليه وسلم يواسيهم ويحث الناس على مواساتهم ويجلس معهم ويأكل معهم , وفيهم نزل قوله تعالى : { وَلاَ تَطْرُدِ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُم بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ } وقوله تعالى : { وَاصْبِرْ نَفْسَكَ مَعَ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُم بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ } ونزل في ابن مكتوم قوله تعالى : { عَبَسَ وَتَوَلَّى (1)أَن جَاءهُ الْأَعْمَى } وكان من أهل الصفة , فعوقب النبي صلى الله عليه وسلم لأجلة , وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا صافحهم لا ينزع يده من أيدهم , وكان يفرقهم على أهل الجدة والسعة يبعث مع كل واحد ثلاثة ومع الآخر أربعة , وكان سعد بن معاذ يحمل إلى بيته منهم ثمانين يطعمهم .
وقال أبو هريرة رضي الله عنه : لقد رأيت سبعين من أهل الصفة يصلون في ثوب واحد , منهم من لايبلغ ركبتيه , فإذا ركع أحدهم قبض بيديه مخافة أن تبدو عورته . وقال بعض أهل الصفة : جئنا جماعة إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وقلنا يا رسول الله أحرق بطوننا التمر فسمع بذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم فصعد المنبر ثم قال : ما بال أقوام يقولون أحرق بطوننا التمر , أما علمتم أن هذا التمر هو طعام أهل المدينة وقد واسونا به وواسيناكم مما واسونا به , والذي نفس محمد بيده إن منذ شهرين لم يرتفع من بيت رسول الله صلى الله عليه وسلم دخان للخبز , وليس لهم إلا الأسودان الماء والتمر .
أخبرنا الشيخ أبو الفتوح محمد بن عبد الباقي في كتابه , قال : أخبرنا الشيخ أبو بكر بن زكريا الطريثيثي قال أخبرنا الشيخ أبو عبد الرحمن السلمي , قال حدثنا محمد بن محمد ابن سعيد الأنماطي , قال حدثنا الحسن بن يحى بن سلام , قال حدثنا محمد ابن علي الترمذي , قال حدثني سعيد بن حاتم البلخي , قال حدثنا سهل بن أسلم عن خلاد بن محمد عن أبي عبد الرحمن السكري عن يزيد النحوي عن عكرمة عن ابن عباس رضي الله عنهم قال : وقف رسول الله صلى الله عليه وسلم يوماً على أهل الصفة فرأى فقرهم وجهدهم وطيب قلوبهم فقال ( أبشروا يا أصحاب الصفة فمن بقي منكم على النعت الذي أنتم عليه اليوم راضيا بما هو فيه فإنه من رفقائي يوم القيامة ) .
وقيل : كان منهم طائفة بخراسان يأوون إلى الكهوف والمغارات ولا يسكنون القرى والمدى , ويسمونهم في خراسان شكفتية , ( لأن شكفت) اسم الغار , ينسبونهم إلى المأوى والمستقر وأهل الشام يسمونهم جوعية , والله تعالى ذكر في القرآن طوائف الخير والصلاح فسمى قوما أبرارا وآخرين مقربين , ومنهم الصابرون والصادقون , والذاكرون , والمحبون , واسم الصوفي مشتمل على جميع المتفرق في هذه الأسماء المذكورة , وهذا الاسم لم يكن في زمن رسول الله صلى الله عليه وسلم , وقيل كان في زمن التابعين .
----------------------------
1. ( التعرف لمذهب التصوف ) للكلاباذي ص 28 – 34 تحقيق محمود أمين النواوي الطبعة الثالثة 1400 هـ مكتبة الكليات الأزهرية . القاهرة .
2. هو أبو العباس أحمد بن محمد بن زروق : علم من أعلام الصوفية , وإمام من أئمة أهل الحقيقة ( أنظر الصفحة الفوقانية لكتاب قواعد التصوف ) .
3. ( قواعد التصوف ) لابن زروق الطبعة الثانية ص 293 ط 1396 هـ مكتبة الكليات الأزهرية القاهرة , أيضا ( لطائف المنن ) لابن عطاء الله الأسكندري ط مطبعة حسان مصر , أيضا ( الدر الثمين , والمورد المعين ) لمحمد بن أحمد المالكي ج 2 ص 169 مصطفى البابي الحلبي 1954 م . أيضا ( إيقاظ الهمم في شرح الحكم ) لأحمد بن عجيبة الحسني ط مصطفى البابي الطبعة الثالثة 1982 م .
4. ( حلية الأولياء وطبقات الأصفياء ) للأصبهاني ج 1 ص 17 ط دار الكتاب العربي ببيروت الطبعة الثالثة 1400 هـ .
5. نفس المصدر .
6. ( تذكرة الأولياء) للعطار ص 68 ط باكستان .
7. أنظر ( أسرار الأولياء ) ص 129 ط باكستان الطبعة الثالثة 1983 م .
---------------------------------